عوفرا بنغيو
ترجمة: مصطفى إسماعيل
“رسائل من كوردي” هي أول رواية كوردية تُنشرُ باللغة الإنكليزية، وهي إضافةٍ إلى اتخاذها حقبة صدام حسين في السنوات الحرجة من عام 1971-1988 كخلفيةٍ تاريخية وسياسية، فإنها أيضاً تصوّر حياة فتى كوردي بين سن الخامسة والسابعة عشرة. يكبرُ البطل مريوان رشابه الملقب ب ماري في كركوك الغنية بالنفط في ظروف الاضطهاد القاسية في عهد صدام. حيث انطوى العهد على إجراءات التعريب ومحاولات القتل اللغوية من خلال حظر استخدام اللغة الكوردية ودراستها، ناهيك عن الكتابة الأدبية الكوردية والتطوير الفني. كان التعريب سياسة رئيسية لحزب البعث، ذلك الحزب السياسي العربي الذي استولى على السلطة في العراق وسوريا في الستينيات. وكان الهدف هو إجبار غير العرب على تبني الهوية والثقافة العربيتين وبالتالي صهرهم.
تُطبعُ حياة مريوان بالمأساة منذ طفولته. الناس المُقرّبون منه وبينهم جده وإخوته يُقتلون، ويتعرضون لميتاتٍ مروعة وغير قابلة للتفسير. صديقته المسيحية عايدة تُقتلُ على يد أبو علي، أحد أزلام صدام، ليس لأيّما سبب سوى الوحشية المطلقة. على مدار صفحات الرواية يصبح مريوان نفسه هدفاً لمخابرات صدام. لكنه ورغم حداثة سنه يواجههم ويثأر منهم.
يتم تخفيف أثر هذه الأحداث المؤلمة من خلال قدرة مريوان على الهرب من كآبة ظروفه إلى عالمٍ من السحر والمغامرة. إن تجاربه الرومانسية الناشئة وصداقاته القوية مع الكورد المنفتحين والأصدقاء غير المسلمين مثل “بوب كورن”، وهو صبي إيزيدي يضايقه الأولاد المسلمون، تغني حياته أيضاً. هناك أيضاً فواصلٌ فكاهية: حين يكتشف شه مال (معلم مريوان) مواهب مريوان الفنية، ويعرّفه إلى عالم جديد وحديث، أو حين يخاطر مريوان بمشاهدة أفلام ممنوعة. شغف مريوان بالسينما يطغى على كامل الكتاب الذي يتجلى بنفسه كفيلم.
من خلال تجارب مريوان الشخصية، يروي الروائي بهار قصة الأمة الكوردية: تاريخها وأساطيرها والثقافة الفريدة التي تميزها عن المجتمع العربي المحيط بها. هو يُحيي حكايا خرافية وأساطير مثل قصة الأميرة شوا، ويمزجُ الشخصي بالتاريخي. قصة إبداعية ومشوقة مع حقائق سياسية. جديرٌ بالملاحظة إلى أنه من نواح عديدة فإن قصة مريوان تعكس قصة بهار نفسه. وُلد بهار في كركوك، واضطر لمغادرة مدينته الأم في سن مبكرة، وهو منفي اختيارياً في بريطانيا التي توفر له ملاذاً من الاضطهاد.
تم تصدير الرواية بمثلٍ عربي مشهور يُصوّر الكورد كوباء: “هناك ثلاثة أوبئة في العالم: الكورد والجرذ والجراد”. يصف المشهد الأول من الكتاب مريوان مُقدماً “صورة معكوسة” للتي للكورد: “العربي البشع”. هناك سياقٌ لذلك في الرواية: في هذا المشهد الأول، يُحتجز مريوان البالغ من العمر 16 عاماً في زنزانة اعتقال، ويُغتصب بوحشيةٍ وبشكل مُتكرر من قبل هذا “العربي البشع”. مصدوماً، يرغبُ مريوان في الموت. لكن بشكل أو بآخر يجدُ طريقة لتخفيف عذابه. يؤلفُ رسالة خيالية لبطله “غرينغو” -الممثل الأمريكي كلينت إيستوود- طالباً مساعدته في اختطافه من زنزانته ونقله إلى أرض أحلامه، أمريكا. هذه هي الرسالة الأولى من بين عديد الرسائل التي يؤلفها مريوان من أجل غرينغو، مشاركاً إياه حبه البالغ للسينما، وكذلك أسراره العميقة.
