كانت الابتسامة تعلو وجهها، وعيناها تُصدِّران التفاؤل لكل من يحدق فيهما، كما لو أنها لم تبصر الحزن يوماً… أو كأن هذا الوجه، وتلك العيون يأبيان الاعتراف بالواقع، الذي يحاصرهما… لها جسد غزالة رشيق، وجمال الفراشة، وابتسامة ساحرة تدهش الصقور في السماء.
إنها “روناهي” ابنة عامودا المقاومة، مدينة السينما، التي كان لها حظٌ وافرٌ من اسمها، فكانت نوراً سطع من أعماق عامودا، روناهي التي تشربت روحها من الشجاعة، التي تمد تلك المدينة بها أهلها الأبطال، لتكون هي راية النصر رغم المؤامرات كلها، وتأخذ القوة من خصوصية مدينتها، والدسائس، التي لم تسلم منها.
صديقتي روناهي… صاحبة العينين العسليتين، خصلات شعرها الثائرة من تحت قبعتها تراقص الرياح، وعلى كتفها الأيسر صورة الشهيدة جيلان جودي، وعلى الكتف الأيمن صديقها الغالي، سلاح كلاشنكوف.
كتف يحاكي مسيرتها النضالية، التي تقودها جيلان جودي، ورفاقها الشهداء، من أجل بناء مجتمع أخلاقيٍّ ديمقراطيّ حُر، يحمي نفسه بنفسه بريادة المرأة والشبيبة، وكتف يترجم الأقوال أفعالاً.
لم تكن روناهي تحمل وطنها، ولا الشهداء على شفتيها فقط، كما يفعل أهل اليوم، أو تطلق وطنيات عن التضحية، وتُلقن غيرها، وتنسى نفسها، بل كانت تحمل الوطن، وعهدها للشهداء في قلبها، وآيات التضحية والنضال، كانت جلية في كل شيء، تقوم به حتى تعابير وجهها.
هذا ما كنت أشاهده في ربيع عمرها، وهي شامخة في حديقة الوطن، تناضل من أجل أن تسوق شجرة الحرية ببحر تضحياتها.
كنت أحمل كاميرتي، وأوثق ابتسامتها؛ لأستمد منها القوة، حينما تطرق الأحزان باب قلبي، فيما كانت هي تنتظر تحت أشعة الشمس الحارقة، اجتماع أهالي حي في مدينة منبج، لتقييم آخر الأحداث السياسية في ظل التهديدات التركية على المنطقة، وتطمئن قلوبهم، وتشدد لهم على ضرورة حماية المدينة، ارتوى كل شبر من ترابها بدم شهيد، وأن يكونوا أهلاً لتضحيات الشهداء، ويحافظوا على المكتسبات، التي تنعم بها المنطقة بفضل تضحياتهم، التي كانت درعاً يحمي الشعب والمدينة.
تعالت ضحكاتها عندما رأت عدسة كاميرتي، تحنط تلك اللحظات الجميلة، إذ كانت السعادة تملأ قلبها، وهي تحدث زملائها عن مواقف طريفة حدثت معهم، التفتت نحوي فجأة، ولفتني بذراعيها، وقالت بلهجة محببة:
-أنتو الإعلاميين ما عم تقعدو عاقلين.
ضحكتُ وقلت لها: -وأنتنَّ معشر المقاتلات، لا تكففنَ عن إعجابنا بكنّ، تبثنَ السعادة في قلوبنا، رغم الضغوطات، والمخاطر التي تواجهنها.
– شعارنا “المقاومة حياة” فمن الطبيعي أن تجدينا نضحك، ونحن في خنادق الحرب، هذه فلسفة حياتنا.
– بجمالية فلسفتكنَّ التي تعكسها روحكنّ، تتجه عدستي إليكنَّ، وهذا ليس ذنبي.
ضحكت، وقالت: -مشكلجية أنت، لا أحد يغلبك في الحديث.
بعد أن انتهى اجتماعهنَّ الذي دام لساعات متواصلة، سألتها: -متى، وأين الاجتماع القادم؟
ضحكت وقالت:
الصحفيون أسئلتهم لا تنتهي، لا أعلم، يمكنك الاستفسار من زميلتي؛ لأن هذا آخر اجتماع أعقده.
