تحاور الخواطر في غمرات موت السجادي
مسعود محمد
ما هذه الدنيا بدار قرار، فأثبت ثوابتها زائلة وارسخ رواسخها باطلة، ننزلها مضغا عاطلة ناصلة: اول صلاتها بالوجود صراخ اعجم لايبين ولا يستبين، وقصارى دوامها في النبض اذا طال فوق المأمول دقة ساعة يتراوح رقاصها بين الازل والابد، واحلى خواتيمها نكوص هين الى العدم المدفون في الثرى حيث تخلقت اول مرة. وتضطرب المضغ بين العدمين تقرض حواف عمرها موغلة فيه الى عتبات الوداع حتى (اذا بلغت التراقي وقيل من راق) تلفتت نحو الخراب المهجور وراءها فيما طغت وبغت فودت لو ارتدت وكرت بها الحياة بغير ما مرت، فلا تنال مناها وتساق الى منتهاها اشباحا في طوايا الغيب المرهوب: فوا حسرتا على خسران ليس عنه عوض وانتهاء لا مستأنف فيه وانطواء في الهاوية بنواصي كاذبة خاطية. فيا ليت انها قدمت لحياتها بنور يضيء في مماتها وعطر يضوع بعد فواتها بوفاتها، ويا ليت يقين الارتحال عند الحشرجة وافاها إبان القدرة في المهلك والمرفق والاختيار بين المعصية والمصلحة اذا لثقلت خطاها الى الشر واوسعت في فسح الخير فاستنارت الحياة بغير ظلامها واطمأنت النفوس الى غير الوجل وامتلات الذمم بغير الحرام وعمرت الهمم لغير الخراب، فيا هول الحسرة على امتناع الخير الممكن واستعصاء النعيم المحتمل وابتعاد السلام المنشود في كل روح. ويا خيبة الخيبات في ممكنات مرجوة تعذرت، ولها تحت السمع والبصر شواهد من الاحياء والاموات شع منها النور وفاض الامان وتدفق الاحسان وثقلت بها موازين الصلاح في معادلة النقيضين: فأين جنكيزها من عمر بن عزيزها وما مقام ابن حنبل في سجنه وجلد نعليه اكرم من ناصية ساجنه وكيف التوافق بين منابر العناتر الصارخة بالويل والثبور وبين محراب السجادي المنفتح علی البشرى والنور!! أم يقال انها سنة الكون وضرورة التكامل واقتضاء النقائض في اجتماع الاضداد؟ بَعُدت اولئك من تخاريج تبرر للشر وتديم للغطرسة وتكمل الحلقة المفرغة في تقبل المكروه، فما من خلجة في احاسيسنا تنبض بتصديق حتمية المذلة ولزوم الضراوة الا استعبدت قسطا من ارادتنا لفجور اللاهي وعتو الطاغي واساغت في منطقنا جوع العاري وهوان الكظيم وتشرد اليتيم وتطاير الاشلاء. فنحن مجندون ضد الحق والخير والجمال علی قدر تسليمنا لتأصل الشر في النواميس وكمون الظلم في الطبائع وامتزاج القبح بالصور. ويتطور فينا شعور التسليم بالواقع الكريه كحقيقة قائمة خارج وجودنا الی الاستلام المقتضاه في لب واعيتنا ثم نقفز قفزتنا الی استمراء الجانب الشهي في الوقوف عند حكم الضرورات الملجئة الی الفساد فنتجنكز ونتهتلر وقد نتقزم ذيولا وفلولا في بطانة اصحاب الولائم الفخمة نلحس الحثالة ونحسو الثمالة لابورك فيها عقبى ولا شَرُفت نهاية في اسفل السافلين.