تُفيدُ هذه الرسائل برغبةِ مريوان القوية في التواصل مع الغرب والثقافة الغربية. إنها تُظهرُ اعتقاده، أنه سوف يكون قادراً في الغرب على التمتع بحرية ممارسة الأنشطة الفنية المحظورة في مجتمعه المسلم المحافظ، وفي النهاية تحقيق طموحاته: أن يصبح مخرج أفلام، راقصاً، ومغنياً.
سواء أكان ذلك بوعي منه أم لا، يعكسُ الكاتب من خلال هذا الإبداع الفني الرغبة المديدة والعميقة للقيادة السياسية الكوردية في العراق في استقطاب دعم الولايات المتحدة في صراعها ضد بغداد. لقد حاول الزعيم الكردي الأسطوري الملا مصطفى البارزاني بالفعل بحلول الستينيات من القرن الماضي إيجاد قنوات اتصال مع الولايات المتحدة اعتقاداً منه بأن هذه القوة العظمى وحدها هي التي يمكن أن تساعد الشعب الكوردي الراغب في الاستقلال. إحدى هذه القنوات كانت إسرائيل التي دعمت الكورد رسمياً -ولكن على نحو سري- بين عامي 1965 و1975. وقد شق دعم إسرائيل طريقه عبر إيران، كون إسرائيل لا تملك حدوداً مشتركة مع المنطقة الكوردية. انتهى هذا الدعم عام 1975 بعد أن وقعت إيران والعراق اتفاقية الجزائر التي ألزمت إيران بوقف دعمها للكورد. بناء على ذلك، كانت إسرائيل مُجبرةً على فعل الشيء نفسه، دون التمكن من “استقطاب الدعم الأمريكي” الذي كان الكورد يصبونَ إليه كثيراً.
يُجسّد مريوان في شخصيته التعارض بين التقليد والحداثة، بين الدين والإلحاد، وبين الشرق والغرب. كان والده قد أراده أن يصبح درويشاً مسلماً ورعاً، لكنه في وقت مبكر جداً بدأ بالتمرد ضد والده المتزمت والدوغمائي والمُتطلب. من خلال شغفه بالموسيقى والفن والسينما انجذبَ مريوان إلى أناس يمثلون أقطاباً متعارضة في مجتمع طفولته البطريركي المسلم. هذه الاهتمامات أثارت حنق والده. ينعكس رفض الوالد للحداثة في تحطيمه الوحشي لكاميرا مريوان الأولى.
الصِدامُ بين هذين العالمين المُختلفين يطرحُ أسئلة فلسفية مثيرة للاهتمام متعلقة بالدين والإله. أحدُ أسئلة مريوان المتكررة هو: أين كان الله عندما ارتكب “الوحش” صدام حسين هذه الفظائع الرهيبة بحق الكورد؟ في الواقع، فإن أحد أصدقاء مريوان يُشبّه الله بصدام. الدينُ، ككل، يُنتقدُ بحدةٍ في النص. وكما تقول تعليقات البطل بمكرٍ: “الدينُ هو السرطانُ الذي أصاب شعبنا والسبب الرئيسي لمعاناتنا”.
