(كوني المهتمين بالقسم الفرنسي من أعمال الخالدين الأميرين #جلادت# و#كاميران بدرخان# كان مقررا أن أشارك في مهرجان الأمير جلادت بدرخان الأول مع زميلي كوني رش وبرز و محمود ولكن لم استطع الحضور وهذه المادة المترجمة من الكردية كانت مادة مشاركتي):
كيف بنى الفرنسيون أسس لغتهم من لهجات مختلفة ؟ كيف طوروها عبر الزمن؟ ولماذا بدؤوا بنشرها بين الأمم؟ هذه الأسئلة وغيرها لم يفكر أحد بها من الكرد قبل الأمير جلادت أمين عالي بدرخان الذي أدرك قبل غيره أن الشعوب ترتبط بلسانها وتضيع بضياع لغتها فأسس في بيته أكاديمية اللغة الكردية وكانت هاوار HAWARالناطق الرسمي باسمها.
في القسم الفرنسي من العدد الأول من هاوار يقول الأمير جلادت بدرخان: هدفنا من إصدار هاوار هو نشر العلم بين الشعب الكردي وهذه فرصة كبيرة للأجانب كي يتعلموا اللغة الكردية والأدب الكردي.
أخذ الأمير جلادت بدرخان على عاتقه عملاً جباراً وعظيماً لتحقيق هذا الهدف وبدأ بنشر الألفباء الكردية اللاتينية والصوتيات وقواعد النحو والتراث الشعبي والفكر والادب والدين والموسيقا وجغرافية و تاريخ كردستان.
وهكذا كان الأمير معاصراً لزمنه، كطبيب عرف المرض جيداً وامتلك الدواء، فيقول ضمن القسم الفرنسي من العدد الأول:
نحن الكرد نسير نحو الحضارة، نحب أن نكون عصريين، واختيارنا للألفباء اللاتينية هو أحد مظاهر هذا التقدم. في الوقت الحالي نحن مختلفون عن الأوربيين بأخلاقنا وعاداتنا ولباسنا وكذلك بصفاتنا. لكن ما من شعب حرر المرأة في الشرق مثل الشعب الكردي، هذه المرأة التي تحل محل زوجها عندما يغيب عن البيت حتى إنها تستطيع أن تتزعم العشيرة وتقودها.
كانت نظرة الأمير في هذا الموضوع عميقة وبعيدة، وكان يدرك بأن الزمن كفيل بتغيير أمور كثيرة فيقول: هذه العادات ليست محل سعادتنا مقارنة بما يشهده العالم من حضارة وتطور اجتماعي، لكن ذلك كله سيتغير في المستقبل. إن الشعب الذي يريد أن يصبح عصرياً ومتقدماً يجب عليه يقبل أحدث أشكال الحياة، لأن الأشكال القديمة تبقى ثقافة خالصة، لكن الأشكال الحديثة تصبح حضارة عامة للعالم كله.
إن المقارنات التي يجريها الأمير جلادت بين صوتيات كل من الكردية والفرنسية والرومانية والألمانية واليونانية دليل على أنه عالم لغوي كبير، لقد اطلع على المدارس اللغوية لكي يستفيد منها ويستخدمها في عمله وخاصة بنيوية فيرديناند دو سوسير(1). لذا نقرأ الكثير من المصطلحات اللغوية الخاصة في دراساته مثل : phonétique(علم الأصوات) ،phonologie(علم النظم الصوتية)، étymologie(علم الاشتقاق) ،(3)diachronie و (2)synchronie. الجدير بالذكر إن الأمير قد وصل إلى العدد الخامس عشر من هاوار(القسم الفرنسي) حتى أتم دراسته عن الصوتيات في اللغة الكردية.
لقد شرح الامير جلادت بدرخان كل أنواع الأدب الشعبي الكردي (الشفاهي) للفرنسيين مثل : الشعر والقصة والقصة القصيرة والأغاني والملاحم وغير ذلك... كان هدفه أن يبين للفرنسيين: أن الكرد هم أصحاب ثقافة وأصحاب لغة متميزة، وهي من أعرق لغات بلاد ما بين النهرين.
مرت اللغة الفرنسية في بداياتها بظروف كتلك التي مرت بها لغتنا الكردية حديثاً، في فرنسا كانت اللغة اللاتينية هي اللغة الرسمية في القرن السادس عشر، وكان هناك لهجتان رئيسيتان هماla langue d'oïl في شمال فرنسا la langue d'ocفي جنوبها . ولهجتان ثانويتان أيضاً هما le picard – le normand. بمعنى أن الفرنسيين في كل أنحاء فرنسا كانوا يتحدثون بأربع لهجات، وكان هناك شعراء (شعبيون) في ذلك الوقت ويسمون troubadours و trouvèresهؤلاء الشعراء كانوا ينظمون القصائد ويغنونها مع لحن أو بدونه. ثم جاء المتنورون وعلماء اللغة فجمعوا هذه الأعمال الشعرية واعتمدوا عليها في وضع أسس لغة مستقلة لتصبح بعد زمنٍ لغةً لأدبٍ هو الأكثر شهرة في العالم.