انها اعجوبة الاعاجيب في البشر المتنور المتثور المتمنطق المتفلسف ان يزعم احاطة علمه بالحقائق الطبيعية والتاريخية يستخرج من عمومها قواعد شاملة كاملة في المصائر الموكولة الى حكم المادة واستلزام المصالح واستدعاء الاحوال واقتضاء الدواعي ويستكنه مسارها المحتوم في المجتمع بدينه ودنياه حاضرا ومستقبلا فيرسم لها خرائطها ويفرغ قوالبها ويملس سطوحها وجوانبها بمالج من منطق الحكمة وينتظر من بركاتها ان تتوالى علی الناس بالشبع والامان والصلاح وطولة العمر حتى اذا انتهى من تأسيس هذه الاركان واقامة ذلك البنيان فلم يغادر فيه صغيرة ولا كبيرة الا احصاهاء تغافل كالمعتوه عن حركة الشهوة في عروقه ونزوع السطوة في طموحه وقبضة النهم على اختياره وقيادة الاستعلاء لخطاه واقتران الغلطة بسلوكه فما تحرك لمقاومتها وتخفيف عنفوانها وتلطيف بركانها وثورانها في نفسه وفي اتصاله بالدنيا من حوله: لقد تغنى بانه الجم الوجود وشكم التاريخ ووجه التطور بمعادلاته العلمانية وموازناته المنطقانية ثم نسى نفسه فما عدل فيها او بدل واطلق خصوصية طبعه في الاحتكار والنزوة والغلبة من كوابح الردع والهداية واناط النقاهة والنقاوة والصلاح والرشاد في البشرية كلها وفي نفسه بدساتيره العامة في الانتاج والتوزيع والاستهلاك وغيرها من متعلقات الاقتصاد كي تتفرع منها شبكات الشفاء النفساني والعقلاني والجسماني بقنوات ناقلة للخير على قدر تعداد إلناس في الارضين. ولو كان قد الجم شهواته وشكم رغباته وقمع نزواته لبادر الى تحجيم الخبث في نزعاته دون انتظار الثمرات من مشاريعه المديدة في الشفاء والنقاء والرواء بعد عشرات السنين فانها في احسن حالاتها وانجح نهاياتها تزرع بذرة السلامة والاستقامة في الضمير والبذرة متاحة لطالبها بلا مشاريع ولا دساتير اذا صدقت نيته في الاحسان وبزغ الرشد في بصيرته واينع في سريرته. ثم انه لا تعارض بين السعي في الخير العام من مظانه الواسعة العميمة وبين اختصار الطريق الى تنقية النوازع بالعلاج الذاتي المباشر، فالاقرب الى البديهة ان يتوازى العلاجان ويتزامن الجهادان في قهر المصاعب، فكيف يتسنى تسليط الضوء على الدنيا من عقول تعمى عن ظلام ذاتها واين الصدق في موعظة انسان يتهرب من تبعاتها وكيف الركون الى نصح طبيب يداوي الناس وهو عليل! وليس بالناس صبر يسيغ في مذاقهم تحكم المتعلم وتعنت المتفلسف وتدلل المتثور صباح مساء على ناصية الشارع وفي جنبات الابهاء والقاعات وعند نضح العرق في المصنع والمحلب والمزرعة بانتظار ان تترعرع فسيلة الوعود نخلة تساقط عليهم رطبا جنياء. بعد ان تستحيل العظام رميما في القبور.
فالناس اكثر ترحيبا بارتفاع الثقل عن كاهلهم في نهارهم الطالع وترك المستقبل لاوانه، وهم اقل احتمالا لضيق يرتاح به متسلط يبذل الوعود المفلسفة من لسان سوطه، وتلك واحدة من الحقائق التي تديم في الناس وشائج انسانيتهم وتبقى عليهم احاسيسهم في الفطره القابلة والرافضة فاذا ماتت فيهم او تهرت تحت ثقل القمع استحالوا الات منصوبة تتحرك متى ما أدار الرقيب المسيطر عليها مفاتيحها. وكان السجادى تلميذا في مدرسة التمسك بالانسانية على علات الاحوال وسلك فيها سلوكا خليقا بالكرماء بغير ضجيج احدثه او اقتحام تجشمه او تباطل تكلفه. وضرب في منهجه مثالا للسالك اذا اقتداه فاز بالنظافة واغدق بالحسنى واثمر في الكرامة وشرع الى الامان بل ضيق الميدان بوجه الغالبين على الارادات والقابضين علی المصائر