ولكن حتى عندما يتعلق الأمر بالفظائع التي ارتكبها صدام، فإن الكاتب لا يُهوّنُ من أوجه القصور لدى الكورد أيضاً، ولا يخجل من انتقاد “مجتمعه الملتوي”. إن تأخر ووحشية هذا المجتمع مبينة في ختان صديقة مريوان البالغة من العمر خمس سنوات، ما أدى إلى وفاتها. مريوان نفسه يتعرض للاعتداء جنسياً من قبل الدراويش، ما خلف ندوباً عميقة في نفسه. في هذا المجتمع التقليدي، يُعدُّ القمعُ هو النظام اليومي بالنسبة للمرأة. فالمواقف من الجنس غير صحي إلى درجة أنه يؤدي في بعض الأحيان إلى مآسٍ، مثل انتحار “به بوله” (فراشة)، وهي الزوجة الشابة والجميلة لعم مريوان، والتي تُحرقُ نفسها حتى الموت.
لكن أكبر خللٍ في هذا المجتمع هو الخيانةُ المتفشية بين الكورد أنفسهم. وكما يشرح مريوان فإن هذا هو السبب الجذري للمأساة الكوردية، وفشلهم في إقامة دولة خاصة بهم. إن الخونة المعروفين بين الكورد ك جاش (جحوش) يتجسدون في شخصية أبو علي، أحد أزلام صدام، الذي يستهدف بلا رحمة مريوان والوطنيين الكورد الآخرين.
يمثل مريوان وعائلته وأصدقاؤه المقربون الكوردايتي/ القومية الكردية. يُعلمه أعمامه اللغة الكوردية، لأنه “لولاها، لكان قد تم إبادة الكورد”. يتحدثون أيضاً عن أهمية التعليم “من أجل نيل الحرية، وليس الأسلحة”. إنهم يطلقون على أولادهم أسماء كوردية للحفاظ على الهوية الكوردية وتطويرها ولتمييزهم عن العرب. يرى القارئ وطنية مريوان في إعجابه بالبيشمركة، رجال حرب العصابات الكورد، وفي قراره بالتطوع للقتال في حرب العصابات ضد جيش صدام رغم شبابه، وفي دعوته إلى الانفصال الكوردي عن العراق. في الحياة الواقعية، يمكن استخلاص مدى قوة القومية الكوردية من نتائج استفتاء الاستقلال الذي تم إجراؤه في إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي في سبتمبر 2017. ما لا يقل عن 93 ٪ من المصوتين أيدوا الاستقلال. لكن مجموعة كوردية صغيرة تعاونت فيما بعد مع القوى المحلية والخارجية ما أحبط هذه النتيجة.
الوطنية الكردية المُعبرُ عنها في “رسائل من كوردي” عُزّزتْ على خلفية الأحداث التاريخية المصورة في الرواية مثل نهاية الحرب الإيرانية-العراقية في الفترة 1980-1988. حيث يصف بهار مجزرة حلبجة التي تم فيها قتل حوالي 5 آلاف كوردي بالغاز الكيماوي، وحملات الأنفال التي قتل خلالها حوالي 180 ألف كوردي على يد جيش صدام. كما أنه يشير إلى قادة وشخصيات كوردية مثل الملا مصطفى البارزاني وجلال الطالباني. هذا النمط من الكتابة يحرك الرواية إلى ما يقصده الباحثون بالمزج الأدبي بين الحقيقة والخيال.
في أي نقطة من المشهد الأدبي الكوردي يمكن وضع رواية بهار؟ عموماً فإن الروايات هي محاولات أدبية حديثة في المجتمعات الكردية. هذه الحقيقة المحيرة تفترض تفسيراً. ما أسباب الازدهار المتأخر للأدب الكوردي بين ظهراني أمة موغلة في القدم ممثلة بنحو 35 مليون شخص؟ ما هي العوامل الاجتماعية-السياسية التي اعترضت نموها؟ لماذا لم يبدأ الأدب الكوردي بالوصول إلى العالم الخارجي إلا في القرن الحادي والعشرين وبشكل متواضع؟
الأدب الكوردي -والكتابة باللغة الكوردية بشكل عام- قام برحلة طويلة ومعقدة للغاية. إن الأدب الكوردي في شكله الكتابي ظاهرة حديثة جداً. في بداية القرن العشرين، كان من المعروف أن سبعة وثلاثين فقط من الأعمال الأدبية قد نجت على مدى ألف سنة من الكتابة باللغة الكوردية. وكما كتب الباحث الكوردي هاشم أحمد زاده، فإن هذه البداية المتواضعة ظهرت في الاتحاد السوفياتي، لكن كان عدد قراء تلك الكتب المنشورة هناك قليلاً.
