بيار روباري
سوف نتناول في إطار هذه الدراسة التاريخية الموجزة، تاريخ وهوية مدينة “باخاز”، الفراتية بإمتياز والتي تشكل نقطة العبور بين شمال و#جنوب كردستان# في منطقة الجزيرة الفراتية الكردية. ولا شك أن هذه المدينة واحدة من الحواضر الخورية القديمة. وكما هو معلوم فإن منطقة الجزيره السفلى تربطها حدود جغرافية مشتركة مع منطقة “أنبار” الكردية في جنوب كردستان، وهما مفتوحتان على بعضهما البعض، وتشتركان في نهر الفرات أيضآ، وألقينا الضوء على معاني تسمية (الأنبار والجزيره) في دراساتنا السابقة، وسبب إختيار الخوريين أسلاف الكرد لهذه التسميات.
الأسباب التي دفعتنا إلى تناول هوية وتاريخ هذه المدينة الكردية المنسية وكتابة هذه الدراسة، هي في الحقيقة عدم معرفتي ومعرفة بقية أبناء شعبنا الكردي بتاريخها وماضيها ولا بحاضرها، يمكن بعض أفراد من المقاتلين الكرد الذين حرروا المدينة من رجس تنظيم “داعش” الإرهابي عملاء الدولة التركية وقطر والنظام الأسدي يعرفون عنها بعض المعلومات البسيطة عن وضعها الراهن. نحن نود دراسة تاريخها ومتى إحتلالها من قبل العرب، وكيفية وصول العرب البدو إليها والإستيطان فيها، وأهمية هذه البلدة الإستراتيجية. وتفنيد إدعاء العرب المستعربة، الذين يدعون أن المدينة (عربية)، وعلى الكرد الخروج منها، وإعتبار قوات “قسد” قوات معادية محتلين ووجب محاربتهم.
لذا أردنا البحث عن حقيقة عن هذه المدينة، ومدى صدق هؤلاء الدجالين، وتعريف أبناء شعبنا الكردي بهذه المدينة الكردية المعربة ليس هذا فقط، بل وصل التعريب إلى أدمغة الكرد أنفسهم، بكل ما للكلمة من معنى، تعريبه لغويآ، ثقافيآ، روحيآ (الإسلام الشرير)، تاريخيآ، نفسيآ، فكريآ، فنيآ، إجتماعيآ وحتى جماليآ.
والسبب الأخر، هو إبراز أهمية هذه المدينة من جميع النواحي، كونها واحدة من المدن الكردية الفراتية القديمة في هذه المنطقة، وعلاقتها بالمدن الخورية المجاورة لها مثل “درزور، رقه، هسكه، …”. وأخيرآ فضح أولئك الدجالين، الذين يسوقون الأكاذيب ويدعون عروبة المدينة. وسوف نتناول في هذه الدراسة المحاور الرئيسية التالية:
1- مقدمة.
2- جغرافية مدينة باخاز.
3- أثار مدينة باخاز.
4- تاريخ مدينة باخاز.
5- معتقدات سكان مدينة باخاز الأصليين.
6- أصل تسمية مدينة باخاز ومعناها.
7- الوجود الكردي في مدينة باخاز والمنطقة المحيطة بها.
8- الحياة الإقتصادية في مدينة باخاز.
9- الخلاصة.
10- المصادر والمراجع
أولآ، مقدمة:
باخاز (باغوز) مدينة كردية منسية تستلقي على كتف نهر الفرات في هدوءٍ منذ زمنٍ بعيد ويعود تاريخها إلى ألاف السنين قبل الميلاد، ولولا ظهور تنظيم داعش الإرهابي الإجرامي فيها ومقاتلة “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، لهذا التنظيم في المدينة وتحريرها منه، وإستسلام ألاف العناصر من هذا التنظيم الإرهابيلقوات قسد، لما سمعنا بإسم هذا المدينة الوادعة، التي تضم جزءً مهمآ من تاريخ الشعب الخوري سلف الشعب الكردي. الحقيقة ما أن سمعت بإسهما في عام 2018، أدركت أنها مدينة كردية من خلال إسمها. وشدني ذلك ولهذا قررت معرفة المزيد عنها، وقمت بالحث عن كتب، دراسات، بحوث تمدني ب أية معلومات عن تاريخها وحاضرها، وتعرفني عن قربٍ بها وبأصلها ونشأتها وتاريخها، وجغرافيتها وحياة سكانها، وتاريخ قدوم المحتلين إليها والإستيطان فيها، وبالتالي معرفة تاريخ المنطقة المحيطة بها معها، وسبب إختيار الكرد لهذا الموقع لبناء مدينة فيها، ما عدا وجود نهر الفرات وسبب هذه التسمية.