– لماذا آخر اجتماع؟
– أستعد للذهاب إلى التدريب، الذي سيكون مغلقاً، ومدته ستة أشهر.
– حسناً. موفقة عزيزتي، أتمنى لك التوفيق ودوام النجاح والنصر، سنفتقدك جداً.
– أنا أيضاً سأفتقدكم.
لكن في الحقيقة أنا سعيدة جداً بأني سألتحق بالأكاديمية العسكرية، فمن دواعي سروري أن أمارس التدريب لأنه شيء مهم في حياتنا، ويعدّ كالماء، والغذاء الضروري لنا؛ لنستطيع حماية مجتمعنا من العدو، ونكون الرياديين للرقي بواقعه عامة، وواقع المرأة على وجه الخصوص.
كان آخر لقاء بيننا، حينما ودعتني بحضنٍ دافئ، كدفء الأمان، الذي يحيطون به المدنية، وبأهلها.
كلما رأيت المقاتلات، كنت أرى ملامحها في وجوههنَّ، تعود لذاكرتي دائماً، عندما أذهب إلى المقاتلات
عندما أشاهد الشخصيات الريادية، اللواتي يأخذن القرار في المواقف الحاسمة.
بعد مرور عام ونصف على آخر لقاء بيننا، كان لا بد من صدفة تجمعنا، لربما ليست كما كنا نتمنى، لكن يبدو أن القدر ضرب موعداً -دون علمي كالعادة -لأتعثر بك في إحدى أزقة الفيس بوك، على ستوري لحساب لا يحمل اسمك حتى.
منذ أن فرقت الجغرافيا بيننا، ولهاثنا بخضم العمل، لم نعد نعرف شيئاً عن بعضنا… حتى جاء ذلك اليوم عندما رأيت صورة لك وسط أجواء حفلة ميلاد لأحدهم، وبجانبك فتاة جميلة، وأنتنَّ تضحكنَّ في صورة تجعل المرء يبتسم رغماً عنه… ودون تفكير، وتحت نار الشوق، التي أضرمتها فيّ تينك العينين، أرسلت لك رسالة رداً على قصتك:
-يا للسعادة أين أنتِ؟
– من؟
عندما سألتني من أكون؟ انتابني الشك، ألا يكون هذا الحساب، الذي لا يحمل غير اسمك حسابك حقاً، فقد يكون لصديقتك في الصورة، ولأقطع الشك باليقين سألت: -ألستِ روناهي؟
– بلى، من أنت؟
وبسعادة الكون كله، ولهفة العشاق عرفتك على نفسي، ولم يكن ردها أقلَّ حماساً من ردي.
بعد معرفة كل منا أخبار الأخرى، والاطمئنان عليها، سألتها كمن يسأل عن كنز:
– أين أنتِ الآن؟ – أنا في المنزل.
تفاجأت بردها، لأني أعرف روحها الثائرة، التي لا تقبع في مكاناً واحد كالآخرين، بل دائماً تتوق للتحليق في عنان السماء، صفعت ظنوني التافهة…. وقلت: مستحيل قد تكون في زيارة لعائلتها، التي طال غيابها عنها، إخوتها ووالدتها، بعد أن حمل والدها متاعه من الحسنات، والخير، الذي يشهد له القاصي والداني، وذهب للقاء ربه شهيداً.
لا بد من بعد هذا النضال في شمال شرق سوريا، والأكاديميات، والتدريب، أن تشتاق لزيارة عائلتها.
وفي خضم تساؤلاتي قاطعت حواري مع الهواجس والوساوس برسالة:
– وأنا مصابة حالية!
– أووو كيف؟ ومتى أصبتِ؟
قبل أن أضغط زر الأرسال، أرسلت لي صورة لها، صعقني منظرها… كاد الهاتف أن يقع من يدي، وأنا أنظر إليها.
وبتنهيدة مريرة مني، سألتني صديقتي جيان، التي كانت ضيفتي حينها في المنزل:
– ما الخطب؟
أردت أن أجيبها لكن الصدمة ربطت لساني في تلك اللحظة.
أعادت صديقتي سؤالها مجدداً: ما الخطب؟ ماذا حدث؟
أريتها الصورة التي ربطت لساني، ولعثمت كلامي، الذي لم يكن بمقدوره وصف الموقف..