فان الجيوش المجيشة للقهر تقل زادا وعتادا بزيادة الارادات القادرة على الانكار والاستجابة والفارقة بين الفضيلة والرذيلة والمختارة في القبح والوضاءة. ولربما صح القول بانه كان في جهاده الدؤوب يمارس اسلوبا وافق طبعه الدمث فاتسق فيه على وجه من الوجوه مع الكفاح السلمي الذي قاد به غاندي جهاد الهند الى الانتصار مع فارق في الظرفين وتفاوت في الاستطاعتين تلمحه النظرة الخاطفة وتجد فيه عذر السجادي في قصر الباع فتقر بذلك ضخامة ارادته في المثابرة نحوا من سبعين سنة بين اول انخراطه طفلا في مشارف دروس الدين وبين اخر خفقه من قلبه لفظها في صومعته ببيته على مشهد من كتبه وكراريسه وقراطيسه. لقد كان امتدادا مع الممتدين في مناهج الخير منذ شع الخير قبل الاف السنين، والتقط خيطه الدليل الى الصواب من خيوط منائر الاسلام الجهابذة فاجتمعت فيه اشعاعات من اعلام الظاهر ولمحات من فيوض الباطن وتضافر على ارادته عمر وعلى واشتجر على يقينه الشافعي والحلاج واشتبك في نسيجه الحنفية والنقشية ونطق في واعيته الشهرزوري(1) وكاك احمد، وتناغمت دفوفه على ترتيل الحق من اولئك فحبا في محاريبهم طفلا ونما في رياضهم فتى وسعى في ميادينهم كهلا، بيده قلم استعاضه عن المتفجر والقاطع فسدد الى المقصود نفاثات من الكلام المصفى والبيان المجلى والبلاغ الفصيح: لمسه اشفى وهمسه احلى وقبسه اهدى. واختلطت بسريرته سرائر اولئلك وسرت في عروقه حرارة ايمانهم فنشط علی حماسهم في مجاهدة النفس بصرفهما عن المشتهی الوبيل والمرتقى الذليل وبدفعها في الاستقامة على السكة المرضية حيث افتراش الثرى والنوم على الطوى ثمن ميسور في ارتقاء درجات السلوك واعتلاء مقام الشهود الى مذبح تسلخ فيه النفس عن جلد الطمع فتقمع في شرنقة القناعة وتقمط في اغطية السكينة والرضا بالمقدور. وتعاورته الايام فتقاذفته الاحوال في باكورة جهاده بين السهل والجبل طي الوبر والمدر في البدو والحضر من فجاج كردستان وشعابها وهضابها، تم انسابت به الاقدار من النجود الى البطاح فحل في بغداد يعيش من زهيد الراتب في المسجد وينبعث من موفور النشاط الى مطارح الثقافة وبيوت الطبع والنشر موزعا بين اهتماميه الاعظمين: فى الثقافة الكردية من باب الوفاء للمنتمي والخدمة الاسلامية من باب الثبات على العقيدة فكان يبذل لهما من ذات نفسه باكثر مما يستحلبهما لذات نفسه وليس هذا ولا ما كان من تنقله فى كتاباته بين الجمع والتأليف او من ارتحاله عبر مطايا الوفاء الى مرابع طفولته ومراتع رجولته في اديم كردستان المغضن بالامر الذي يأسرني فيه ويقصرني عليه فقد قيل في ذلك وسوف يقال اكثر من ذلك فما به خفاء او حاجة الى جلاء، فالمعلمة الشاخصة بين المعالم المميزة، له هي اطراد سلوكه في المحمدة والنظافة خلال مضايق العيش في مغالبة المغريات على الطمع والشطط فما هان له عزم على العسر ولا لانت له قناة. في المحنة وطفق يخصف عليه ثوب الحشمة من (مغار الفتل) في الاباء بيسر متساوق مع طواعية طبعه للجريان في مسايل هداية الاسلام والسريان الى حيث يحتمله مهب المواعظ من تراث الفحول الاقدمين. واني لاخاله قد الف خلقهم المروي في الاسفار واستأنس بطيب النشر من احوالهم فمال طبعه الى الانطباع بميسمهم ونازعته نفسه الى القدر المتيسر من التشبه بهم فمكنه ذلك من احكام القبضة على عمامته فلا تطيرها من راسه العصرنة والتحديث كما اطارت من رؤوس منتصبة على قامات اعلى من قامته. واذا اعجزه