للأسف ليس هناك من مصادر لإستقاء المعلومات منها عن هذه البلدة الجميلة إلا فيما ندر للغاية، رغم أنه جرت عمليات تنقيب عن الأثار في المدينة، عام 1928، ولكن نتائج هذه البحوث والدراسات ضاعت بسبب الحرب العالمية الثانية، وهذا أمر محزن للغاية وخسارة كبيرة للبشرية جمعاء، كون تلك الوثائق والمعاومات تتحدث عن جزء مهم من تاريخ الحضارة الإنسانية. يمكن وصف هذه المدينة الأثرية بعبارة مختصرة جدآ هي: “عروسة الفرات”، وينطبق عليها هذا الوصف بكل ما للكلمة من معنى. حيث موقعها الجغرافي ونهر الفرات ودورين، والسهول الخضراء المحيطة بها، جعلتها جميلة للغاية. حقيقة لا توجد دراسات كردية عنها، لا عن جغرافيتها ولا عن الإقتصادها، ولا عن الحياة الإجتماعية لأهلها، فما بالكم بدراسات وبحوث عن تاريخها. أنا لا ألوم العربان، إن أهملوا المدينة فهم لا يهمهم البلد بأسره أي غرب كردستان (سوريا)، بقدر ما يهمهم حلبها كالبقرة. هذا مع العالم أن غالبية المقيمين في هذه المدينة اليوم هم من البدو. خلال سنوات جمعت ما إستطعت من المعلومات المفيدة عنها وهي قليلة بالفعل، رغم أهمية المدينة من جميع النواحي وخاصة التاريخية منها.
لم يرغب حزب ( ب ي د) وإدارته الذاتية، التعاون معي ومدي بالمعلومات التي أحتاجها، كونهم يملكون سيطرون على المدينة عبر قوات سوريا الديمقراطية. طلبت منهم بعض المعلومات المتعلقة بحاضر المدينة بعد تحريرها من تنظيم داعش الإجرامي، وحال المواقع الأثرية فيها، لكن للأسف لم يتجاوبوا معي، السبب هو أنني أنتقدتهم في بعض المواقف، ولم أتحول إلى بوق لحزبهم وفكره الغير ديمقراطي.
والسبب الثاني بقناعتي هو عدم إهتمامهم بالأثار والتاريخ من أساسه، وهم في هذا المجال لا يختلفون عن بقية السياسيين الكرد، حيث التاريخ والأثار، أخر شيئ يمكن أن يفكروا به للأسف الشديد!! مع العلم أنه عندما تدخل قوات مسلحة لأي مدينة أو بلد يلحق بها على الفور فريق مختص بالأثار وعلماء التاريخ للحافظ على الأثار، ومنع نهبا وإتلافها ونقلها إلى مكان آمان، هذا ما يفعلوه الناس الذين يقدرون الأثار، ولهذا وجدنا المحتلين الأوروبيين على الدوام، كان يرافق جيوشهم فرق مختصة بذلك، فما بالك لو كنت صاحب الأرض وتلك الكنوز هي ملكك!!!
بطبيعة لا أستطيع زيارة مدينة “باخاز” لأسباب كثيرة، وفي مقدمتها الأسباب الأمنية. لجميع الأسباب التي ذكرناه تبقى هذه الدراسة ينقصها بعض التافصيل المتعلقة بأثارها، وأتمنى في المستقبل أن تسنح لي الفرصة في جمع المزيد من المعلومات والدراسات عنها، ومع تبقى هذه الدراسة هي اللبنة الأولى في التعريف بهذه المدينة وتاريخها وإرثها الحضاري، وكلي أمل أن يأتي شباب وشابات كرديات من بعدي ويكملون المسيرة.
ثانيآ، جغرافية مدينة باخاز:
مدينة “باخاز”، تنقسم لجزئين جزء منها موجود في غرب كردستان وتسمى “باخازالفوقاني”، والجزء الثاني موجود في جنوب كردستان وتسمة بي “باخازالتحتاني”، وهن في الواق مدينة واحدة ولها ميزتين هما:
الميزة الأولى: يشطرها فرع من نهر الفرات وإسمه “دورين”، وحفر هذا الفرع قبل ألاف السنين قبل الميلاد. ويربط مع مدينة “البوكمال” جسر ممدود على نهر الفرات الذي يفصل المدينتين عن بعضهما البعض.
الميزة الثانية: هي أنها تقع في بلدين نتيجة إحتلال كردستان وتقسيمها إلى خمسة أجزاء. حيث هناك تلة أخرى تقع خلف خط الحدود مع جنوب كردستان مباشرة، ولهذا إطلقت “باخاز الفوقاني” على الشطر الواقع دخل حدود غرب كردستان، وتسمية “باخاز التحتاني” أطلقت على الشطر الذي يقع داخل أراضي جنوب كردستان.
حالتها تشبه إلى حد بعيد وضع مدينة رفح المصرية – الفلسطينية الحدودية، وبلدة “حمام” في منطقة أفرين – غرب كردستان، حيث نصف المدينة داخل منطقة أفرين ونصفها داخل منطقة ألالاخ الكردية المطلة على البحر المتوسط.
تبتعد المدينة عن نقطة الحدود بين غرب كردستان وجنوبها (1) كم لا أكثر وتتبع إداريآ لمدينة السوسة القريبة منها وتقع إلى الشمال منها. وهي عمليآ ملاصقة لمدينة البوكمال حديثة العهد. بلغ عدد سكانها حوالي (16.000) الف نسمة في عام 2018 حسب أكثرية المصادر. لكن مع بدء سيطرة تنظيم داعش الإجرامي عليها، ونتيجة لعمليات تحرير المدينة من قبل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في عام 2018 فإن حوالي 80% من سكانها هاجروا المدينة وتوزعوا على عدة دول ومناطق داخل سوريا، حالها حال الكثير من المدن في غرب كردستان بفعل الأحداث والعمليات العسكرية. وعدد السكان المدينة والقرى التابعة لها بلغت حوالي (45) الف نسمة تقريباً، والعشائر التي تقطن المنطقة من العرب البدو هم من: عشيرة المراسمة والعكيدات والراويين، وكلهم مستوطنين وليسوا من أبناء المنطقة ولا المدينة نهائيآ.
