قادر عكيد
قبل أربعة عقود، أو يزيد أضعت نقودي أمام الفرن، امتلأت حنجرتي بالبكاء، وصرت أبحث عن نقودي بين أرجل النساء، والرجال تحت منصة الدور، أمسكني رجل بشوارب عريضة، وشعر أشعث من ياقتي، وسحبني من بين أرجل النساء والرجال، رمقني بنظرة خبث، وبطولة أمام النسوة، وقال: وقد اختلطت رائحة التبغ والنوم برائحة العرق: “لساتك صغير مو عيب تعمل هالحركات”.
قلت له: “ضاعو مصاريي عمو”، صفعني على رقبتي، لكنها للأمانة لم تكن قوية جداً، ثم قال: “دور بمكان تاني مو بين أرجل النساء”.
تنحيت جانباً، وجلست القرفصاء ووضعت رأسي هذه المرة بين أرجلي، حزنا وخوفاً، شدني أحدهم من كتفي، فوقفت بلمح البصر، خشية أن يكون قد عاد ليكمل دور البطولة، لكن البطل هذه المرة كان أنيقا يلبس كلابية بيضاء، وتفوح منه رائحة طيبة، ناولني ليرتين، وقال: هذه نقودك كانت بين الأرجل، خذها ولا تضيعها مرة أخرى، رغم يقيني أنها لم تكن نقودي، لكني أخذتها خوفاً من العقاب، وهززت له رأسي بالإيجاب.
مرت السنون، وكلما لمحت ذلك الرجل أشرت إليه بالطيب، كبرت ودخلت الإعدادية، وإذا بذلك الطيب مديري في المدرسة الاعدادية.
هذا الصباح، التقيت بنفسي أمام الفرن؛ في عيني طفل صغير، كان حافيا يبكي بشفاه مرتجفة خوفا من العقوبة، اقتربت منه، وناولته أرغفة بقدر ما أضاع من نقود، ومن بهجة عينيه، ثم قلت له: امض ولا تمشِ حافيا مرة أخرى.[1]