الامكان ان يقاربهم في التبحر والتحبر فقد اسعفه الجهاد ان يتابع شرعة مهدوها للمقتدي ويستضيء شمعة اوقدوها للمهتدي، واراحه ذلك في اختصار السبيل الى محجة الكرامة فلم يترقب للاستقامة يوما تتحقق فيه بشارات المتفلسفين باستواء الخلق ونضج الحكمة في الناس حين يعم الشبع ويشيع العدل في الانصبة ويزول تميز السيد من المسود، فقد حمل نفسه على تحاشي الالتواء الناجم من تحكم العوز واستشراء الظلم بذخر معنوي في دخيلته جمعه عبر العمر من سنابل الحكمة في بيدر التراث واضاف اليه حبات اللؤلؤ المنتثر من سمط الجلوة في الامثال فما تمحل في ذلك ذريعة او تأؤل عليه شريعة، وصحت نيته في الحق المنزه عن الذرائع والاسباب فأتبعه باصرار انسان يشطب من مواقيته يوم الامان والضمان والطعام ويشترط على نفسه زيادة التمسك بالمنهج على قدر الصعوبة في الامتحان اذ تفتر الهمة في مقارعة الطمع بالفقر ومغالبة القهر بالضعف ومتابعة النقاء فى المباءة. ويا هول ما يوشك ان ينفثه قلمي في تصوير بلواه حين اذكر كيف كان يأوى بدينه وايمانه وعرفانه الى مسجد فيما يلى الحيدرخانة باتجاه ميدانه، فاذا استدار في العطفة نحو محراب امانه كانت خطاه العشرون الاخيرة الى باب المسجد هرولة المستعيذ برب الفلق من شر ما خلق، ولياذ المعتصم من الفتنة بالخرس والعمى والصمم وطرد السبيل الى السلسبيل في اودية من نار، فقد قضى الاربعينات والخمسينات في برزخ على مشارف الغواية المشرعة الابواب للفجور فكان في مقام فلق الصبح الفارق بين الضدين.
افِِ لها من حياة تبلو الصابرين باشق المكاره على احتمالهم فكان ما كان من اتساع احتمال السجادي للبلاء كسعة صبر الشهداء وثابر على جمع الرحيق المكتنف بالشوك غذاء لروحه ونماء للناظرين الى دأبه في العطاء واستقامته على سواء السبيل، واصبح بما يمثله من امتداد لتراث اعتاض عن المال رشدا الى الصواب وسكينة في الاستواء وبما يقدمه في كنف العقيدة من ثقافة تضيء العقول من كل صنف، اصبح به برهان الانتقاض لحجة من يسخف التراث اساسا في القناعة وحافزا على النشاط ومنطلقا الى الجهاد وقائدا الى صوالح القيم. ولقد اعيت الحيل همما كثيرة تسلحت بالوسيلة الدنيوية في التثقيف والاصلاح والخلاص فصرفتها الخيبة عن مواصلة التبليغ حين وجدت المسافة شاسعة بين ضخامة الدعوى وتفاهة المنجز وبين بعد المستقى من بشاراتها. وحصل الخمول في انماط المتشددين بحلولهم المغالية فتقهقروا الى مثل النظرات التي تطالع بها مدرسة السجادي شؤون الحياة في معاشها ومالها وانتقالها اطوارا. وتقلبت الاحوال بالمثقفين ذات اليمين وذات الشمال وذات الوسط في مخاضات عسرة متشنجة متوترة، يسيل منها دم ولا ينطلتق مولود، فاختلطت الصفوف وتداخلت الحدود وضاع اليسار في يسار اليسار ورفع اليمين شعارات يتهيبها اليسار ويجزع منها الوسط، فالغليان الشديد في المراجل ظل يخلط القعور بالسطوح عبر الوسط نزولا وصعودا. وبقى السجادي على ابان العاصفة في اواسط عمره نباتا راسخ الجذر بمنبته: له تأصل فلا ينقلع وبه مرونة فلا ينكسر وعليه ثمر فلا ينقطع، ونار تزحزحه عن موطىء قدمه الواحدة بتدافع المتزاحمين من حوله: قسما بالايمان ان ما اثبته فى العاصفة ضفيرة من انوار الفرقان مجدولة بقبضة من اخبار الرسول والأصحاب على حبكة من هدايات الخطاب والكتاب تسلسلت اليه من نيف وثلاثة عشر قرنا عليها شارات وامارات من جبابرة الحق الذين قضوا انحابهم (وما بدلوا تبديلام).