تتمتع المدينة بموقع إستراتيجي هام، فهي تقع على الحدود العراقية السورية الدولية، وهذه المنطقة كانت على الدوام ممراً هاماً عبر العصور، كونه ممر مائي وبري في نفس الوقت، لهذا دخلها تنظيم داعش الإرهابي إليها، وإتخذ منها قاعدة له، كونها كانت صلة الوصل بين مناطق نفوذه في الشرق أي جنوب كردستان (العراق)، ومناطق نفوذه في غرب كردستان (سوريا).
ولولا وجود الحدود المصطنعة بين جنوب وغرب كردستان، لا يمكن لأي إنسان التمييز بين مساحات الأراضي في المنطقة وعلى جانبي الحدود، حيث أنها منطقة سهلية واحدة ولا يفصل بينهما أي حاجز طبيعي، سوى تلك الأسلاك التي نصبها محتلي كردستان، فمنطقة “باخاز” واحدة على جانبي الحدود وهي تضم مساحات زراعية واسعة وخصبة للغاية.
تصل مساحة مدينة “باخاز” حوالي (10) كيلومترات مربعة، ويربطها مع مدينة “البوكمال” جسر، وهذا الجسر هو صلة الوصل بين الريف الشرقي ومدينة البوكمال، وبسبب إستخدام تنظيم داعش الإرهابي لهذا الجسر في نقل السلاح والمواد الغذائية لعناصره الإجرامية، قصفته قوات التحالف الدولي في عام (2016) لقطع شريان حياة التنظيم، فيما توقفت الحياة لدى المدنيين بحكم حاجتهم المستمرة إلى مدينة البوكمال، مما إضطروا الإستعانة بالقوارب الصغيرة للعبور إلى مدينة البوكمال للتبضع هناك وبيع منتوجاتهم.
كانت مدينة “باخاز” ومحيطها قبل تمركز تنظيم داعش فيها وإخراجه بالقوة منها على يد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية، كانت المدينة ومحيطها يتمتعان بمناظر خلابة جميلة حقآ، وكانت مقصداً للسواح الذين يبحثون عن الإستجمام والراحة من أهالي المنطقة، كون المنطقة تقدم هكذا خدمة بسبب طبيعتها الجميلة والخضار، ونهر الفرات وشواطئه والحقول المحيطة به، لكن بسبب التخريب التي تعرضت له المدينة على يد عناصر ذاك التنظيم الإجرامي، والعلميات العسكرية، التي شهدتها المدينة ومحيطها، تعرض كل شيئ للدمار والخراب وشمل ذلك حوالي 80% من أبنية المدينة، وبذلك فقدت تلك الأهمية الجمالية والسياحية، وكانت فعلآ دوحة وسط منطقة يحيط بها البادية وتحديدآ من الجنوب.
وتتميز مدينة “باخاز” بهضبتها التي تسمى “جبل العرسي” حاليآ، الذي يحاذي نهر الفرات تماماً، هذا إضافة إلى “مغارة التيس” وهي ليس إسمها الحقيقي، ويوجد على سطح الجبل برجان قائمان ومازال أحدهما باقي وصامد لليوم، ويقابلها برج قائم ثالث في مدينة القائم العراقية، وهي أبراج تعود إلى الفترة الرومانية.
ولو أن فعلآ هناك دولة مسؤولة لجعلت من مدينة “باخاز” وجهة سياسية مميزة لكل أهل المنطقة والمدن القريبة منها وعلى جانبي الحدود. ولكن النظام البعثي الإجرامي والأسدي الطائفي، أهملا المنطقة برمتها أي الجزيره الفراتية، ومعها كل غرب كردستان، عن قصد بهدف إفقارها كي لا تتمرد على النظام القاتل والفاسد.
ثالثآ، أثار مدينة باخاز:
كما ذكرنا تقع مدينة “باخاز” على الضفة الشمالية لنهر الفرات مقابل مدينة “البوكمال” الحديثة ولا تبعد عن الحدود مع جنوب كردستان سوى (1) كيلومتر. ولا تزيد المسافة بينها وبين مدينة “ماري” الأثرية سوى (7) سبعة كيلومترات فقط. وهناك تلتين تحيطان بمدينة “باخاز الفوقاني والتحتاني” من الشمال والجنوب، ومن هنا كانت تسميتها بهذا الإسم الكردي، كون موقع المدينة يبدو على شكل نفق بلا سطح. وسنناقش معنى التسمية وأصلها في محور خاص بذلك منفصل. والتلتان الكبيرة والصغيرة لا تبعدان عن وسط المدينة، سوى (3) ثلاثة كيلومترات فقط، والتلتان تعرفان بنفس التسمية أي “تلتا باخاز”.
