ترتب زغيرة خيمتها وتنظفها في كل يوم، تحاول أن تضع أشياءها بأماكنها، وعبثاً تحاول، سرعان ما تعود “مكركبة”ً، تمتعض المرأة فتجلس أمامها، يأخذها الشرود لأكثر من ثلاث سنواتٍ خلت.
تتذكر السيدة منزلها في منطقة #تل أبيض#، لم تفارق أزهارٌ في بيتها مخيلتها يوماً، ورائحة تراب “الحوش” و”النجيلة” (نوع أعشاب)، في هذه الأثناء تلتفت برأسها للخلف، فترى محتويات مكركبة، تقول إنها أشبه بحياتها آخر ثلاث سنوات.
زغيرة الحمد (25 عاماً)، نازحة في مخيم تل السمن، شمالي #الرقة#، منذ ثلاث سنوات، ولديها ثلاثة أطفال، لم تفقد الأمل بالعودة إلى منزلها، وتمثل العودة “الحلم الأسمى” لها.
لكن لا تتمكن من العودة، لاسيما أنها خرجت بعد تهديدات لحياتها، كان الأمر بدايةً عند دخول فصائل المعارضة المسلحة الموالية لتركيا، لمنطقة تل أبيض، فصاروا يضيقون على عائلتها، لأن زوجها كان في صفوف قوات سوريا الديمقراطية.
ويصادف التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر، الذكرى السنوية الثالثة للعملية العسكرية التركية بمشاركة فصائل مسلحة موالية لها، ضد منطقتي سري كانيه (رأس العين)، وتل أبيض.
بعد أيام من العملية العسكرية، سيطرت تركيا والفصائل على المنطقتين، أدت لنزوح نحو 300 ألف شخص، بحسب إحصائيات الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا.
“أريد بيتي”
لم تترك “الحمد” حينها منزلها الذي كانت تسكنه برفقة طفلها ووالدة زوجها، لكن بعد أيام، داهمت قوة من فصيل “أحرار الشرقية”، المنزل، “بذريعة” وجود سلاح لزوجها.
حاولت إقناعهم أن زوجها فقد حياته أثناء الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وسلاحه كان معه، لإبعادهم عن المنزل، “لكن السلاح لم يكن مرادهم”.
وتضيف: “فتشوا منزلنا كانوا يبحثون عن المال، وجدوا جناد مسدس، هددوني إذا لم أُعطهم السلاح سيقتلونني، وبعد ملاسنة بيني وبينهم، أتوا بقوة عسكرية وسيطروا على بيت شقيق زوجي وجعلوه نقطة عسكرية”.
وأمام رفضها الخروج من بيتها، وكثرة دوريات الفصيل ضغطت عليها “حماتها” للخروج، “سيقتلونك أنتِ وابنك”، فنزحت السيدة إلى قرية الأسدية شمالي الرقة، وكانت بداية الرحلة.
انتقلت “الحمد” إلى مخيم تل السمن، مع بداية تأسيسه، منذ ما يقارب الثلاث سنوات، حيث تعيش وحماتها التي أصيبت بالعمى كمداً لفقدان ابنها، بخيمة لا تقيهم حرارة الصيف وبرودة الشتاء، حيث لا سند لها، معتمدةً على الإعانات الإغاثية، التي تقدمها منظمات إنسانية.
تعبر “النازحة” عن معاناتها، “لما تسند ظهرك على الحيط، مو متل لما تستند ظهرك على جلال”.
تتذكر السيدة العشرينية تفاصيل منزلها، تكابر وتحبس دموعها في أحداقها، لكن غضباً وألماً جامحاً يجبر شفتاها على الارتعاش، تغمض عيناها وتبتلع غصتها، وتتحدث عن معاناتها بجبروت، وخاصة أمام سؤال طفلها البكر “متى نعود لبيتنا”.
وتضيف: “هذه الخيمة مو دائمة، وهذه الأرض إلها أهل، أريد بيتي”.
قصف لا يتوقف
والعام الماضي، أشار تقرير نشرته رابطة “تآزر” لضحايا الاجتياح التركي لشمال شرقي سوريا، إلى أن أقل من 15% من سكان سري كانيه (رأس العين) عادوا إلى منازلهم بعد سيطرة تركيا وفصائل موالية لها على المنطقة.
وفي مخيم تل السمن الذي افتتح أواخر عام 2019، لاستقبال نازحي تل أبيض وسري كانيه، يشاطر أكثر من ستة آلاف شخص، موزعين على أكثر من 1200 عائلة، الألم ذاته.
ولم يفقد هؤلاء أملهم بالعودة إلى بيوتهم وأراضيهم، رغم حلة النزوح التي طالت عليهم، إلا أن تصاعد واستمرار العمليات العسكرية التركية فيها، يثير مخاوفهم ويبقيهم متعلقين بالأمل فقط.
ويفضلون تحمّل قلة الدعم والظروف الصعبة التي يواجهونها، على التضحية بعائلاتهم والعودة دون ضمانات، ليجدوا أنفسهم مجبرين على المكوث والبقاء فيه لعدم قدرتهم على شراء أو استئجار بيوت.
ولم تتوقف الهجمات التركية على مناطق شمال شرقي سوريا حتى بعد سلخ مناطق عفرين وسري كانيه وتل أبيض بذرائع إنشاء مناطق آمنة وهو ما دحضته تقارير حقوقية محلية ودولية.
وتتعرض قرى خط التماس بين قوات سوريا الديمقراطية والقوات التركية والفصائل المسلحة المولية لها، لقصف متقطع الوتيرة بين الحين والآخر.
وفي ذات المخيم، الخيمة التي باتت تثير مواجع زغيرة، وجدتها أميرة اليوسف (23 عاماً)، نازحة من ريف بلدة عين عيسى الشرقي، شمالي الرقة، ملاذاً آمناً وفضلتها على منزلها الذي يتعرض للقصف بشكل شبه يومي.
تقول “اليوسف” التي نزحت منذ نحو شهرين إلى مخيم تل السمن، إنها بدأت تتردد لطبيب نفسي جراء ما عانته من أهوال ورعب نتيجة القصف المفاجئ، “تخيل أن يُهدم أحد جوانب غرفتك وأنت نائم، وما يرافق ذلك من أصوات مهوّلة”.
وتضيف: “بينما كانت السماء مليئة بالدخان الأسود ولا أسمع سوى دوي انفجارات القذائف في كل مكان في بيتي، زحفتُ إلى مطبخي مسرعةً والشظايا تتناثر من حولي، لم يتوارَ إلى خيالي في ذلك الحين سوى الطريقة التي سأموت بها”.
أُجبرت “اليوسف” وكثير من جيرانها على ترك ممتلكاتهم ومغادرة القرية أمام توالي القصف لقريتهم، منذ ثلاث سنوات، وسط صعوبة العودة في ظل استمرار القصف، “كل مكان في بيتنا صار فيه فتحة لشظية”.
إعداد وتحرير: زانا العلي[1]