قالت صديقتي جيان، منذ أكثر من شهر عندما كنت مريضة في المستشفى، رأيتها في السرير الذي كان بجانبي، كانت تئن من الوجع، لكنها كانت تبتسم وتدعي اللامبالاة، لكن الوجع كان قد وصل معها حد النخاع.
في تلك الصورة، كانت ترتدي قبعة مزركشة بالألوان العسكرية، وشعرها يداعب وجهها، وتلك الابتسامة، التي كانت تتحدى قسوة هذا العالم، والحزن الجاثم عليه لا تزال على عهدها… وكانت ترتدي بلوزة بيضاء، وفي عنقها قلادة بها صورة القائد APO، وكأنها تخبر الجميع قائلة:
– إني على عهدي، مع قائدي، وها أنا اليوم أتربع فوق كرسيٍ متحرك بساق واحدة، بعد أن غزا الطغاة أحلامنا التي تعدّ حقوقاً لغير شعبنا… وقسمتها لأربعة أقسام، التهمت تركيا كما التهمت ساقي.
اليوم أنا الشهيدة الحية، كما قال القائد قبل، أن أفتح عيني على هذا الوجود: بأن الرفاق الجرحى هم الشهداء الأحياء… نعم يا قائدي، اليوم أنا أحمل شهادتي على جسدي، اليوم جسدي يحكي مدى ارتباطي بنهجك، بعد أن خانني التعبير والوصف، أن أخبر العالم أن فكر قائدي يستحق التضحية بالروح وبالجسد، فأنا من ضحى بساقه ليسير شعبي اليوم على أرض روج آفا بحرية.
بعد أن قرأت هذه التفاصيل كلها، والابتسامة، التي كانت تعلو وجنتها، والصدمة المرتسمة في جلستها بساق واحدة.
أخبرتها:
– إن الموت أحب إلي من هذا المشهد، الذي أراكِ به عزيزتي؟
– نعم يا عزيزتي هذا ما حصل، الجميع انصدم بما حدث معي.
– كيف حدث ذلك؟ ومتى؟ وأين؟
– استهدفتنا طائرة تركية مسيرة في مدينة عامودا، عندما كنا في السيارة منذ أربعة أشهر، وعدت منذ أيام من مستشفى في دمشق كنت أتلقى العلاج هناك.
– فليمت العدو أمام عظمتكم، أتمنى لك الشفاء يا عزيزتي. – أشكرك.
ودعتها بعد أن أخذت رقمها الخاص بها، وشيعتني بابتسامة، وصوت ملؤه الحنان.
عندما ترى الأحزان والبلاء الذي حل في وطني… ترى جروح ومآسي العالم تافهة أمام حزنهم، ومقاومتهم والانكسار الذي لا يعرف طريقاً إلى قلوبهم.
سبحان واضع الصبر في قلوب عباده، وكأن صبرها يفوق الصبر ذاته.
الأمر الذي زاد فوق صدمتي صدمة، أنه عندما استهدفتهم الطائرة كانت تستعد لتشارك في مراسيم تشيع رفاق دربها، الذين استشهدوا أثناء محاربة داعش، نعم حتى الوداع لم يخلص لها، حتى اللقاء الأخير مع أصدقائها لم يكتمل، لقد ودعت ساقاها بين لحظة وغمضة عين، بين مقاومة بدأت في سري كانيه، وكادوا أن ينهوها على طريق عامود، لكن هيهات، لا تزال الابتسامة تعلو، وجنتيها وتقول:
– مهر قضيتنا غالي الثمن، وربما المعركة ليست سهلة ، لكنني لن أرفع راية الاستسلام.
في تلك الليلة، التي عرفت بها، ما حل بكِ في غيابي، طار النوم من عيني، وراحتا تسامران النجوم، بحثاً عنك، عن جمال قلبك، نقاء وروحك، شخصك، الذي بات نادراً في هذا الزمن، كانت دموع الصدمة، والحزن تذيب قلبي… حتى أمسكت قلمي، وأفرغت حبر تفاصيلك على الورق، تلك التفاصيل، التي لم تغادرني لحظة رغم الفراق، وكانت زادي، وملاذي.[1]