عقبات كثيرة وقفت في طريق العمل الأدبي الكوردي المكتوب. الأهم في الواقع هو أن القرآن، الكتاب المقدس للمسلمين، مكتوب بالعربية. أبعد من ذلك، كان المتحدثون بالكوردية محاطين بالجيران الذين يتحدثون العربية والفارسية والتركية، والذين اُعتبرتْ لغاتهم أمثلةً مصقولة من ثقافة عالية، وهو ما يؤثر على الاختيارات اللغوية للكتاب الكورد. على سبيل المثال، كتب الشعراء الكورد العراقيون المشهورون بلند الحيدري وسليم بركات باللغة العربية (سليم بركات هو من كورد سوريا -المترجم). فيما كتب الكاتب الكوردي من تركيا يشار كمال والشاعرة بيجان ماتور باللغة التركية. يشار كمال هو أشهر كاتب تركي-كوردي. تم ترجمة روايته “محمد، يا صقري” إلى العبرية في 2009. بينما تكتب بيجان ماتور الشعر في المقام الأول، وألفت أيضاً كتاباً ك
ريبورتاج صحفي عن حزب العمال الكوردستاني المتمرد (تقصد كتابها: النظر إلى ما وراء الجبال -المترجم).
كانت اللغة الكوردية نفسها بمثابة حاجزٍ أمام تقدم الأدب المكتوب بها، حيث أنها خطت خطواتها الأولى نحو اللغة المعيارية فقط في نهاية القرن التاسع عشر. الأسوأ من ذلك، أن اللغة تكتب بثلاثة أبجديات مختلفة ما يعكس التشرذم السياسي للكورد: الأحرف العربية في العراق (هناك أيضاً استخدام للأحرف اللاتينية -المترجم) وإيران وسوريا (في سوريا يستخدم الكورد الأبجدية اللاتينية -المترجم)، والأحرف اللاتينية في تركيا ولدى كورد الشتات الأوروبي، والسريلية (أيضاً الكريلية -المترجم) في الاتحاد السوفياتي السابق. لكن كما أشار الشاعر سليم تمو في مقابلة أجريت معه عام 2016 على موقع عرب ليت (موقع الأدب العربي والترجمة -المترجم): “لفترة طويلة وبغض النظر عن الأبجدية التي تم استخدامها، فإن كتابة نص أدبي كوردي كانت سبباً كافياً للمقاضاة أو حتى القتل”. كل هذا كانت له آثار سلبية على ازدياد جمهور القراءة بالكوردية.
يعتبر الكورد القرن السابع عشر هو عصر الانبعاث الكوردي. وفيما شهدت تلك الفترة في الغرب أدبياً بدء الرواية أولى خطواتها. كان الشعر بشكل شفاهي ورئيسي هو المقابل في كوردستان، وقد بقي الشعر في كوردستان الوسيلة الأساسية للتعبير الأدبي حتى القرن العشرين. ويعد أحمدي خاني (1650-1706) أكثر شخص يمثل هذا الانبعاث، وهو شاعر وفيلسوف ورجل دين سعى إلى تحويل اللغة الكوردية إلى لغة مكتوبة على قدم المساواة مع اللغتين الفارسية والعربية.
