بقلم: #دلشا يوسف#*
تتسم نصوص (القمر البعيد من حريتي)للشاعر #لقمان محمود# بجمالية متفردة، ولغة تدفع بالبعد الحسي إلى ملامسة الحقيقة و إختراق تفاصيلها الطافحة بالقسوة الموحشة على مدى عمر من المنفى والقهر. وكل ذلك من خلال مخيلة مشحونة برؤى تدفعها إليها ذاكرة حية تنهض على ملاحقة الماضي بكل همومها اليومية.
وهو استكمالٌ لمشروع لقمان محمود في مجال الشعر، حيث سبق أن صدرت له في هذا المجال: أفراح حزينة،عام 1990. خطوات تستنشق المسافة: عندما كانت لآدم أقدام،عام 1996. دلشاستان، عام 2001.
كما سبق أن صدر له في مجال النقد: إشراقات كردية: مقدمة للشعر في كردستان، مراتب الجمال، وترويض المصادفة.
إنها خاصية الشاعر لقمان محمود المسكون دائماً بالخوف من الفرح، بإعتباره – الفرح - وهم يتجلى فقط من خلال النسيان. إن وعي الشاعر بأوهامه مظهر من مظاهر مجابهة المنفى. ويمكننا متابعة ذلك من خلال قصيدة جسارة السر التي تقول:
تبقى الفراشة
أميّة
حتى تتعلم
قراءة النار
دون أن تحترق.
يستند الشاعر في هذه المجموعة الجديدة على عناصر متعددة في عملية البناء الفني، بدءاً من عنصر الرمز، ومروراً بالحكايات الحافلة بالإشارات. فالشاعر يستدعي خطابا سرياً يتداخل فيها الماضي بالحاضر، والواقع بالاسطورة، كما في قصيدة الذي لم يتعلم الغرق:
واقفٌ بأعوامي الأخيرة
أسور الأغنيات كبستانيّ
لإمرأةٍ من الفاكهة
لكن الهواء مرّ أخيراً
مرّ كسؤال أزرق
إلى حيث البحر
فصرتُ أمشي.. أمشي
و ما زلتُ أمشي على الماء
و لم أتعلّم الغرق.
إن هذه القصيدة ليست بالضرورة ناتجةً عن اليأس بل أن شكلاً من أشكال الإلتزام بالأمل،يدفع الرؤيا الشعرية كي تميل إلى الانكفاء على الذات، حيث تتعدد المشاهد وتتنوع من أجل نقل هموم الذات وأشجانها في تكثيف شعري أخاذ. فاللافت في هذه القصيدة هو دقة التركيب واقتصاد الجملة الشعرية، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن معظم نصوصهذه المجموعة، على رغم راهنية مضامينها، طغى عليها نوع من التشبث بالماضي، بسبب العلاقة بين اللحظي والجمالي و بين الذات والأنا، وكأن الأمر هو لحظة استثنائيةيضيف بعداً آخر للشعر،كنوع من الانتصار للحنين في انتحاره بمجرى نهر المرأة.
إنها صور متمازجة يدفع الشاعر بمشهديته الشعرية عبر متواليات تتراسل من خلال ثيماتها بما يمكن تسميتها بالتخطيطات الإدراكية التي تنتهي في بؤرة نصية شعرية حدسية في مراحلها التحولية في تمثيل الوجود، مأخوذاً بلغة متلهفة بالرغبات، رغبة الذات في الإنتقال من حال إلى حال، و رغبة التجاذبات مع الآخر. رغبات غير منتظرة في التعرف على المرئي و اللامرئي، في الزائغ و المنفلت من خلال الإصغاء العميق لصوت الذاكرة.
إن تجربة الشاعر في ( القمر البعيد من حريتي) هي تجربة إنسانية زاخرة بعوالم فنية رائعة، تسهم في تشكيل الذائقة الشعرية الجديدة. فالقصيدة لديه تزخر بالمعاني الإنسانية المتأتية من معاناته الشخصية و التي عبَر عنها بمستويات لغوية أدائية متعددة، فضلاً عن أفقها الإبداعي و الجمالي. فلدى الشاعر أشياء كثيرة و عميقة يقولها في مجموعته هذه، و هو يقولها بإيجاز و تأثير و بحب كبير:
لقد بكيتُ كثيراً
لكنّ دموعي الآن باسمة
و قلبي عصفور
يعلو أكثر منك
و أكثر من حقيقة الشجرة.
لا أجامل فيكِ المستحيل
بل أجامل حياتي المقيدة
ساعديني...ساعديني
كي أتحرر منكِ ومني
ومن أشواقي المحاربة.
لا تقولي إنتهت الحرب:
فحياتي جيش
ما زالت تناديكِ بالقائدة.
إستطاع الشاعر - في هذه القصيدة - بما إمتلكه من قدرات شعرية غنية أن يعبر عن ذاته، و أن يحول تجربته العاطفية إلى نص شعري متألق، و أن يضع هذا الحب إلى أعلى مراتب الإنسانية.