فيا راحلا بلا غياب.. ياغائبا بلا احتجاب! ما كان لأشد اوهامي ايغالا في الخيال ان يتصورك ميتا اقوى حضورا منك وانت حي، فلقد كانت في حياتك فسحة التأميل فيك ترفد اناة المصطبر عنك فاستحالت بعد مؤتك ظماً يضاعف الاوار في روح المتعطش اليك.
وتحولت عن رجاء المترجي فيك الى يأس المفتتن بك وقطعت بالموت ما كان من صلة التواصل بينك وبين اصحابك واحبابك من اكرادك واعرابك وقمت عنهم مقام المنشغل بخلوده عما سوى معبوده وقاموا عنك في محزنة تعصر القطرة من عصب تجملهم عبرة وتفجعا، وعلى قدر ما كان وفاؤك بحق الموت فيك هو خلوصك اليه بالانسلال من الصلات والارفضاض من التبعات كان استيفاء الموت لحقك في ذمة اصحابك هو اضافة الوقدة الی ادامة فكرهم فيك وتشديد الحرقة في اطالة ذكرهم لك وفتل اعصابهم بانشداد نزوعهم اليك. فاذا ما ادمت في دربك عين المتعشم والقيت الی مهبك اذن المتسمع وتوسلت بمغالطة النفس في قهر اختفائك ارتفع سدل الموت خانقا للعشم صارفا من صنوف الرجاء الى الياس في غير ذكراك الثابتة بضميري وهي مشرقة في ذاتها تزداد التماعا بخلد المحاور مع ظلال الموت: مغدقة بتعدد لوحاتها، يضاعف مقدارها وضوح دلالاتها على المعيار الخالص من شوائب الحياة في التحيز والتحامل فهي في حرز المؤتمن عليها من مظنة الامالة الى غير وجهتها وقاطعة بعصمة الموت لفرندها في البرهان علی سجاياك ونواياك وطواياك.
وما كان لهذا القلم الذي يحيل مداده نورا في سطورك ان يتشفع بالادلة في تنزيه انسيابه عن الميل، فانه قسما بالنون والقلم وما يسطرون لم اجد قط وسيلة أونى بفروض اخلاصي للاحياء من صدق المقال وما مرت بوهمي صورة لقبح النكاية بهم اشوه من التوائي عليهم في البلاغ، وخاطبت فيهم مدى العمر عرقا ينبض بمكامن فضيلتهم استفزه في مقارعة العروق النابضة بالعدوان في اغوار النفس الامارة بالسوء، فانت تعلم انه قد تقع كلمة الحق موقع القبول من قادر على الخير مانع للشر، ورب سانحة رفعت الخطرة الطيبة الى موطن القناعة في واعية تتسع استطاعتها لاكثر من اتساع توقعي فيكون حجبها في هذه الحالة حجبا لنعمة كبرى اماتها الاحجام. ولا ضرر على احد في خيبة الامل من كلام مخلص لايصل الاسماع الا ان تكون خيبة صاحبه في عقم نيته الطيبة، وتعلم اني صرفت خطابي عن المسكين الكادح في توفير كفافه فان غاية ما امنع من نهمه بيض دجاجة او قبضة من بصل، واقصى ما اشحذ من همته سعى في اماطة الاذى عن الطريق، وهو على ای حال لا يقرأ ما يكتب وقد لا يفهم اذا قرأ او يضيع في الكردية، ولربما خاب في العربية، ولما كان عزمي صدق في تحري الجدوى للناس بما اكتب فقد انحصر همي على وجه الضرورة في مخاطبة العقول المستنيرة في الهامات المنتصبة بين المناكب التي لها حول يخشى بأسها ويرجی نوالها. وانه لخليق بذكراك ان ينفتح فيها النجوى على لمحات منك تجلو مقامك في الاحسان وشجبك للاذى وبرك بالاباعد والاقارب وما الى مثل ذلك من خلائقك السمحة التي يحمل ذكرها بارقة من الامل في التأسي بها وقد اشتدت الحاجة الى تقليدك في اتباع (ادفع بالتي هي احسن) واصطناع التجاوز عن الخطأ والغص من الشطط وحمل الهفوة على السهو والنسيان فقد كنت تدأب في تضييق الفجوات وسد الثغرات واختزال المسافات بين القلوب المتنافرة وترد عذر مقترف المكروه على حكم الاحوال وتدعو بالمغفرة للمسيء بحسن نية او بسبب لايدفع وكان الله غفورا رحيما.