أول بعثة أثرية قامت بالمسح ومن ثم التنقيب في موقع مدينة “باخاز”، كانت البعثة الأمريكية – الفرنسية المشتركة، التي كانت تعمل في موقع مدينة “دورا أوروبوس” الأثرية القريبة منها، والتي أطلق المحتلين العرب تسمية “صالحية” عليها، وهي مدينة أثرية بناها الرومان، وتقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة درزور. بنيت هذه المدينة على الهضبة اليمنى لنهر الفرات، وعلى رقعة غير منتظمة الشكل تقارب مساحتها السبعين هكتاراً، محاطة بأسوار منيعة تدعمها حواجز طبيعية، مشكلة نقطة مراقبة هامة لطرق
القوافل البرية والنهرية، وينتشر خارج أسوار المدينة عدد من المدافن الأرضية والبرجية وأقواس النصر
وبقايا معسكر الحصار الكردي الساساني. وتحتضن مدينة “دورا أوروبوس” أول كنيسة منزلية في العالم، ورسومات كنيس يهودي تعتبر الأجمل منها. والتي تحدثنا عنها بشيئ من التفصيل في دراستنا التاريخية السابقة، التي تناولنا فيها هوية وتاريخ مدينة “درزور” الخورية – الميتانية – الكردية.
بدأت البعثة عملها في موقع مدينة “باخاز” عام (1928م)، وإستمرت في عملها حتى عام (1930م)، وخلال هذه الفترة تمكنت البعثة من مسح المنطقة المستهدفة والبحث عن المواقع الأثرية في المنطقة وليس في هذه المدينة فقط، وإنما المسح شمل كل الضفة الشمالية لنهر الفرات، أي حتى حدود جنوب كردستان مع منطقة “الأنبار” الكردية، وذلك نزولاً مع مجرى النهر. كان يقود هذه البعثة المشتركة العلماء: “دو مينيل دو بويسون ونيكولاس تول”. وإستطاعت البعثة من خلال عمليات البحث والتنقيب إكتشاف العديد من الأثار منها:
مئتي (200) قبر في تلة المدينة ويعود تاريخها إلى العصر البرونزي الوسيط (2000 – 1500)، قبل الميلاد، لكن معظم المواد وسجلات أعمال ذلك الفريق ووثائقه الخاصة بمدينة “باخاز” الأثرية لم تصل إلى جامعة “ييل” الأمريكية، حينما إرسال الفريق تلك الوثائق إلى أمريكا بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، وتوزعت ما بين مدينتي “براغ” عاصمة الجمهورية التشيكية ومدينة “باريس” العاصمة الفرنسية وهذا تسبب في تأخير نشر أعمال ذاك الفريق البحثي، وبالتالي نشرت نتائج العمل إعتماداً على ما توفر من صور فوتوغرافية وملاحظات متفرقة. ولم نشهد لليوم دراسة حقيقة كاملة عن أثار المدينة ومدفنها وتريخها وتاريخ سكانها الأصليين.
وفي عام (1935م)، نفس البعثة الأثرية الفرنسية – الأمريكية المشتركة بقيادة العالم “دو بويسون” قامت بمسح التلة الثانية، وهي الأصغر من بين التلتين، حيث قام الفريق بحفر خندق طويل فيها في ربيع العام (1936). للأسف الشديد لليوم لم تنشر نتائج تلك الدراسة هي الأخرى، كي يطلع عليها جميع الباحثين والمهتمين والمؤرخين ويستفيدون منها كأي دراسة بحثية أخرى في هذا المجال، والناس العاديين وكل مهتم بالتاريخ الإنساني.
إكتشف الباحثين في هذ الموقع العديد من قطع الفخار إلى جانب القبور والتي سنتحدث عنها بعد قليل. قطع الفخار التي إكتشفت في الموقع، تقسامها متحف اللوفر بباريس وجامعة “ييل” الأمريكية، والكرد بالكاد سمعوا بإسم المدينة، إنه لأمرٌ محزن ومخجل بأن يسرق كل التاريخ الكردي وينتهي في المتاحف العالمية، والكرد لا يعرفون شيئ عن هذا التاريخ!!! الكرد فقط شاطرين في اللعي ولكلام الفارغ وعبادة الأصنام البشرية وترديد الشعارات التافهة.
في عام (1940)، قامت جامعة “ييل” بتسليم حصتها من الكسر الفخارية العائدة لمدينة “باخاز” الأثرية إلى جامعة “شيكاغو” كي يقوم فريق البحث بقيادة السيد “روبرت بريدوود” والفريق الذي عمل معه من الجامعة بدراسة هذه القطع. وفي نهاية تلك الدراسة التي إستمرت حتى عام (1944). في ختام الدراسة أكد هذا الفريق الباحث أن هذه القطع الفخارية تعود للتلة الأولى، وليست التلة الثانية. وهذا ما حير علماء الأثار المطلعين على أثار المنطقة.
أن تاريخ هذه التلة ومعها مجموعة الكسر الفخارية المستخرجة منه، تعود إلى فترة ما قبل “گوزانا” أي (تل حلف) أي العصر الحجري – النحاسي. ويعتبر مهد الخوريين أسلاف الشعب الكردي، التي تطورت فيها الحضارة، بدء من العصر الحجري الحديث الفخاري، دون أي انقطاع سكني (هجر) طويل. مدينة “گوزانا” نفسها شهدت إزدهارآ من حوالي (6100 إلى 5400) قبل الميلاد، في الفترة الزمنية المتعارف عليها في التقسيمات الزمنية للهلال الخصيب بفترة ثقافة “گوزانا”. وهذه المدينة الناريخية المهمة تقع جنوبي مدينة “سريه كانية” الحالية، وتعد من أقدم المناطق الحضارية في تاريخ الحضارات البشرية.
