عبد الرحمن محمد_
في عامودا، وفي يوم من أيامها الجنونية، أو ربما العابقة بالشعر ورائحة السنابل، من عام 1957، كانت صرخته الأولى التي أسماها الكثيرون بالولادة، وبدت بعد ذلك إعلانا لبدء الخسارات المتتالية التي تجلت في خسران أيام العمر التي بدت مريرة بعد تلك الصرخة الموجعة، ولم تتوقف حتى بعد مغادرته لها قاصدا المنافي البعيدة ليستقر في السويد، التي ضمت شتات روحة المتعبة، وجسده المنهك.
محمد عفيف الحسيني، حمل عامودا وعبق سنابلها ورائحة خبز تنورها وكل أوجاعها معه، وحمل الكثير من خميرة الشعر والأدب من ينابيع عامودا، وهناك كانت ولادة محمد عفيف الشاعر، الذي أطلقت الغربة عنان قريحته، وفجرت ينابيع الإبداع لديه: “المنفى أعطاني الشعر، في السويد كتبتُ الشعر، في عامودا، كتبتُ الشعر العجول”، إذ كثيرا ما كان مصير ما كتبه وهو في عامودا المنع الرقابي، أو الرفض الذاتي”.
ما ميز محمد عفيف الحسيني، إنه ينتمي إلى جيل شعري ازدهرت فيه قصيدة النثر باللغة العربية، وتمكن منها، وروضها لنقل مأساة قومه من الكرد، والتعريف بقضاياهم وتاريخهم وآلامهم، في مرحلة معقدة حساسة، وتعمد الكتابة بالعربية رغم اتقانه الكتابة بالكردية لكنه كان يخشى ألا يبرع بكتابته بالكردية، كما نبغ في الكتابة بالعربية، وكان ديوانه الأول مشتركا مع الشاعر الكردي المعروف أحمد الحسيني، الذي شاركه الكتابة باللغة الكردية.
للشاعر أعمال عدة مميزة في الشعر، تتسم بأسلوب فلسفي عميق منها مجموعته “بحيرة من يديك” عام 1993 التي تضمّنت نصوصاً تحمل نزعة غرائبية نوعاً ما، في الجمل الشعرية، التي لا تترابط في ظاهرها، وتراكيبها، وارتباط بعضها، لكنها تترابط ضمنيا، وتبني قصة وهدفا ذا مغزى عميق، بالإضافة إلى أعمال أخرى مثل “الرجال”، و”مجاز غوتنبرغ” و”نديم الوعول”، وكتاب “كولسن”، إلى جانب “جهة الأربعاء: شطحات روائية”. كما صدرت أعماله الشعرية قبل فترة وجيزة، عن دار “هُنّ”، تحت عنوان “تحدّث معي قليلاً أيها الغريب”.
كذلك قدم حسيني للقارئ ما يشبه السيرة الذاتية في أسلوب سردي شيق، وممتع في كتابه “بهارات هندو أوربية”، عام 2020، وضمنه الكثير من تفاصيل حياته في بقاع شتى من البلاد العربية والعالم، منطلقا من عالمه الأجمل عامودا. وغلب على الكتاب الطابع الصوفي، والمشهد الروحي المتقشف العفيف.
تأثر محمد عفيف الحسيني بما أحاط به في صغره وصباه من فقر، ومن جو مشبع بالثقافة والعلم، وكذلك الكتب التي رأى نفسه محاطا بها، فأتى عليها قراءة وتمعنا، وتأثر كثيرا بكتب التراث، والكردي منها خصوصاً، وما كان يميل إلى التصوف منها على وجه الخصوص ك “ملايي جزيري” وسواه.
في الرابع والعشرين من آب عام 2022 وفي غوتنبرغ بالسويد، توقف قلب محمد عفيف حسيني عن الخفقان ليعلن راحته الأبدية، تاركاً إرثاً أدبياً لا يقدر بثمن، وهنا بعض من نصوصه:
/خطوات/
توابيت طيبة للزهور.
تدفعها فتيات صغيرات
بثقة مطلقة وندم
يقطعن الغامض
يتركن على التوابيت
أسفهن والحمرة الخفية
تستريح كسترة الشهيد
تفسر دمه ولسانه الجاف
في بقعة حزينة
في سلسلة
من خطواته لآخر مرة
وهي تلمع في كردستان
كفتيات صغيرات
وصامتات طيلة التوابيت.
/كردستان/
لحريتكِ البليغة
لصباحكِ الناقص. أمضي
مروياً بالتذكارات
منجرفاً كجروٍ صغير
خصباً كالأغاني
ملتبساً كأسئلة الصغار
وناشفاً كقرميد
عندما لا يضرب
غروبكِ ساعاتي
لا تتناثر ثلوجك عليَّ.
أختزل بدائيتي
ما بقي بين يديَّ من ظلال
من بوصلة لياليكِ
أو اعتذار قصير
مثل أسرار المرأة على زهر
مثل أقدامكِ الصغيرة والذهبية
تضرب فلاتي
وكما أموت…
ناقصاً من تموجكِ
ذاهباً إلى الأسود الأعمى
لصباحكِ الناقص…
شاحب أنا
في منتصف الوردة
وفي السيوف الميتة للقراصنة.
شفتي جميلة، لا يعبرها يقينكِ
فأزدحم… أزدحم بالشك
وأرتعش كثيراً
خلف حريتكِ البليغة
ناقصاً منها
رجل ينزف اسمكِ، أبداً…
/ولادة/
ولدتُ في الريح
وانحنيتُ كقوس على عينيكِ
في يدي المدائح
زهور الهندباء
والعطور الحارّة للشيوخ
قلتُ لكِ
أنا قميصكِ الموشّى بالأسف.
هناك رنيني
كالأقداح، يلتقطه المقامرون
واصطدام جسدكِ برغبتي.
أنا الراعي بناياتي الحنونة
وفجري المليء بالريح
والحليب
تقدمتُ إليكِ كجندي بغباره
ولونه الأخضر ك “المستنقعات”
أو الجدات
يعددن لكِ الشاي للراحلين إليكِ
كنا… الريحُ وأنتِ
والبحيرات الغارقة في ضوئكِ
ثم ولدتُ في الريحِ
وانحنيتُ مثل الجندي
وغباره الذي
غمر الجدات، وكاسات الشاي
والمدائح الحزينة لكِ.
[1]