فالكتابة نور ينتجه الشاعر. إنها الدفاع الأصيل عن الوجود أمام العدم و الزوال و كل أنواع الإنتهاء.. و هذا دليل على إن المعجزات لا تزال تحدث، و إن كل إنسان يمكنه ان يحقق معجزة حياته في الحب.
و هنا أحبُّ أن أنقل ما قاله الروائي تشارلز دكنز في الآمال العظيمة: يحتاج الأمر أن لا نخجل أبداً من دموعنا. و هذا ما فعله لقمان محمود في قصيدته التي إنفتحت على عمق دلالي إحساسي من خلال وسائل تعبيرية ساهمت في تشكيل الصورة الشعرية التي تقوم على أنسنة هذا الحب و منحه بعداً إنسانياً. فلا غرابة حينما يمتزج الآني بالتاريخي، و الحاضر بالماضي و الجديد بالقديم، طالما يحمل قدراً كبيرا من معطيات الذاكرة الجمعية، كما في قصيدة حريق قلق التي تقول:
أسمع حنيني الخجول كالفضيحة
أسمع ثرثرته:
أن شهيداً من بَرْكفر نهض من دموع قدميكِ،
و اتجه صوب المدرسة، و إنه أعطى حياته للتلاميذ،
و أنه مشى مسافة عشرة كيلومترات، و إنه شمكِ،
ليقول: عرقك ملح عطر، و إختفى دمعتين في عينيكِ.
عودي
كي تقولي- رغم هذه الحرب- أنا جميلة
لأقول: لأنني أحبكِ.
ع
و
د
ي
كي أقبّل الوطن في قدميكِ.
الحب هو أفضل وسيلة لصناعة الحياة و الجمال، فأن تحب تجعل كل ما حولك حياً و جميلاً. لذلك فإن الشاعر الحقيقي هو الذي يعطي المعنى لوجودنا و حياتنا، و هو الذي يجعلنا أرقى و أرهف في التعاطي مع أنفسنا، و مع الناس من حولنا. رغم أن الناس يصبحون أكثر شغفاً بالحياة وتوتراً في لحظات الخطر - الحروب، خصوصاً عندما تصبح المقاومة دفاعاً عن حق الانسان في الحياة، وليس فقط حقه في الموت !
بهذا المعنى تبدو قصيدة حريقٌ قلق واحدة من القصائد الأساسية في الديوان وبفضلها تحرر «الجمالي» من قيود الحب الكلاسيكي ليصبح تعبيراً عن الحياة كلها.
إن هذا الشعر يظهر مدى قوّة المفاهيم النضالية وعمق تجسيدها ووعييها وشدة ارتباطها كمنظومة انسانية بالتغيرات الكبرى في تاريخ الامة الكردستانية. لذلك فإن (القمر البعيد من حريتي) ليست بعيدة عن الحدث الوطني والسياسي، ولا عن التطور القومي للشخصية الكردية، ولا عن مفردات الرؤية الجمالية لحركة الحداثة.وهي خاصية شعر لقمان محمود ، التي تتراوح بين الأنغام المختلفة، والمستويات اللغوية المتعددة، والحالات التي تجسد التمثيل الجمالي للحياة الحقيقية.
إن قصائد (القمر البعيد من حريتي) تدفع إلى الكشف عن ثيماتها بهذا التواشج بين رؤى الحياة في معناها المشرق و الإنساني الشفاف المشع و المشبع بمفردة الحب على إمتداد مساحة الديوان و تستثمر هذه المزاوجة بالمحاكاة و إنتاج هوية النص الذي يتشرب حرية الأشياء و قلق الأمكنة و العبور إلى ضفة المعنى و إصطياد المعاني التي تتنوع بها الذات الشاعرة.
فلقمان محمود يملك تاريخاً طويلاً من التعامل مع الشعر يمتد إلى ثلاثة عقود، لذا فإن إصداره الشعري الجديد، و المعنون ب ( القمر البعيد من حريتي) يمتلك أساساً جديداً في تأسيس بنية شعرية متماسكة تميل إلى الإنسجام، و تفارق التقاليد الشعرية في الشعر الكردي القديم و الجديد، من خلال السيطرة على الماضي.. سواء أكان هذا الماضي هو الحب، أو الوطن، أو الثورة، أو الأمل، أو الحلم..إلخ.
لذلك ليس غريباً أن تطفح لغة لقمان محمود بالمفردات الدالة على المكان الكردي فشعره نفسه مغموس في أغوارها وأصقاعها. إن المفردات المكانية راسخة في (القمر البعيد من حريتي)، أمثال: بركفر، جطلي، كري شرمولا، كولا عنتر، نهر خنزير، عامودا، المسلخ، القبور، عوينيكي.. إلخ. وهذه الأماكن مغروسة في الذات الكردية بوصفها هوية للكائن ذاته. خاصة عندما تتأمل هذهالذات الفردية في مصيرها ومصير هذه الاماكن بصيغة الجمع، بإعتبارها غير منفصلة عنها في الجغرافيا المكانية ولا بجغرافيا الزمن المرتبطة بمصائرها وأمجادها.[1]
*شاعرة وناقدة ومترجمة