إكُتشفت مدينة “گوزانا” في عام 1899 من قبل الدبلوماسي الألماني البارون “ماكس فون أوبنهايم”، بينما
كان يمسح المنطقة لبناء سكة حديد بغداد. في الوقت الذي كانت فيه غرب وجنوب وشمال كردستان تحت حكم الامبراطورية العثمانية. عاد للتنقيب في هذا الموقع من جديد عام 1911 وإستمر حتى عام 1913، ثم تجدد التنقيب فيها عام 1929 تحت الوصاية الفرنسية هذه المرة، بعد تشكيل الكيان السوري اللقيط. تتميز “گوزانا” بالفخاريات المزججة ومزينة برسوم هندسية ورسومات الحيوانات. وتعود آثار الموقع للألف (6000) السادس قبل الميلاد.
بينما يعود تاريخ “تلة باخاز” الرئيسية إلى العصر البرونزي الوسيط والعصر الهيلينستي، أي ما بين الفترة (2000 – 1500) قبل الميلاد. ومن الجدير بالإشارة أن دراسة السيد “بريدوود” وفريقه لفخاريات التلة الثانية، لم تكن نتيجة بحث وتحرٍ ميدانيين، بل إنها إعتمدت على مجموعة الكسر التي وصلت إلى أمريكا والصور الفوتوغرافية التي توفرت عن طريق جامعة “ييل”.
أما التلة الثانية الصغيرة والقريبة من مدينة “باخاز” هي ذات شكل بيضوي أبعادها (100 في 60) متر، ومحورها الرئيس يمتد من الشمال إلى الجنوب، ويصل إرتفاع التلة نحو (2) مترين. والخندق الاختباري والذي قام بحفره الفريق الآثاري من بعثة “دورا أوروبوس” كان بعرض (2) المترين، وبطول (25) متر، وذلك على إمتداد الطرف الجنوبي للتلة، وقد كشف هذا الخندق عن بقايا جدران ضخمة من اللبن، ومع حطام اللبن وجدت كسر الفخار المطلية التي أُرجعت إلى دور سامرا والكثير من الأدوات الصوانية. وهذا الفخار إكتشف فيما بعد في مواقع مثل “شغار بازار” و”بويض2″ في منطقة الخابور كما ذكرنا أنفآ، ويعود تاريخها إلى (6000) الألف السادس قبل الميلاد، وذلك بوقت قصير قبل ظهور فخار مدينة “گوزانا ” المبكر. وهذا يدل على مدى أهمية هذه المدينة وأصالتها الخورية – الكردية.
قبور مدينة باخاز الأثرية:
البعثة الفرنسية – الأمريكية المشتركة، التي نقبت في موقع مدينة “باخاز”، أكدت أن تاريخ قبور المدينة يعود (1900-1800) التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد. وإحتار العلماء في كبر حجم المقبرة، التي لا تتناسب مع حجم المدينة نفسها، وسبب هذه الحيرة برأي هو جهلهم بالديانة اليزداني الكردية التي يعود تاريخها إلى أكثر من (10.000) عام. وحتى الكثرين من الكرد لا يعرفون سر ذلك، لهذا واجب عليّ شرح ذلك الموضوع، كي يعلم كل من سيقرأ هذه الدراسة.
لم يكن معهودآ لدى الخوريين اليزدانيين ومن بعدهم أبنائهم الميتانيين والهيتيين وأحفادهم الكرد، أن يكون لهم في كل قرية وبلدة صغيرة مقبرة. المقابر كانت مركزية، بحيث عشرات القرى والبلدات كانت لديهم مقبرة واحدة مشتركة، وتكون عادة فوق مكان مرتفع، حيث الكرد الخوريين وفق معتقداتهم اليزدانية، أن الميت ينتقل بعد الموت إلى مرتبة أعلى، ولهذا كانوا يختارون المكان بعناية.
سأضرب لكم مثلآ واقعيآ، ويعرفه كل أهالي “جبل ليلون”، الواقع إلى الجنوب والشرق من نهر ومدينة أفرين. حيث في الماضي وقبل أن يغزوا المنطقة جحافل العرب الهمج والقتلة منطقة أفرين وألالاخ كان كل سكان المنطقة كرد يزدانيين، ففي الجبل لم يكن هناك سوى عدة مقابر، وواحدة منها كانت موجودة في قرية “آقيبه” الروبارية، وحوالي ثلاثين قرية كانوا يدفنون موتاهم في نفس المقبرة، وتجد قبور أجداد أهالي القرى في المقبرة. ونتيجة ضياع التاريخ الكردي بسبب عدم كتابته من قبل أسلاف الكرد، فالكثير من الأشياء والإمور إختفت ولم يعد الكرد يعرفون عنها شيئ. وما ينطبق على هذه المقبرة ينطبق على مقبرة مدينة “باخاز” أيضآ. ولهذا دائمآ أقول لا يمكن لأي باحث دراسة تاريخ منطقتنا من دون الإلمام باللغة الكردية بشكل جيد، ويكون مطلعآ إطلاعآ وافيآ على الديانة اليزدانية.