عرفتك عن كثب لاكثر من اربعين عاما انقضت اوائله في الحرب الثانية ودامت بقيته في سلم مشوب بالقلق تراوحت احوالها بين الشدة والفرج؛ وزاملتك في المجمع الكردي سبع سنين نبذر فيها ونعصر ونلتقي ايامها ولياليها متحاورين في المهام المرتبطة بالتزاماتنا المجمعية والمنشعبة من واجباتنا القومية والاجتماعية ونطرق كل باب من ابواب الكلام اتسعت له معرفة العصر وانجمته شبكة تعقيداته ونتباحث في اكثر الامور دقة وحساسية من دين وسياسة وقناعات في الحياة وسبل الى الخلاص: قطعنا مديات الكلام صعودا ونزولا وضربنا في جنباته يسارا ويمينا وغصنا في اغواره باديا وكمينا فما وجدتك ابدا ابدا ابدا جاوزت منطق الحكيم الساعي في رأيه بالحلم واللين ولم يرتفع صوتك مرزة واحدة فوق ما يسامح فيه طبعك الهادىء من حماس واكثر مما يبيحه توقيرك البالغ للعشير. واذا استفزك منطق لاترتاح اليه لم يظهر عليك من اثره الا مسحة من التوتر في اناملك الممسكة بورق اللف حول تبغ (بالك) و (شاور) في تلطيف مزاجك ثم تطاير ضيقك بالمسموع بددا مع الدخان المتصاعد من سيغارك. عفا آلله عنكِ في بعدكالمتنائي عن الخشونة: فقد عز بعد المعزة وندر فوق الندرة ان يكون سمعي التقط من كلامك نبرة تدغدغ عصبي فتسعفني في حزني عليك بامتصاص شيء من فجيعتي فيك، فهلا كان لك ندحة من مطلق الحسنى الى شيء من مألوف الخلق في الرقة والغلظة يستوي بك في خلدي على محمل العزاء في فراقك؟ فاني اتحايل على ثاري منك في وطأة موتك على جلدي وخلدي بالتعابث مع الكلام فاذا قالوا في تواضعك، نقضتهم بتعاليك على المتعالي، واذا اطالوا في زهدك اشرت الى طمعك في المائرة. واعارض اطنابهم في ادبك وعلمك وخلقك بالاطناب في بيات سعيك للاستتثار بالفضل والاحتكار للمحمدة والمسابقة الى الحسنى فأصفك بجامع ثروة في المعنويات الجليلة وطالب دنيا من القيم القويمة دونها البهرج الزائل من لألاء الدر والياقوت وخيلاء الجبروت والعظموت. واتهمك باتساع الطمع الاكرم الامثل حتی جاوزت فيه حرص البخيل على اكتناز الذهب فيا لك آللّه من راحل يثأر بعطره من زهره ويوكل لومه الى كماله ويستجار في التثريب عليه بأحلی شمائله وخمائله. كرمت من ميت ورث الحمد من فضله وهو حي.
وانكشف لي في محاوراتنا منهجك في رد المتحامل وصد المتهاجم فقد وجدته من مذهب (ابي ذر) حين اقذع فيه شاتم فقال له: (يا هذا لاتقذع ودع للصلح موضعا فانا لانكافيء من عصى آللّه فينا بأكثر من أن نطيع آللّه فيه) فقد كنت تحذف من قدرتك في الرد على المتجاوز مقدار ما يحذف هو من امكانه في زيادة الصفاقة. واني رأيتك تسوق من الاسباب في معرض الامتناع من الترحيب ببعضهم مالا يبلغ نصاب الاقناع فلما انكشف لي مع الايام معدنه علمت مقدار مجاهدتك للنفس في صرفها عن ذكر مثالبه فلربما كنت قد اقتصرت فيه على كلام اذا قيس الى حقيقة اخلاقه دخل في باب مدحه، غفر آللّه له واجزل فيه ثوابك.
