وعلى أسس ما ذكرناه قدم مطالبه للتدريس باللغة العربية والتكلم بها في الإدارات، لأن اللغة العربية كانت محصورة في واحات فقهية والتكيات والعامة، وبعدما زالت الإمبراطورية العثمانية، انفتح المجال لانتقال اللغة العربية من لغة النص، والنخبة، والتكيات، إلى لغة الدولة والعامة والمدارس. وقد كان العلامة #محمد كرد علي# خيرة ممثليهم، لتتوسع وترتفع اللغة العربية كطفرة في الوسط العثماني إلى ما نراه اليوم في العالم العربي المستعرب.
فعلى سبيل المثال على ثانوية اللغة العربية مقارنة بالتركية، نرى أن لغة (صبحي بركات الخالدي) أول رئيس لسوريا، والذي حكم ما بين 1922-1925 م كما ورد في أرشيف رؤساء سوريا “كانت التركية لغته منذ ولادته، ولم يكن يستطيع التلفظ بأكثر من بضع كلماتٍ عربيةٍ متتابعةٍ صحيحة القواعد” ولم يختلف عنه كثيراً الرئيس الثاني (أحمد نامي) الشركسي الأصل، زوج (عائشة سلطان) ابنة السلطان عبد الحميد الثاني. ولتكوين الدولة السورية كوطن حكمتها لغة النص والإسلام، خدمها كرد علي بتفاني، ولا يذكر أنه هاجم المكون المسيحي أو العلوي أو الدرزي أو الكوردي، لكنه حكم على بنية ثقافته العربية-الإسلامية وخدمة سوريا.
هذه الحقيقة تثبت على أن اللغات، ومن بينها العربية رغم الدعم النص القرآني لها، تتطور وتنتقل من الظل إلى النور مع وجود الدولة، وهو ما حصلت للكوردية ببعدها العكسي، أي تراجعها أو عدم تطورها بالشكل المطلوب لغياب كوردستان، وللتركية والعربية بالإيجابية لوجود سلطات وأنظمة ودول داعمة، ولا تعني أنها أفضل أو أكثر تطورا من الكوردية، ولا يستبعد لو تشكلت كوردستان في نفس المراحل الزمنية لربما تجاوزتهم اللغة الكوردية في العديد من الأبعاد، ولربما كان أمثال محمد كرد وأحمد شوقي علماء باللغة الكوردية مثلما كانوا باللغة العربية. وتبقى مساهمات كرد علي في الإنجازات التي حصلت عليها اللغة العربية، وكيف انتقلت من الساحة الخاصة إلى العامة، فرضت على المجمع والمجتمع العربي تقديره حتى من قبل الذين كانوا يكرهونه، والذين كانوا على دراية تامة بأصوله القومية، التي كانت من أحد أسباب العداوة.
في الواقع نسبة غير قليلة من المثقفين والسياسيين الكورد حينها وحتى منتصف القرن الماضي كانوا تحت هيمنة الثقافة الإسلامية العربية، وكثيرون منهم عانوا من الازدواجية ذاتها، حتى عندما كانوا يناضلون من أجل مناطقهم إن كانت عند مواجهة سلطات الاستعمار الفرنسي الرافض لإقامة كيان كوردي، أو ضد القوى العروبية المتصاعدة حينها، المتكتلة ضمن حزب الشعب، والإخوان المسلمين، والبعث عندما كانت في بدايات صعودها، ولذلك كان لا بد من بعض الدبلوماسية في مطالبهم القومية أو لمناطقهم، وقد فعلها النائب الكوردي (أحمد جعفر الشيخ إسماعيل) عام 1957م عن منطقة عفرين، عندما طالب الدولة بتخصيص ميزانية لتطوير التعليم وبناء المدارس لتعليم أبناء الكورد اللغة العربية، علما أنه كان توجها لتطوير المنطقة ثقافيا. لكن علينا هنا تحديداً ألا ننسى العوامل الثقافية والمكانية ما بين العلامة المتربي في الوسط العربي الإسلامي الثقافي، وحفيد عائلة مهاجرة قبل 150 سنة من كوردستان، والبرلماني الكوردي الذي تربى في بيئة كوردية وكان لا يزال يعيش في الوسط ذاته، بل بينه وبين برلمانيون أخرون من الوسط الكوردي وتحت تأثير الثقافة الإسلامية أو الوطنية، خدموا سوريا بشكل عام، وكانت خدماتهم للمنطقة الكوردية وللقضية شبه معدومة، ولا يمكن لومهم بشكله المطلق أو يجب تخوينهم، بل المنطق يتطلب دراسة الواقع والظروف، ومن الحكم على أسسه، وللأسف كثيرا ما تطلق الأحكام إما بعشوائية أو تباهيا، وهذا يؤدي إلى خلط الأوراق وعدم الإنصاف.
