محمد عزو –
المهن، التي يمارسها الإنسان متعددة، ولا شك أن لكل مهنة من تلك المهن المتعددة معاناتها ومتاعبها، بالمقابل لها نجاحاتها الباهرة، وإخفاقاتها، وهناك مهن تظل قريبة من الإنسان، ومتمسكاً بها وفق حبه لها، ودرجة إبداعه فيها، فمهنة التنقيب الأثري لا تختلف عن هذه القاعدة العامة، لكن لهذه المهنة نغم آخر، فمتاعب المنقب الأثري، وطبيعة متاعبها من نوع آخر يغلب علية المفاجآت، والأحداث البعيدة عن التوقع.
لا أريد هنا الكلام عن أن نتائج اكتشافات هذه المهنة، التي كانت المصدر الرئيس لكتابة التاريخ، إنما أريد الحديث عن الأحداث المفرحة، والمحزنة، التي تحدث مع طاقم التنقيب أثناء أعمال الحفر وخارجها… ويَحطُ بنا الترحال إلى تل “#محمد ذياب#” الذي يقع شرقي قامشلو بحدود/45كم/ وعن بلدة “#تربة سبيه#” /13 كيلو مترا/جنوباً، يعود تاريخ هذا التل إلى فترات متعاقبة.
ومنذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، بدأت في تل “محمد ذياب” بعثة أثرية فرنسية من جامعة “السوربون” في “فرنسا”، برئاسة البروفيسور “جان مارية دوران” أستاذ اللغات الشرقية في جامعة “السوربون”، وإشراف ميداني من قبل الآنسة “كورين كاستل” مديرة المعهد الفرنسي للدراسات العربية في “دمشق”، إذ أن أعمال التنقيب الأثري أظهرت، وجود سويات تعود للفترة “البارثية” وأخرى لعصر البرونز الوسيط، كما عثر المنقبون على سويات من العصر “الآكادي” وعصر فجر السلالات الثلاث المتوضعة في قمة التل الرئيس.
لقد كان لي شرف الحصول على المشاركة في أعمال التنقيب لمواسم ثلاثة عن الأعوام/1991-1992-1993/كممثل ومشارك في أعمال التنقيب من قبل المديرية العامة للآثار والمتاحف في “دمشق”.
في موسم/1992م/ كان عدد أعضاء البعثة خليطاً من عدة جامعات أوروبية من مختلف الاختصاصات الخاصة بالبعثة الأثرية، يتألف جسم التل من عدة هضاب متموجة، بدءاً من الشرق حتى “الأكربول” في الغرب، في ذلك الموسم تركز التنقيب الاثري في قمة الهضبة الثالثة، وهي الهضبة ما قبل الأخيرة من جهة الشرق من الهضاب الأربعة، مع التل الرئيس (الأكربول)، كان العمل الميداني يبدأ في الساعة الخامسة فجراً، وينتهي في الساعة الواحدة بعد الظهر مع وجود فترة إفطار الضحى مدتها ساعة واحدة، ذات يوم من أيام الحفر الأثري المنهجي الرائع في نتائجه حدث الآتي:
قبل أسبوع واحد من الانتهاء من أعمال التنقيب، في ذلك اليوم انتهينا من العمل في الساعة الواحدة، وذهاب جميع أعضاء البعثة إلى المقر الواقع في الجهة الغربية من الأكربول مباشرةً، باستثناء “كورين كاستل” ، “محمد العزو” ورجل بريطاني مختص بعلم الفخاريات، الذي كان يحرر آنية فخارية، نصف ساعة، وكنا في بيت البعثة، وهنا كانت المفاجئة إذ أننا لم نجد أحداً في غرفة الطعام، ولا في غرف المبيت، لكن كنا نسمع أصواتاً، وصياحاً مصدرها بيت “حمزة” حارس التل وبيت البعثة، في الحال، ولجنا المدخل، الذي يفصل بيت الحارس، وبيت البعثة، وكل الذي رأيناه تجمع أعضاء البعثة في طرف، رافضين تناول الغداء حتى يقوم الحارس “حمزة” بإطلاق طائر “الباشق” صائد الدجاج المنزلي، ” سمعنا” حمزة” يقول بصوته الجهوري: العجب من أصدقائنا الأوربيين “يزعلون” على طير مؤذٍ، ولا يزعلون على أطفال فلسطين، الذين يقتلون يومياً برصاص الصهاينة، جاء الرد من عضوة البعثة الإنكليزية اسمها /Clear/ وهذا اللفظ يعني في العربية واضح. / Clearley/ لذلك كلير كانت تقول أنا اسمي “وضحة”، وسمعتها: تقول بعربيتها التي على قياسها، ولك “حمزة” نحن في “أوروبا” نقف مع الشعوب المضطهدة كلها، ونحن لسنا مع مواقف حكوماتنا، وأنا أسألك، لماذا تسمح لنفسك بصيد طير الحباري، وحيوان الغزال لتأكلهما، ولا تسمح لطير الباشق من صيد الطيور، التي هي رزقه وطعامه، صفقت أنا، وصفقت كورين، وصفق الجميع، وقام حمزة “بإطلاق طير الباشق” واعتذر من الجميع، وقمنا سوية بتناول وجبة الغداء في بيت البعثة، وسرت الحكاية في أغلب القرى المجاورة.[1]