د. محمود عباس
ومضمون التقرير الذي قدمه عن كورد الجزيرة
ملاحظة: قسمت هذه الحلقة إلى جزأين.
أما عندما يطالب في تقريره بإبعاد الكورد عن المنطقة الحدودية، ودمجهم مع العرب في الداخل، مع تحديد المناطق العربية خارج الجزيرة، فهو في الواقع يقصد، الكورد المهاجرون لاحقا وليس المتواجدون في المنطقة والذين كانت برية الجزيرة وحدودها الفرات مرابعهم، لكن ولقلة النسب السكانية فيها وفي العالم عامة حينها، كانت القبائل لا تمتد على كلية المساحات الجغرافية، وهذه لا تعني أنه كان هناك قبائل عربية حضرية فيها، أو يعتبرونها من أملاكم، فجميعهم كانوا لا يزالون على رباط وثيق مع مناطقهم في شمال شبه الجزيرة العربية، حائل ونجد، وبادية الشام وغيرها.
وهنا يلاحظ غاية سياسية أعمق مما يظهر، وحيث التبجح بالوطنية، ودراسة الجزيرة من البعد التاريخي -الديمغرافي، يحاولون فيها (أصحاب الدراسات وما نشره قناة أورينت والمركز العربي ) الطعن في تاريخ الكورد ضمن الجزيرة، من خلال تقديم تقريره على أن الكورد مهاجرون إليها من الشمال، وطلب كرد علي نقلهم لدمجهم بالوسط العربي، متناسين أن المضمون يحتضن وجهي الحضور الكوردي إليها، وهي واضحة من خلال قوله في التقرير ذاته ” وإني أرى أن يسكنوا بعد الآن في أماكن بعيدة عن حدود كوردستان لئلا تحدث من وجودهم في المستقبل القريب أو البعيد مشاكل سياسية تؤدي إلى اقتطاع الجزيرة من جسم الدولة السورية لأن الأكراد إذا عجزوا اليوم عن تأليف دولتهم فالأيام كفيلة بأن تنيلهم مطالبهم إذا ظلوا على التناغي بحقهم والإشادة بقوميتهم” ويضيف ” فالأولى إعطاء من يريد من الترك والأكراد أرضا من أملاك الدولة في أرجاء حمص وحلب” علينا هنا ملاحظة قول: أولا يقول (أرى أن يسكنوا بعد الآن) وثانيا من (يريد) ، وثالثا إعطائهم (أملاك). والحديث يجري حول المهاجرون منهم، طبعا هنا يضع محمد كرد علي سنة تحديد الحدود بين الدولتين بداية الفصل بين الكورد المقيمين والمنتقلين بين طرفي الحدود، فيصنفهم كمهاجرين، متناسيا الامتداد الطوبوغرافي لكوردستان، ومستند على ما تم تشكيله للفصل بين الكورد في الطرفين، وهذا ما يسخره محرفو تاريخ الجزيرة كمصدر، لكن بعد تقطيع التقرير.
لا نستطيع الحكم عليه فيما إذا كان يريد خدمة الكورد هنا بقدر ما أراد خدمة سوريا كوطن تشكل حديثا، وليست سوريا كدولة عربية؟ رغم مصداقية تقريره من البعد التاريخي، ربما دون أنه ينتبه أثناء عرضها كجغرافية مجاورة لكوردستان، أو أن الجزيرة امتداد جغرافي لكوردستان، وهو يدرك أنها طوال تاريخها كانت تابعة لولاية ماردين.
كما لا يتوضح موقفه من حقوق الشعب الكوردي، وكأنه كتب تقريره بتجرد كإداري يوضح الواقع، لكن هنا وبعد دراسة ما كان يقوم به الرئيس تاج الدين الحسيني والذي كانت تربطهما صداقة عميقة منذ الصغر، أن التكليف كان مبني على منهجية الرئيس الذي عندما شكل وزارته، عمل على إشراك جميع مكونات سوريا المذهبية والقومية فيها، فقد عين وزيرا من حلب، وأخر من العلويين، وثالث من الدروز، وآخر من ديرالزور، وأخر من المكون المسيحي، وعلى الأغلب عين محمد كرد علي من البعد الكوردي، ولذلك كلفه بدراسة المنطقة الكوردية وشعبها والذي ينتمي إليهم.