وهذه المقبرة الموجودة في مدينة “باخاز” يعود تاريخها إلى عصر عصر مملكة “خانه” الكردية، والتي كانت تسمى أيضآ بإسم “ترقا” وتقع في منطقة الفرات الأسفل، وليست ببعيدة عن مدينة “باخاز”، ومن المعروف أن هذه المملكة وعاصمتها ترقا (تل العشارة) حالياً، قد ورثت مملكة “ماري” الأثرية المعروفة تاريخيآ. وقد إكتشف العلماء أن أحد القبور أعيد استعماله للدفن في العهد البارثي مرة ثانية.
تفاجئ العلماء بثراء قبور مدينة “باخاز” بمحتوياتها وشكلها البسيط، وتتألف من حفرة تنزل في الصخر إلى عمق بضعة أقدام وتغطى بألواح منبسطة ثقيلة من الحجر ويوضع التراب فوقها. وهذا العادة يتبعها الكرد لليوم. السكان الأصليين كانوا يحددون موضع القبر بالأحجار التي ترسم أشكالاً دائرية أو بيضوية وفي حالة واحدة على الأقل ظهر شكل أحد القبور بشكل مستطيل. ويتمثل الأثاث الجنائزي في قبور هذه المدينة بالفخار والمواد البرونزية وقطع الأثاث الخشبية والحجرية. كما إن الآواني الفخارية المتنوعة التي عثر عليها في القبور، هي من الطراز الذي يميز عصر المقبرة. وقد لوحظ وجود مخروط برونزي صغير مثقب في عدد من الجرار، ويعتقد العلماء أن هذا المخروط، كان يثبت في طرف أنبوب من القصب، أو أي مادة أخرى قابلة للاندثار.
وكان يستخدم للشرب بوساطته من الجرة، وأن هذا المخروط كان يشبه المصفاة التي بقيت بعد إندثار الأنبوب. ومثل هذه المصافي في جرار عثر عليها في قبور العصر البرونزي الوسيط أيضاً، في كل من “تل ليلان” وتل “شغار بازار” في منطقة الخابور الأعلى. كما عثر في أحد القبور على أسلحة برونزية من بينها فأس مثبتة على عصا خشبية طويلة وكانت محفوظة جيداً، وأبعاد هذا القبر تبلغ (64-72) سم. وعثر في قبر آخر على بقايا واضحة لأثاث خشبي من بينها جزء من الإطار الخشبي للمحفة التي سُجي عليها المتوفى، وكذلك الأرجل الخشبية لمنضدة كان لها سطح حجري دائري، ووجد سليماً وقد إستقرت فوقه طاسة فخارية صغيرة وعلى مقربة منها طاسة فخارية أكبر.
إلى جانب ذلك وجد العلماء في موقع المدينة (5) خمسة أضرحة برجية، يعود تاريخها إلى ما قبل الفترة التدمرية، وإثنان من هذه الأضرحة أثناء إكتشافهما كانت بحالة جيدة وهذا ما أسعد الباحثين ويسعدنا ذلك أيضآ. يشغل الضريح الأكبر مساحة تصل إلى (5) خمسة أمتار مربعة، ويحيط به سقيفة مفتوحة على
الجهات الأربع. وبخلاف معظم الأضرحة التدمرية، التي ضمت في ذاك العصر فجوات لاحتواء الموتى في البناء العلوي للبرج. لقد تميزت أضرحة مدينة “باخاز” بوجود حجرات للدفن تحت الأرض تغطيها سقوف معقودة. ويبدو أن الغرض الرئيس للبرج العلوي كان توفير مسطح علوي لإقامة الشعائر الجنائزية.
رابعآ، تاريخ مدينة باخاز:
توصل العلماء والباحثين الذين عملوا في موقع مدينة “باخاز” بشكل مباشر، والذين درسوا أثارها فقط، إلى نتيجة مفادها، أن تاريخ المدينة يعود إلى الأف (4000) الرابع قبل الميلاد. وحسب رأيهم سبقت مملكة “ماري” بقليل، والتي لا تبعد عنها سوى (7) سبعة كيلومترات، وأقدم من مملكة “خانه”، وجميع هذه المدن أو الممالك تقع في نفس البقعة الجغرافية وعلى ضفاف نهر الفرات الكردي، أرضآ وماءً من أوله إلى أخره حاله حال نهر تيگريس.
للمعلومات 98% من المدن التاريخية والأثرية، المقامة على ضفاف نهر الفرات وتيگريس وبقية الأنهر التي تنبع من كردستان، مدن خورية – ميتانية – هيتية – ميدية كردية. هذا ما أكدته الإكتشافات الأثرية والدراسات التي تناولت تلك الأثار المكتشفة في تلك المدن. وأول ذكر لمدينة “باخاز” جاءت في الوثائق التاريخية وكان نحو القرن (400) الرابع قبل الميلاد، وذلك في وقائع حملة زينفون.