وهكذا فقد شهد القرن السادس عشر بروز عالمين يعتبران أبوين للغة الفرنسية، وهما:
1- دي بيلي Du Bellayالذي نشر عام 1549كتابه(الدفاع عن اللغة الفرنسية وإيضاحها(Défense et Illustration de la langue français)
2- بيير رونسار الذي جمع حوله عدداً من الشعراء وأسس مدرسة البلياد (la Péiade).
هاتان الشخصيتان دعيا الشعب إلى التحدث بالفرنسية والكتابة بها أيضاً.
كان الأمير جلادت بدرخان قد أدرك كل ذلك ودرسه وانشغل به جيداً لذا كان يجتمع في منزله المغنون من أرجاء كردستان كافة، كان يستمع إليهم ويكتب كلمات أغانيهم لينشرها فيما بعد كما هي، مترجماً بعضها إلى الفرنسية مع وضع الشرح والتعليق إذا كان ضرورياً. من هؤلاء نذكر أحمد فرمان من عشيرة كيكان ومشو وخدو من عشيرة برازان (كوباني- المترجم) ومريم خان من بوتان وغيرهم كثيرون...
عند ترجمة أغنية ZerȋKubarêإلى الفرنسية في العدد الرابع يقول الأمير: أخذت كلمات هذه الأغنية من فم مغنٍ من منطقة بنجيناران Pencȋnaranونشرتها كما سمعت تماماً دون أن أغير كلمة واحدة. غايتي هي أن انشر كل اللهجات الكردية، وهذه فرصة للفرنسيين حتى يتعلموا اللغة الكردية. دأب الأمير على شرح جميع اللهجات الكردية وأجرى بينها المقارنات الدقيقة قبل البدء بعمله الضخم. لقد كانت تضحية لا تنتهي.
الجدير بالذكر إن اللغة الفرنسية قد أصبحت اللغة الرسمية في فرنسا خلال القرن السابع عشر(4). وفي القرن الثامن عشر وضع علماء اللغة الفرنسيون القواعد النهائية للكتابة orthographeبعد تأسيس الأكاديمية الفرنسية l'Académie françaiseهذا يعني أن العمل قد دام ثلاثمائة عام. تعالوا إذاً لنتأمل عظمة أميرنا جلادت أمين عالي بدرخان.
اختار الأمير كل ما ترجمه إلى الفرنسية بعناية، وأحد هذه الأعمال هو (دلال البرية) Delalê Beriyê، هذه الملحمة التي تشبه بمعظم أحداثها أحداث ملحمة فرنسية كلاسيكية هي (أغنية رولاند) La Chanson de Rolandتلك القصة المشهورة التي تعود إلى القرن الرابع عشر. القصتان تتميزان بعناصر مشتركة كالسمة الغنائية والبطولة والحب. اعتمد الأمير على عناصر الشبه بين الملحمتين فأراد أن يفتح للأجانب كنوز الأدب الشعبي الكردي حتى يقول لهم إن للكرد ثقافة وإن لدى الكرد ما لدى الآخرين من تراث وأدب.
كان الأمير جلادت بدرخان في الواقع رمزاً للغة الكردية وثقافتها وآدابها في الشرق الأوسط، وبتأثيره تعلم العديد من الأجانب اللغة الكردية مثل بيير روندو وروجيه ليسكو الذي كتب أيضاً في مجلة هاوار.
أرسل الدكتور الأرمني ج. ميشليان من حلب رسالة إلى هاوار وصاحبها (في القسم الفرنسي من العدد العاشر) ليبارك للأمير عمله في وضع الحروف الكردية اللاتينية فيقول:
عزيزي الأمير: ... لقد خطوتم خطوة جبارة على طريق التطور وذلك بتبنيكم الحروف اللاتينية للغتكم الآرية، إنكم بذلك سهلتم نشر الكتابة بين الشعب. أنا متأكد بأنكم الآن تسيرون بخطى صحيحة وواثقة نحو نهضة اللغة الكردية وآدابها، قد لا يقدر معاصروك كل جهودك العظيمة كما تستحق، لكن الأجيال التي ستتبعهم ستعترف لك بجميلك إلى الأبد...
الأمير جلادت وأخيه الدكتور كاميران بدرخان هما نجمتان في سماء كردستان، إنهما رمز الثقافة الكردية. وإذا تأملنا أعمالهما بضمير وبنظرة عميقة، ينبغي أن نجعل من صحيفة هاوار وصاحبها أساس الموسوعة الكردية وأن نرى الأمير جلادت أباً لإحياء اللغة الكردية والفكر الكردي في القرن العشرين.[1]
_________________________________________________________
(1)دو سوسير Ferdinand de Saussure(1857-1913) عالم لغوي سويسري يعتبر مؤسس اللسانيات الحديثة والبنيوية structuralisme
(2) المصطلح يعني دراسة اللغة في وقت ما محدد من تطوره.
(3)هذا المصطلح يعني دراسة اللغة وتطورها عبر العصور.
(4) كانت اللاتينية هي اللغة الرسمية لفرنسا حتى عهد الملك لويس الرابع عشر.