أكثر أعمال خاني الأدبية شهرة هي “مم وزين” والتي أصبحت بمرور الوقت ملحمة قومية كوردية. فمن جهة أولى، تروي مم وزين قصة علاقة الحب المحكومة بالفشل بين مم من قبيلة آلان، والأميرة زين شقيقة أمير القبيلة المنافسة في بوتان التي تقع في تركيا اليوم. وكما في مسرحية روميو وجولييت لشكسبير لم يستطع العاشقان إكمالَ حبهما، ويموتان في ظروف مأساوية بنتيجة مكائد بكر، الشخصية الشريرة في القصة. يحاول بكر نفسه تجنب غضب الناس بالاختباء بين قبري العاشقين، لكن يتم القبض عليه ويقتل، يتسرب دمه في التراب ويصبح الشوكة التي تواصل فصل العاشقين. ومن ناحية أخرى أساسية أكثر، ترمز القصة إلى حالة الشعب الكوردي المقسم بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية وترثي وضعهم، ويعبر خاني فيها عن أمله في أن يظهر يوماً ملك ما في كوردستان ويقوم بتوحيد الكورد وتغيير قدرهم.
لا تزال دعوة خاني لتحويل اللغة الكوردية إلى لغة حية مكتوبة يتردد صداها في العصر الحديث. مع ذلك كانت التحديات التي واجهتها اللغة الكوردية في القرن العشرين أكثر مما كانت عليه في زمن خاني، حيث وضعت الحكومات المركزية عقبات كبيرة على طريق استخدام اللغة الكوردية. على سبيل المثال، سمحت تركيا بنشر ستة كتب فقط باللغة الكوردية بين عامي 1923 و1970، وكانت النتيجة -وفقاً للكورد- إبادة لغوية للغة الكوردية.
على الرغم من هذه العقبات الهائلة، ازدهر الأدب الكوردي خلال العقدين الأخيرين. ففي كتابها الصادر في 2015 بعنوان “تخيل كوردستان” تشيرُ أوزلم بلجيم غالب إلى أن “العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كان إلى حد ما عصراً ذهبياً للأدب الكوردي، ولا سيما منه الخطاب الروائي الكوردي”.
إن الحكم الذاتي الواسع الذي جناه كورد العراق بعد حرب الخليج عام 1991، بالإضافة إلى إلغاء القانون التركي الذي يحظر استخدام اللغة الكوردية في الفضاء العام، أسهم بشكل كبير في انتشار اللغة الكوردية المكتوبة. وكذلك فإن التوسع في الوصول إلى الإنترنت في المجتمعات الكوردية يتيح الآن للكورد التفاعل فعلياً وبحرية مع بعضهم البعض عبر حدود “وطنية” كانت عصية عليهم سابقاً.
الدور الذي لعبته النخبة الكوردية في الشتات لم يكن أقل أهمية. لقد ساهموا بقدر هائل في انتشار الأعمال الأدبية الكوردية وخاصة في أوروبا. إذ وجد العديد من المثقفين الكورد ملجأ لهم في باريس حيث أسسوا المعهد الكوردي الذي كان نشطاً للغاية في الترويج للثقافة واللغة الكوردية في أوائل الثمانينيات. وفي الآونة الأخيرة، حلت السويد محل باريس كعاصمة للأدب الكوردي، حيث تمت كتابة أو ترجمة العديد من الأعمال الأدبية الكوردية إلى اللغات الأوروبية. وفقاً ل أوزلم بلجيم غالب، فإن مائة رواية نُشرت في كوردستان تركيا والشتات بين 1984 و2010. يعتبر هاشم أحمد زاده أنه وبحلول العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وصل العدد الإجمالي للروايات الكوردية إلى ثلاثمائة رواية.
ومن المشاريع المهمة الأخرى التي قام بها المثقفون الكورد هو ترجمة الأعمال الأدبية الكوردية إلى اللغات الأجنبية. وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى رواية “شقاء الناس” التي نُشرت بالفرنسية في عام 1994، أي بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً على صدور طبعتها الكوردية الأولى. مؤلفها إبراهيم أحمد كان مثقفاً كوردياً وشخصية سياسية قيادية في كوردستان العراق في منتصف الخمسينيات والستينيات. كان النص الأصلي للرواية المحظور في ظل البعث يحظى بشعبية لدى الشباب، وكان متاحاً لهم قراءته ولكن في السر. الآن يمكن أن تقرأ تلك الرواية بحرية في العراق وقد تم أيضاً تحويلها إلى فيلم ناجح.