عمومآ تنتمي مدن: “باخاز، ماري، ترقا” وغيرها من مدن المنطقة، إلى العصر البرونزي وهي الفترة التاريخية، التي تمتد من 3500 قبل الميلاد إلى 1200 قبل الميلاد. وتميزت هذه الفترة باستخدام معدن البرونز على شكل واسع ولهذا سميت بهذه التسمية، وفي بعض المناطق إستخدمت الكتابة البدائية، وغيرها من السمات المبكرة للحضارة الحضرية. العصر البرونزي هي الفترة الرئيسة الثانية لنظام العصور الثلاثة المعروفة تاريخيآ: العصر الحجري – العصر البرونزي – العصر الحديدي. وهو عصر ظهور علم السبائك، وهذا العصر كان بداية ظهور علم الفلزات، عندما عرف الإنسان كيف يصهر أملاح النحاس مع الفحم النباتي في البواتق والأفران لصهرها بالحرارة وإختزال هذه الأملاح.
وكان يخلط النحاس الغفل مع القصدير أو الأنتيمون ويصهرهما معا. وكان البرونز يستخدم في صناعة الأدوات والمعازق والمجارف والسكاكين. لأنه أكثر حدة وأطول عمراً من النحاس. لقد ظهر العصر البرونزي في منطقتنا حوالي 3500 قبل الميلاد وإستمر حتى سنة 1200 قبل الميلاد، أي بداية العصر الحديدي، ووصلت إلى أوروبا بين سنة 2500 و 2000 قبل الميلاد وظهر العصر البرونزي في أوروبا الغربية بين سنة 1800 قبل الميلاد وسنة 900 قبل الميلاد.
بلاد الخوريين أسلاف الكرد، كانت أولى المناطق التي دخلت العصر البرونزي، والتي بدأت مع ظهور حضارة “سومر” في جنوب كردستان (بلاد الرافدين) في منتصف (3500) الألفية الرابعة قبل الميلاد. مارست الحضارات في الشرق الأدنى القديم الزراعة المكثفة على مدار العام، وطورت أنظمة الكتابة، وإخترعت العجلة، الفخار، أنظمة الري، أنشأت حكومة مركزية، ومدونات قانونية مكتوبة، ودولًا مدينة ودولًا وطنية وإمبراطوريات، وشرعت في تشييد مشاريع معمارية متقدمة، وأدخلت التدرج الاجتماعي، والإدارة الاقتصادية والمدنية، ومارست الحرب المنظمة، والطب، والدين. كما وضعت المجتمعات في هذه المنطقة أسس علم الفلك، الرياضيات والتنجيم.
في العصر البرونزي وما قبله لم يكن هناك أي وجود لأقوام أو ملل أو شعوب في المنطقة، سوى الشعب الخوري، ولهذا نسب المدينة وتاريخها من قبل الكتاب العرب المستعربة لأنفسهم وللعرب البائدة، يتنافى كليآ مع الحقائق التاريخية، وتكذبها الأثار والمقابر الخورية الموجودة للأن في مدينة “باخاز” الأثرية، والتي يعود تاريخها إلى 6000 ألاف عام، هذا ما صرحت به البعثة الفرنسية – الأمريكية المشتركة. ثم منذ متى كان العرب يستخدمون هذا النظام المركزي للقبور وأنماط هذه القبور؟؟ هذا غير صحيح على الإطلاق، وليأتينا العرب بوثائق تاريخية يثبتون بأنهم كانوا يملكون قبل 6000 عام، مقابر على هذا النمط في الجزيرة العربية عندها فقط سنصدقهم. أما إذا قارنت قبور مدينة “باخاز” مع قبور بقية المدن الخورية في المنطقة ستجد أنها تنتمي لنفس الثقافة والشعب والديانة. هذا إضافة أن كافة المدن المحيطة بها من الجهات الأربعة، مدن خورية – ميتانية ونمط التلال المقيمة عليها المدن تقريبآ واحدة، أحيانآ جغرافية الموقع تفرض بعض التعديلات عليها.
ما هو مؤكد أن المدينة تعود إل عهد الخوريين أسلاف الكرد، هذا ما تأكد من خلال بقايا الأثار التي وجدت في قلعة تلتي المدينة، وأن الإستيطان البشري في المنطقة يعود تاريخه إلى (6000) ستة ألاف سنة قبل الميلاد، أي قبل أن توجد المدينة نفسها. وقدر علماء الأثار تاريخ المدينة إلى الألف الرابع (4000) قبل الميلاد. وفي هذه الفترة لم يكن للأموريين أي وجود في المنطقة نهائيآ، والأموريين لم ليسوا شعب بل قبيلة عربية، ولم ينبون مدينة واحدة خلال كل تاريخهم، كل ما فعلوا هو إحتلال المدن الخورية، والعبث فيها وفي أكثرية الأحيان تدميرها، بسبب همجيتهم ووحشيتهم التي إشتهروا بها، ولم يكن لهم أي علاقة بالحضارة شأنهم شأن الأكديين، البابليين، الأشوريين والعرب المسلمين، وشرحهم العثمانيين. ما بناه الأكديين والبابليين والأشوريين لم يكن ذلك من بناة ثقافتهم على الإطلاق، كل بنوه كان من بنات ثقافة الخوريين الكرد وبأيديهم، ولو كان لديهم ثقافة لما هجروا أصلآ، وكنا شاهدنا مثيلآ لذلك في الربع الخالي الذي قدموا منه.