فهل حقا كان مجردا من البعد القومي الكوردي، وإن كان فلماذا يذكر كوردستان ضد التوجه الكمالي التركي والأحزاب السورية العنصرية المتصاعدة حينها. وهل كان الانتماء الشعوري نحو العربية قد طغى على اللاشعور الكوردي؟ أسئلة لا يمكن الحكم عليها بسهولة، ودون متابعة مسيرة حياته وكتاباته بعمق، ومخلفات الهجرة وهو الجيل الثالث، لكننا نستطيع القول أنه لم يضر الشعب الكوردي، كما لم يخدمهم ويفيدهم، مثلما لم يتمكن أي من الأعضاء الكورد في البرلمان السوري مساعدة أو تقديم أية خدمة للشعب الكوردي ولا للمنطقة، باستثناء ما قدموه لذاتهم ولعائلاتهم، منذ بداية تكوين سوريا وحتى بداية الستينات، أي حتى السنوات التي كان بإمكان الكورد فيها الترشح للبرلمان، وجلهم دخلوها عن طريق حزب الكتلة الوطنية، ومن بينهم نواب الجزيرة الذين ترشحوا بعد إزاحة ممثلي البارتي حينها.
الجانب المهم في تقريره، ومن البعد التاريخي، والذي يتم التعتيم عليه من قبل أصحاب الدراسات العنصرية المحرفة عن تاريخ الجزيرة والكورد، عدم ذكر الوجود العربي في المنطقة ولا في المدينتين الحسكة وقامشلي، وهو خير إثبات، على أن المكون العربي لم يكن له دور ولم تكن القبائل العربية قد تحضرت أو تعمقت في المنطقة حتى حينها، نكرر للتنبيه، أنه رد على أصحاب الدراسات الذين يحاولون جعل الجزيرة منطقة عربية، وأن القبائل العربية كانت من سكانها الأصليين، كما وهو طعنة لمصداقية من يحاولون تحريف تاريخ الكورد في الجزيرة الكوردستانية. يقول في الصفحة (441) من مذكراته ” ثم ان من ينزل من المهاجرين على ضفاف دجلة والخابور وجغجغ والبليخ والفرات يقتطعون من شطوط تلك الأنهار ما يروقهم من المساحات فيستقون منها للإرواء ما يقتدرون على إروائه ويتركون ما وراءهم من الأرض بوراُ لتعذر السقيا الآن ولا يبعد أن يجيء يوم تمتلك فيه تلك الشواطئ- مع ان أكثرها ملك الدولة لها حق التصرف بإعطائها لمن تريد” وهنا اكثر من واضحة: إما أنه لا يكترث للقبائل العربية هناك، أو أنه لم يكن لها وجود، وإلا لذكر بدمج الكورد المهاجرون مع القبائل العربية هناك وليس “بالعرب في القرى الواقعة في أواسط البلاد “.
علما أنه وفي تاريخه الطويل كان من دعاة الاصطفاف العربي ضد الولاة العثمانيين، وهو الذي أشاد، وبمقالة قوية خلقت ضجة في الوسط السياسي والديني، بالحركة الوهابية من البعد القومي العربي، حاول بعدها تغطيتها بالبعد الإسلامي، بعدما مجدها في مقاله عندما كانت لا تزال في بدايات ظهورها، وعلى أثرها أتهم بالوهابية، كما استحب ظهور آل السعود وآل الرشيد فقط لأنهما على خلاف مع العثمانيين والاتحاديين فيما بعد، لربما نكاية بالتوجه القومي العثماني – التركي، وهو الذي كان يعاني من الإرهاصات الصادرة من ولاة الأمر الأتراك أو المتعاملين معهم، وما كانوا يفرضونه على الحراك الثقافي من إملاءات لفرض الفكر والأدب التركي، أي كان ومن خلال التدقيق في مذكراته، وكتابه الإسلام والحضارة العربية، يرى ذاته ضمن البيئة العربية من البعد الثقافي، والعربي – الإسلامي من البعد القومي الديني، إلى جانب أنه كان يصطدم بين فينة وأخرى بالخلفية القومية الكوردية التي كان مناهضيه أو حتى منافسيه في الثقافة العربية أو أحيانا أصحابه في المجمع العربي يلمحون إليها، إن كانت من باب الذم غير المباشر أو التهجم، خاصة عندما كانوا يرونه متصدرا المنصة الثقافية العربية، وعلى الأغلب هو ما دفع به إلى الإصرار على التمسك بكنيته …
يتبع…[1]