دجوار أحمد آغا
السياسة هي الطريقة التي يؤمّن بها الفرد والمجتمع احتياجاته المادية والمعنوية كلما كان المجتمع سياسياً، كلما كانت السلطة ضعيفة. تكمن السياسية في الحالة الأخلاقية التي يعشيها المجتمع من خلال الالتزام بالقيم الإنسانية مثل الحرية، العدالة، المساواة والحفاظ على البيئة. أي بمعنى آخر فإن السياسة هي عمل المجتمع من أجل إدارة نفسه بنفسه وتأمين احتياجاته الحياتية وحماية نفسه من أي اعتداء.
السياسة هي ظاهرة اجتماعية سليمة وهي عبارة عن قوة تنسيقية فريدة من نوعها تعكس حالة المجتمع الروحية والمادية، لكن السياسة في الكثير من الأحيان تم تخصيصها لفئة معينة من الناس بحيث أصبحت حكراً عليهم وليس بمقدور غيرهم أن يتدخلوا فيها. هذا الأمر هو الذي دفع بالمجتمع الكردي إلى اللامبالاة تجاه السياسة وعدم التفكير جدياً في مسألة تنشيط وتنمية عقله السياسي والبقاء أسير هذه الأفكار التي تم زرعها في عقول الأغلبية الساحقة من المجتمع. هناك عُرف ضمني متواصل على الدوام بين السياسة والعقل حيث تقدم السياسة حججها ويقدم العقل نفسه كحل لها بحيث تتشابك وتتلاقى وقائع السلطة والخطاب العقلي.
طرحَ إيمانويل كانط 1724 -1804 في نقد العقل المحض ثلاث أسئلة: ماذا أستطيع أنْ أعرف؟ ماذا أستطيع أنْ أفعل؟ ماذا أستطيع أنْ آملَ؟ والأسئلة الثلاثة تعود إلى السؤال الرابع: ما هو الإنسان؟ فكل ما يمكن أنْ يعرفه ويعمله ويأمله الإنسان، مرتبط بطبيعته البشرية، التي يصنعها هو لنفسه، لكننا لم نشاهد الإنسان الكردي بشكلٍ عام والسياسي خاصةً يسأل نفسه هذه الأسئلة ولا يتأمل الواقع الذي وصل إليه! على العكس من ذلك نرى كل من يؤمن بفكر معين يسعى من أجل سحب المجتمع باتجاهه حتى وإن كان على خطأ فقط من أجل إضعاف الطرف أو الأطراف الأخرى. الأيديولوجيا الكردية كانت حتى مرحلة قريبة كانت ساذجة بسيطة تسير وفق العاطفة أكثر منها وفق العقل حيث نرى غلبة الفكر العاطفي النظري على التفكير العقلي العلمي.
الإشكالية الرئيسة في العقل الكردي بشكلٍ عام هي أن الكردي الذي يتبنى نهجاً أو فكراً مخالفاً لجهة كردية أخرى مهما كانت، يجهل القيام بنقد سياسي عقلاني بنّاء يهدف إلى التغيير والإصلاح، إنما يحمل في قلبه ضغينة وحقد كبيرين على أخيه الكردي ربما أكثر من أعداء الكرد أنفسهم. الأمثلة كثيرة على قتل الكرد بيد الكرد منذ أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين والصفويين وصولاً إلى أيامنا هذه التي رأينا فيها كيف استخدم نظام صدام “الجحوش الكرد” لقتل الكرد وتدمير وحرق القرى الكردية وكذلك استخدام الأنظمة التركية المتعاقبة لما يُسمى ب “حماة القرى” الذين هم أيضاً جحوش في حرق وتدمير آلاف القرى والهجوم على مقاتلي قوات الدفاع الشعبي الكريلا، وهنا في روج آفا من يعطي إحداثيات تواجد وحركة وسير لمناضلين الوطنين الشرفاء هم أيضاً وللأسف كرد وليسو من المريخ.
كما هو معلوم فإنه من خلال الفكر يتولد الاختلاف في التفكير، وينتج عنها وفقاً للمادية الجدلية (الديالكتيك) وحدة الأضداد حيث الترابط والتكامل والحركة التي تكون في النهاية نتيجتها النقد. هذا ما نصبو إليه. كيف ولمن يتم توجيه النقد؟ وهل تمكن العقل السياسي الكردي من تقديم النقد الذاتي إن أخطأ في الممارسة أو التفكير حتى يتقبّل النقد؟ هذه الظاهرة الجميلة البسيطة والتي تسعى لتصحيح المسار أو تلافي العيوب والنواقص التي قد لا نراها في أنفسنا لم تجد بعد لنفسها مكاناً في العقل الكردي بشكلٍ عام والسياسي على وجه التحديد.
العقل الكردي بشكلٍ عام والسياسي منه خاصةً عانى من ضعف الرؤية وقصر النظر، خاصة في المراحل التاريخية والمنعطفات الخطيرة التي مر بها المجتمع الكردي على مر العصور. فهو كما أسلفنا سابقاً عاطفي أكثر مما هو فكري يعتمد المنهج العلمي في تحليل الأحداث ومعرفة الأعداء والأصدقاء حتى أن مسألة الخيانة أصبحت متداخلة مع شخصيته لدرجة أن البعض شبّه الكردي بطائر الحجل فلا تكاد تمر معنا ثورة أو انتفاضة كردية إلا ويكون فيها خيانة وعلى أعلى المستويات.
من أهم الأسباب والعوامل التي أبقت على العقل الكردي منغلقاً على ذاته دون أن يستطيع حتى تكوين ذاته السياسية التي يستطيع من خلالها إثبات وجوده للعالم، إنما يكمن في استمرار تلقيه لمعلوماته وأفكاره وتكوين ثقافته من خلال الأطر الحزبية الضيقة بعيداً عن تقبّل الآخر ونهل المعرفة من منابعها وهو ما أدى في النتيجة إلى سطحية هذا العقل وعدم قدرته على إيجاد الحلول للمشكلات والأزمات التي يعيشها مجتمعنا الكردي.
العقل السياسي الكردي ما زال مرهوناً بالفكر والأيديولوجيا الحزبية الضيقة ولم يرتقِ بعد إلى مصافي العقول المؤسسة والمكونة لكيانات لشعوبها ووضع الحلول لأزماتها. على العقل السياسي الكردي تشخيص المسائل الرئيسة في حياة المجتمعات بشكلٍ صحيح وأن يقترب شيئاً فشيئاً من الحوارات النقدية البنّاءة التي تحتاج إلى عقل منفتح سليم يتقبل الحوار السلمي ويتقبّل الآخر. عليه استيعاب ما يدور حوله جيداً وأن يعي ويدرك حجم وعمق الأزمة الفكرية التي يعيشها.
لكي نستطيع أن نُخرج العقل السياسي الكردي من أزمته البنيوية العميقة لا بد من مراجعة الذات الكردية بعيداً عن التحزب وإعادة عملية البناء السياسي والشخصية الكردية المؤمنة والملتزمة بالحوار السياسي والفكري واستقطاب الفعاليات السياسية المختلفة فكرياً والاجتماعية والثقافية والسير بها في الاتجاه الصحيح الذي يقوم على نقض كل ما هو مخالف للعقل السياسي الكردي ونعني هنا مصلحة مجتمعنا في عملية إعادة البناء وفق مبدأ النقد والنقد الذاتي.[1]