لاحقآ، تعاقبت حضارات عديدة على المدينة، نتيجة الغزوات والإحتلالات المختلفة التي تعرضت لها ومعها كل المنطقة، على مدى سنوات طويلة إمتدت لألاف السنين. وكالعادة كل محتل حاول صبغ المدينة بثقافته من خلال منحها إسمآ أخر، وتغيير ديمغرافيتها عبر قتل أبنائها الأصليين وتهجيرهم، و وفرض غرامات وضرائب قاسية عليهم، وتحويلهم إلى خدم وعبيد عندهم، ومعاملتهم معاملة سيئة، هذا
إلى جانب فرض لغتهم على السكان الأصليين ودينهم وعاداتهم عبر حكمهم بشكل مباشر، بهدف صهرم في بوتقة ثقافة كل محتل، وبالتالي محو هوية الشعب الخوري نهائيآ. ومن الغزاة والمحتلين الذين تعاقبوا على حكم المدينة: الأموريين، الأكديين، البابليين، الأشوريين، الفرس، التدمريين، الرومان، العرب المسلميين، العثمانيين والأن مرة أخرى العرب.
البعض بحسن أو سوء نية ربط مدينة “باخاز”، بمدينة “نجيات” التي ورد ذكرها في نصوص الملكين توكلتي- ننورتا الثاني وآشور- ناصربال الثاني، وهذا غير صحيح لبسبين: السبب الأول، نظرآ للبعد الزمني بين نشأة المدينتين. وثانيآ، الأدلة الجغرافية التاريخية المستمدة من تلك النصوص تشير إلى أن موقع مدينة نجيات القديمة كانت مبنية على الضفة اليمنى لنهر الفرات إلى الشمال من مدينة البوكمال الحالية، بينما مدينة “باخاز” على الضفة اليسرى لنهر الفرات.
الإدارة العلمية للتنقيب والبحث في موقع مدينة “باخاز”، كانت من العام (1933-1978) تحت إدارة السيد “أندريه بارو”. ومن العام (1979-2004) كانت تحت إدارة السيد “جان كلود مارغرون”. ومن العام (2005-2011) كانت تحت إدارة “باسكال بيترلان”.
مدينة ميرا (ماري):
مدينة أثرية تقع على نهر الفرات قرب مدينة البوكمال، ويتمتع موقع مدينة ميرا بشكل بيضاوي، ويقع إلى جنوب غربها عدة وديان صغيرة، وطول الجانب الشمالي منه يصل إلى كيلومتر، وتتوزع فيه تلال عدة صغيرة الحجم، تضم منشآت هذه المدينة، عدا “الأكروبول” فإنه يقع في التل المركزي والذي يُعد أعلى من غيره، حيث يرتفع خمسة عشر متراً.
تأسست المدينة عام (2900) قبل الميلاد، وإستمرت إلى حين تدميرها على يد الجيش البابلي الذي كان يقوده الغازي “حمورابي” نحو العام (1759) قبل الميلاد. ولكن قبل ذلك أيضآ تعرضت للتدمير وكان
في عام (2300) قبل الميلاد. إكتشافها كان مجرد صدفة، حيث بعض البدو الذين كانوا يحاولون دفن أحد أمواتهم، عثروا على تمثال بلا رأس وأبلغوا السلطات الفرنسية التي كانت تحتل البلد برمته بذلك. وبدأ الفرنسيين التنقيب فيها منذ شتاء عام (1933)، تحت إشراف العالم “أندريه بارو”.
وبفضل 47 موسم تنقيب وأكثر من 80 عاماً من الدراسة، تم التعرف على إحدى الحاضرات الكبرى في الشرق الأدنى القديم في الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد. وأدت الأبحاث الأثرية لاستكشاف مساحات كبيرة من مساحة الموقع، والعثور على قصر ملكي، وعدة معابد وأماكن لمزاولة الحرف وإكتشاف بعض المنازل. وقد عُرفت هذه المدينة أيضاً من خلال النصوص التي دلت على أهميتها ضمن الشبكات التجارية والدبلوماسية في ذلك الوقت، وقام المحتلين العرب بتعريب إسمها وحولوها إلى (تل الحرير).
الاكتشافات الأثرية الكثيرة في مملكة “ماري”، والتي في معظمها تحوي على كتابات مسمارية، وحمل أحد التماثيل كلمة “لامجي – ميرا”، وتم اكتشاف معبد عشتار فيها أيضآ، الذي يُعد أهم الاكتشافات فيها، والذي يعود تاريخه لعصر حمورابي.
“ماري” مدينة سومرية – كردية، ويعود أصل تسميتها إلى التسمية الكردية “مير”، والتي عربها العرب إلى (أمير). وتسمية “مير” هي في إسم (إله العاصفة) لدى قدماء الكرد، ولليوم هذه المفردة تستخدم في الكردية. والإله “مير” كان معروفآ في كل أنحناء بلا الخوريين، سواء أكان في الجنوب حيث كان الكرد السومريين والإيلاميين يعيشون، أو في الشمال حيث الجزيره الفراتية الكردية. وسميت هذه المدينة بإسم هذا الإله، والتسمية تعني مدينة الإله “مير”. وهناك أغاني شعبية كردية قديمة جدآ، تتغنى بالمير وتصفه بصفات حميدة وخارقة. ولليوم يطلق الكرد هذا اللقب على كل شخص يتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع ويسمى “مير”، ويعود تاريخه للحقبة الخورية – السومرية.[1]