سيامند حاجو
بحث الكثير من الصحفيين والإعلاميين والمهتمين بتاريخ منطقة (كوردستان سوريا)، وكتبوا مقالات أو نشروا مواداً مرئية وتقارير تتحدث عن تفاصيل موقعة أو معركة بياندور، والتي سميت بذلك نسبة إلى قرية بياندور، التابعة إدارياً لبلدة تربسبيه (القحطانية)، وتبعد عن مدينة #قامشلو# 12 كيلومتراً في الزاوية الشرقية الشمالية من حدود الجزيرة السورية.
الشاهد من الأمر، أنني تابعت مؤخراً عدّة مقالات وأفلاماً وثائقية، تحكي أحداث بياندور، ومن وجهة نظري الشخصية، فإن نسبة كبيرة من هذه الوثائق، تحوي معلومات غير واقعية، وهو ما أعتبره تشويهاً للتاريخ بفعلٍ قاصد (شكلٍ متعمّد).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الأمر باعتقادي، غير مهم بالنسبة للتاريخ الكوردي، لكنه محط اهتمام سكّان المنطقة المحليين، وذلك لما له تأثير على رسم الحدود السورية - التركية آنذاك في منطقة الجزيرة السورية.
ومن باب التصحيح والتوضيح مستدلّاً بالوثائق الرسمية، أودّ رفع الشبهات والروايات المغلوطة التي شابت تلك الحادثة، لما يعدّ تشويهاً وعاملاً سلبياً على التاريخ بشكل عام، وعلى المجتمع بشكلٍ خاص، إلى جانب تأثيره على جهود الفئة التي تجري أبحاثاً أكاديمية عن تاريخ المنطقة.
وللأمانة العلمية، اعتمدت في الردّ على الوثائق الفرنسية المؤرشفة ووسائل الإعلام في تلك الحقبة الزمنية، وكذلك على منتوجات عدة أكاديميين غربيين، منها أعمال الدكتور جوردي تيجيل، والدكتورة إيفا سالفيسبيرغ، الدكتور كريستيان فاليود، ومجلة اوغينته موديغنو الإيطالية وصحيفة الحقيقة اللبنانية إصدار (2 أيلول/ سبتمبر 1923) ومقالة كتبها لويس ديليمان، رئيس الاستخبارات الفرنسية في قامشلو خلال الفترة (من عام 1929 إلى 1932)، علماً أن جميع المصادر المذكورة، تطرقت في مضمونها الكتابي إلى أحداث “بياندور” ضمن أبحاثها وموادها.
معركة بياندور بإيجاز
في شهر تموز/ يوليو من عام 1923، قام عدد كبير من العشائر الكوردية السورية والتركية بالهجوم على جنود تابعين للجيش الفرنسي في قرية بياندور، التي اتخذ الفرنسيون تلّها الترابي ثكنةً عسكرية تشرف على تلك المنطقة في سنجق آشيتا، حيث قدّر عدد أفراد العشائر الذين قاموا بالهجوم بحوالي 3000 شخص. وأسفر عن ذلك الهجوم، مقتل 3 ضباط فرنسيين، وقرابة 41 عسكرياً تابعاً للجيش الفرنسي من الأصول السورية، الجزائرية، والمغربية.
أود التنويه هنا، بأن هذه الحادثة كانت سابقة في تاريخ المنطقة، كونها المرة الأولى التي اجتمع فيها هذا العدد الكبير من وجهاء وأفراد العشائر وقيامهم بمهاجمة الجيش الفرنسي وتكبيله تلك الخسائر المذكورة.
وبعد هذا الحدث مباشرةً، قامت الحكومة الفرنسية بتحقيق دقيق ومُفصّل مع أهالي قرية بياندور والقرى المحيطة بها، بالإضافة إلى الجيش والقوات التابعة لها. وجميع التحقيقات والتصاريح والإعترافات موجودة في الأرشيف الوزارة الخارجية الفرنيسة في باريس بمنتهى الدقّة حتى الآن.