ووجدت فيك خلة هي تاج الفضائل في المعايشة ولو شاعت بين الناس ولا سيما القادرين منهم على التأثير، لانطوت صفحات كثيرة وخطيرة من المصائب والخطوب فقد دفعك ميلك الفطري الى ترجيح التفاهم علی التخاصم وايمانك الجذري بافضلية التقارب على التحارب الى رؤية ما لاتراه الاعين المتحرية عن اسباب الشقاق والفراق فقد تهيأ لك ان النقطة التي يفترق فيها الاطراف هي ذاتها النقطة التي فيها تلتقي فالمفارق هي في الحقيقة مجامع، وسرة الخيطين المتصالبين التي تتباعد عندها الاذرع الاربعة هي مركز اتصالها. وبقدر ما يكون استمرار الاذرع الاربعة في الابتعاد بعضها عن بعض هو دوام في الشتات الى غير نهاية يكون رضاها بالاجتماع في الملتقى على المصلحة المتاحة انهاء لعمليات الذبح والسلخ والتقطيع في الاوصال البشرية.
ولست ازعم ان هذه الرؤية كانت وليدة فلسفة اطلت فيها تنظيرك وادمت فيها تجريبك فانك ما وقفت في الحياة موقف المصرف للامور والمشارك في الاحداث والمتراجح مع الامواج في معتكفك الذي ارضاك بالاقتصار علی مشاركة الناس في مشاعرهم الطاهرة وبذل المشورة المخلصة لطالبها وعرض الخير الذي انت قادر عليه والوقوف باكيا في المحزنة العامة والمنتبذ من المآدب مكانا قصيا، وانما هي رؤية الفطزة السليمة المفرقة بين السراء والضراء، الناجية من اسار الفلسفات الملغية للاحساس السليقي بالصحة والمرض، وسهل على ادراكها فيك بسبب التوافق بين اثر الفطرة في رأيك وبين مكانة المعاناة في قناعتي، فما من خلاف بين المختلفين الا في الاقل الاندر يخلو من وجه وفاق تجتمع عليه الضمائر المستنيرة فتدفع به النفرة والجفوة وتتخذ سمة المرور الى رحاب الوثام والركون الى سكينة السلام. وما يتجاوز عنه كل متخالف من خاصة مصلحته ثمنا في شراء الامان هو في اي معيار يرصد تذبذب الربح والخسارة في كفوف التعامل، فوز بالمغنم العظيم المتحصل من توفير الصرف في التخريب ومن حقن الدم المسفوك في المغالبة ومن ذهاب المصالح وبوار المتاجر وخراب المرافق من (بثر معطلة وقصر مشيد) فاذا استطاعت النفوس ان تنبذ الاثرة في تحكيم خالص المصلحة لمنع ما يشتجر من الخلاف وتركت حب القهر والرغبة في الارغام والمغالاة في المطالبة وقدرت اشراقة المآل في الرضا بالحق والاكتفاء بالممكن تهاوت العلل المعللة للهضم والقضم وكسر العظم ونثر النظم واشعال الحريق الا ما كان من الخلاف على المصلحة الحقيقية التي لا امكان للتصالح عليها في مفاهيم هذا العصر ونواميسه فقد تطابق فيه رأيانا من حيث انه شر لابد منه حتى تخطو الاخلاق العامة نقلة اخرى الى الارتفاع بالنوايا فوق مستويات الطمع المبرر والسطو المعلل ويكون نكاله في القياس الى مجموع النكال الارعن الناجم من السخف والسفه والغلظة والعزة بالاثم وما اليها كالخسارة الواقعة من التهام الذئب لشاة واحدة في دفع جوعه بالقياس الى فتكه بعشرات الشياه في اشباع غريزة الفتك فيه وما اكثر من مثلنا لصدق هذا النظر باشخاص نعرفهم جمعوا من الثروة ما لوا استغنوا به عن مشقات الكسب لكانت فيه الكفاية بل التخمة لحفدتهم من الدرجة العاشرة وهم مع ذلك ساعون سعي الموشك على الموت جوعا وعريا في ضم الحرام الى حرامهم بنهم لايعرف حدا او صدا ولو تفطنوا الى انه بمثل ما يضيق القبر عن غير الكفن الساتر للمكفون، تمج الدنيا الحديثة ثراء غير متوازن مع مستلزمات العصر وتلفظ شرها يخطف اللقمة من فم المحتاج وبطرا يستخف باهة الملهوف.