فعلى سبيل المثال، قدم (أحمد جعفر الشيخ إسماعيل) البرلماني عن جبل الأكراد تقريرا عن وضع المنطقة، وتخلفها الثقافي، وطلب من البرلمان الموافقة على تقديم ميزانية لبناء المدارس وتطوير الثقافة العربية في المنطقة، ومعها طالب وبتغطية دبلوماسية، بإدخال اللغة الكوردية إلى الإعلام السوري، وتدريسها ضمن المدارس العربية في جميع القرى الكوردية تحت حجة القضاء على الأمية، مع ذلك عرضه محمد جمال باروت كبرلماني خان الكورد، وكان الحكم مغرضا، ففي الحقيقة كان سياسيا واعيا وحاول خدمة منطقته وشعبه بوعي، فهل علينا أن نجاري جمال باروت ونخونه أم ننصفه بوعي؟
محمد كرد علي، رغم ما كان بينه وبين قوميته جفاء، أو نسيان أو تناسي، لكنه شرف الأدب العربي كما شرف أحمد شوقي شعره، وفيهما قال الأديب القانوني الدكتور منير العجلاني على قبره أثناء دفنه، باسم (المجمع العلمي العربي) ” إن ثمة إمارَتَين في العالم العربي: إمارة الشعر، وكانت معقودة اللواء للمرحوم أحمد شوقي، وإمارة العلم وكانت معقودةً لفقيدنا العلامة محمد كرد علي” علما أن العجلاني وجميع أعضاء المجمع العلمي العربي كانوا على معرفة أن كلاهما من أرومة عائلات كوردية هاجرت من مواطنها إلى دمشق والقاهرة في بدايات القرن الثامن عشر، الأول من مناطق ديار بكر، والثاني من السليمانية.
فكلاهما فخر للأمة الكوردية، كما هما للأمة العربية، بغض عما قدموه للعروبة والإسلام، وما لم يخلفوه أو يقدموه للكورد، وهنا لا نستبعد عما ذكره بعض المعلقين عنه أوعن عائلته، أو نشرت كحوارات، وهي مصادر يمكن الاعتماد عليهم، والحكم من خلالهم. ويظل قامة كوردية الأصل بين الوسط العربي-الإسلامي، مثله مثل أبو مسلم الخرساني وصلاح الدين، والزرياب وغيرهم، والذين جل أعمال وخدماتهم سالت في غير مجاريها لغياب الدولة الكوردستانية، والتي تعد أحد أهم الأسباب في هذا الضياع وما نحن فيه، والتي أدت إلى هدر جهود هؤلاء العلماء من الحاضنة الكوردستانية إلى ساحات مستعمريها، مثلما حدث لنتاج علماء وقادة عظام من شعوب أخرى، دخلت في خدمة العرب والعثمانيين عن طريق الإسلام.
==========
لا شك لم أفي العلامة حقه، ولم ألقي سوى ومضة على شخصيته وعلمه وحياته والأخيرة هي الأهم، ومعظم من كتبوا عنه ركزوا على علومه وليس على الجانب القومي منه.
للمزيد في معرفة العلامة محمد كرد علي من الجانب العلمي، لا بد من الاطلاع على:[1]
1- مذكراته، الصفحة 5-9 من الجزء الأول. وما لاقاه من مشاكل على خلفية اللقب، كرد علي، وإصراره على ترسيخه، وغيرها من الإشكاليات.
2- كتاب الباحث والناقد (إبراهيم محمود) عن محمد كرد علي (لا ليس لي لحية: الأستاذ الرئيس محمد كرد علي والتصوف).
3- كتاب إياد خالد الطباع (محمد كرد علي المؤرخ البحاثة والصحافي الأديب)
4- وعن نواب عفرين وجبل الأكراد يمكن الاطلاع على كتاب الدكتور محمد عبدو علي ومؤلِّفه (تاريخ جبل الأكراد).