مثل خاني، يمزجُ إبراهيم أحمد بين الدوافع الأدبية والدوافع الإيديولوجية السياسية. بطل الرواية هو جوامر، من مدينة السليمانية التي كانت يوماً مهد القومية الكوردية. كان تم سجن جوامر عشر سنوات بسبب نزوعه القومي الكوردي. عند الإفراج النهائي عنه من السجن يكتشف أن زوجته قد توفيت أثناء الولادة وتوفي الطفل أيضاَ. الأخبار الفظيعة كانت محفوظة من لدن أصدقائه وأقاربه لأنهم لم يريدوا له أن يفقد الأمل وهو في السجن. على أية حال، فإن الظروف القاسية التي وجدها عند إطلاق سراحه من السجن أقنعته بالانضمام إلى الجيش القومي للاستقلال. ومثل خاني، يركز أحمد على الاستعباد التاريخي للكورد من قبل الدول الأخرى، وهو كذلكم الأمر يدعوهم إلى التحرر من هذه الحلقة المفرغة.
وكما هو الحال في معظم الحركات الوطنية الناشئة، فقد جرى تسييسُ الأدب وتعبئته بدرجةٍ كبيرة من أجل القضية الكوردية. على كل حال، وفي ظل الحكم الذاتي الواسع الذي تمتع به كورد العراق منذ عام 1992 تحركت الكتابة الكوردية خطوة إلى الأمام، وهناك الآن كتابٌ يجرؤون على انتقاد الحكومة الكوردية بسبب فسادها والمحسوبية وغيرها من الارتكابات. كان من شأن هذا النقد قبلُ أن يكلف الكُتّاب حيواتهم، ولكن الآن يمكن العثور عليه في أعمال إبداعية أيضاً وليس فقط في الصحافة.
أحد الأمثلة على ذلك هو الروائي بختيار علي مؤلف رواية “الغزلي وحدائق الخيال” الصادرة في 2005. الرواية عبارة عن استعراضٍ مجازي ينتقد بشكل حاد الحكومة الإقليمية الكوردية الحالية. ومن المثير للاهتمام أن الناشر دفع لبختيار علي مبلغ 25 ألف دولار مقابل حقوق النشر وطبع 10 آلاف نسخة من الكتاب، وهذا المبلغٌ لم يُسمعْ به من قبل في كوردستان العراق. ففي الماضي كان الكتاب مُلزمين بتمويل طباعة كتبهم الخاصة بسبب الرقابة الحكومية ونسبة القراء المحدودة.
رواية بهار “رسائلُ من كوردي” تتلائم في جوانب عديدة مع الإطار العام للكتابة الأدبية الكوردية، وتمزجُ الرواية مع التاريخ وتصبغها بوطنية كوردية قوية. كما أن تأثير الروائيين الكورد الآخرين مثل يشار كمال وبختيار علي واضحٌ في كتابة بهار. يلاحظ ُالمرء أيضاً تأثير هنر سليم التي يتردد صدى روايته “بندقية والدي: طفولة في كردستان” في منتج بهار. كذلكم الأمر، يسير بهار على خطى بعض أسلافه في اختيار عدم كتابة روايته بلغته الأم الكوردية، ولكن يكتبها بالإنكليزية، ومن الواضح أن ذلك تم بهدف الوصول إلى جمهور أوسع وتقديم صوت الكورد للعالم.