تحاورنا في ذلك وفي امثاله فتوافق او توازى فيه رأيانا ولربما عز التوافق والتوازي فيما لاخطر ينجم من تنوع الاجتهاد فيه وبقينا ابدا نرضع الود من حلمة الصداقة. وعهدتك دائما تسبق توقعي لحرصك على التزاماتك فلا نكثت قط ايا من وعودك ولا خيبت ابدا رجاء الناس فيك او اخلفت ميعادا موقوتا عليك.
ولم يكن الوفاء بالوعود والعهود من ثلث القرن الاول لسكناك ببغداد هينا على انسان مثلك لايملك لتنفيذها غير طاقة بدنه وفتقة ذهنه فاذا سعيت فيها طويت المسافات المقدور عليها بالمشي على القدمين توفيرا للافلس المعدودات في ثمن تذكرة الحافلة، واذا بعدت الشقة ركبت الحافلة قصورا عن اجرة التاكسي الثقيلة على الجيوب الخاوية. وكلفة الذهاب تتضاعف في كل مرة بالاياب من الموعود الى بيت الله حيث تنتظرك صفوف المصلين وراءك.
وكان مما تحسب له حساب المرتبط بالايمان المغلظة ان يكون رجوعك الى المسجد قبل موعد الصلاة بزمن يتسع لقطع مسافة الرجوع مشيا اذا عز الصعود الى الحافلة مع المتزاحمين بالمناكب. واكبرت فيك هذا الحرص على مواعيدك في اوقات الطاعة باكثر من اكباري لحرص المناضل علی المشاركة في مظاهرة او مسيرة فالالتزام باوقات الصلاة خط ممتد في العمر كله ومتكرر في اليوم الواحد اكثر من مرة ويزداد الوفاء به صعوبة مع التقدم في العمر وتزايد الازدحام، ولولا انك حفرت بصبرك في قرارة ارادتك آية (فاستقم كما أمرت) لكان مما يتيح لك التساهل مع النفس لجوؤك الى التأول من زاوية حكم الضرورة ورخصة الصعوبة وان آللّه يريد بالناس اليسر لاالعسر.
ماذا اقول في ختام نجواي اليك؟ وهل في القواميس ما يختتم به التوديع في ذكراك بعد الرحيل؟ كيف المنصرف من لذاذات الخواطر المنثالة من الانشغال بطيفك؟ إني اذا جلت بقلمي في تصوير مكانة جهادك الادبي في وجدان شعبك بنفضك الغبار عن كنوزه وكشفك الستار عن رموزه احتجبت بدنياها الجميلة عما سواها وطفت في خمائلها بين رياها ورؤاها عبر سهولها ورباها وعلى حواف سمائها في ذراها التقط من درها نجما في رجم الهموم العوابس واضم من زهرها تاجا على هام العرائس من بنات افكارك فلا انتهاء لي من اجتلاء وجه الحسن من اثارك واخبارك واطوارك.
فاذا صرفت عنك فكري الى الوداع عاد اليك قبي بتحية المشوق وقام انسه بك مانعا من الرجوع فما اصعب انفصامه عنك ثم ما اشد حاجتي الى استلال فكري وقلبي من مشهدك هنيهات فقد آن أوان تعزية أمنا كردستان فيك بعدما ثبت يقين موتك في الافهام وصح رحيلك عن الاحياء. ولي بسمع قومك همسة ينقلها اليهم قلبي وفكري_فأنك:
ديسان به كوردى زيندوو دەبیەوە
بوْ كورد لەو دونياش تىْ هەڵدەچیەوە!
«ستنبعث الى الحياة كرديا مرة اخرى»
«وتستأنف الجهاد من اجل الكرد حتى في أخراك»
(1) هو ضياء الدين مولانا خالد
العراق، الجريدة، #28-02-1985#
نووسینەوە و هەڵەچنی: زیاد ئەسعەد #17-09-2022# [1]