ربما يكون القراء الإسرائيليون من بين هؤلاء القراء المفترضين، فلقد قدم كاي بهار الذي هو أيضاً مخرج أفلام نفسه للجمهور الإسرائيلي من خلال فيلمه “لا أصدقاء سوى الجبال” الذي تم عرضه ومناقشته في دور السينما على امتداد إسرائيل في الربيع الماضي. أظهر الإسرائيليون إجمالاً اهتماماً كبيراً بالقضية الكوردية. فمن ناحية أولى، هناك مجموعة كبيرة من اليهود من أصل كوردي في إسرائيل، ويحافظ هذا المجتمعُ على روابط مع كورد العراق وهم بمثابة نوعٍ من اللوبي بالنسبة لهم هنا في إسرائيل. ومن ناحية أخرى، أبدت القيادة السياسية الإسرائيلية –وفي الواقع الإسرائيليون واليهود عموماً- اهتماماً بالوضع الكوردي لأسباب تاريخية واستراتيجية وسياسية وأخلاقية مختلفة. ونتيجة لذلك كان الدعم السري والعلاقات من خلف الكواليس سمة من سمات صلات إسرائيل بكورد العراق منذ منتصف الستينيات.
لكن الأدب الكوردي عموماً لم يشقَّ طريقه إلى إسرائيل حتى الآن. يعكسُ هذا جزئياً وضعَ الرواية الكوردية في العالم بأسره، كما أنها تنبع أيضاً من قلة المعرفة باللغة الأدبية الكوردية. جديرٌ بالإشارة هنا إلى أن اليهود من أصلٍ كوردي لم يساهموا كثيراً في نهضة الأدب الكوردي وذلك لأن لغتهم الأم في الأساس هي الآرامية (على سبيل المقارنة، ساهم يهود العراق كثيراً في الأدب العربي). ولكن هناك مبادرات في كردستان العراق الآن لترجمة كتب مؤلفين إسرائيليين أو كتب تتناولُ إسرائيل إلى اللغة الكوردية، ومن الأمثلة على ذلك نشر السيرتين الذاتيتين لديفيد بن غوريون وغولدا مائير. وقد أفاد مواطنٌ إسرائيلي زار إقليم كوردستان أنه شاهد في إحدى المكتبات الكثير من الكتب عن إسرائيل وأن سيرة غولدا مائير أصبحت أكثر الكتب مبيعاً هناك. يمكن تفسير ذلك من خلال حقيقة أن الكورد ينظرون إلى إسرائيل على أنها نموذج يحتذى به آملينَ محاكاة نجاحها في إقامة دولة خاصة بهم في جوارٍ مُعادٍ للغاية.
تلخيصاً لما سبق يمكن القول إن رواية “رسائل من كوردي” تقدم فرصة للتعرف عن كثب على المجتمع والثقافة الكوردية من خلال وسيطٍ أدبي وليس فقط بالاقتصار على مقالات صحفية قصيرة أو تقارير صحفية في وسائل الإعلام. ختاماً، فإن “رسائل من كوردي” هي رواية رائعة ومشوقة ومثيرة للاهتمام، تستحق ترجمتها إلى العبرية بحيث يمكن أن تصل إلى جمهور أوسع في إسرائيل خارج نطاق القراء الإسرائيليين باللغة الإنكليزية.
* نُشرتْ هذه المادة في عدد شهر ديسمبر من المجلة الإلكترونية الإسرائيلية تل أبيب ريفيو المتخصصة في السياسة والمجتمع والثقافة والفن وعروض وقراءة الكتب، وتصدر شهرياً باللغة الإنكليزية:
The Tel Aviv Review of Books
*** عوفرا بنغيو: بروفيسورة في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب، وكبيرة باحثي مركز موشيه دايان للدراسات الشرق أوسطية والأفريقية، ومديرة البرنامج الكوردي في المركز. تترجم النثر والشعر من اللغتين العربية والتركية إلى العربية، وهي عضو في المجلس الاستشاري للمجلة أعلاه تل أبيب ريفيو. ولها العديد من الكتب والأبحاث عن الكورد وقضايا أخرى في الشرق الأوسط.[1]
.