عقب انتهاء التحقيقات ومراجعة الأحداث من قبل اللجنة المكلفة بالتحرّي والتحقيق، أكد الفرنسيون بأن الحكومة التركية المتمثلة بأتاتورك آنذاك هي التي كانت تدعم هذا الحراك عبر ضابط الحكومة التركية إسماعيل حقي -الكوردي الأصل، من منطقة دياربكر (آمد)، المحاذية للحدود السورية حالياً، والذي كان حينها يدير منطقة نصيبين، كما أظهرت التحقيقات أيضاً وجود جنود تابعين للجيش التركي بين أفراد العشائر المهاجمين.
بحسب الوثائق المذكورة آنفاً، فإنها أثبتت أن المهاجمين من أفراد العشائر كانوا متمثّلين تحت قيادة حاجو آغا - (المصدر: رسالة كولونيل اندريه في 6 آب 1923، كذلك رسالة الجنرال فيغانت في 19 آب 1923، وايضاً مقالة في مجلة اوغينته موديغنو 15 أيلول 1923- الذي كان على علاقة جيدة وتنسيق مباشر مع الضابط إسماعيل حقي. وبعد قمع انتفاضة حاجو آغا في الشريط الحدودي داخل تركيا عام 1926، قام بتسليم نفسه إلى الجيش الفرنسي في سوريا، وقدّم إليهم وثائق رسمية تثبت بأن الحكومة التركية كانت المخطط الرئيسي لأحداث “بياندور” عن طريق الضابط إسماعيل حقي، الذي كان يدعم أفراد المنطقة والعشائر بالسلاح.
فضلاً عن ذلك، أظهرت التحقيقات نتيجة أخرى، إذ تبيّن عدم معرفة الفرنسيين بحساسية وخصوصية المنطقة، حيث كانوا يتعاملون بأسلوب قمعي وابتزازي مع سكان وعشائر وعوائل المنطقة. هذا الأسلوب أدى إلى جوّ مشحون سائد في المنطقة عامة، إضافة إلى استياء السكان المحليين وعدم رضاهم بالتواجد الفرنسي، الأمر الذي جعل من فكرة التكتل وتنفيذ الهجوم أكثر سهولة ورواجاً بين الأهالي.
ما أهداف الحكومة التركية من دعم هذا الحراك ضد الفرنسيين؟
كلّنا نعلم بأن الحدود الشمالية لسوريا، كانت في عام 1923 قيد التخطيط والرسم ولم يتم الإنتهاء منها بعد، وقد شُكّلت لجنة من قبل الفرنسيين والأتراك، لتقوم بتخطيط ورسم الحدود النهائية لشمالي سوريا، وكان الأتراك يخططون آنذاك بتوسيع دولتهم جنوباً وذلك عبر فرض التراجع على المخافر والجيوش الفرنسية نحو الجنوب من خلال دعم العشائر والعوائل لتقوم الأخيرة بدورها بالهجوم على مقرات الفرنسيين.
توزيع الجيش الفرنسي في منطقة الشمال السوري قبل أحداث “بياندور” كان كالشكل التالي: تمركزوا في البداية بمدينتي ديرالزور والحسكة، وخلال شهر آذار/ مارس ونيسان/ أبريل من العام 1923، باشر الفرنسيون بإرسال جزءٍ من قواتهم الى المناطق التي تقع شرقي نصيبين من بينها قرية بياندور والقرى المحيطة بها، حيث بنوا إدارات تابعة لهم وعيّنوا شخصاً في منصب قائممقام القرى التابعة للمنطقة الشمالية، في خطوةٍ لم تلق رضاً وترحيباً تركياً، لأن المنطقة المذكورة كانت تحت إدارتها في تلك الحقبة، مما سبّب عدداً كبيراً من الإشكاليات آنذاك.
كتب الجنرال الفرنسي بيوليت في تقريره بتاريخ 24 آب/ أغسطس 1923، أن الأتراك أعلنوا في آيار/ مايو من ذات العام، عن مكافأة مالية لمن يقتل القائممقام المعيّن من قبل الفرنسيينن في بياندور، وقد تم ذلك في الواقع، حيث قُتل القائممقام (لطفي بك) على يد شخصٍ من أتباع حاجو آغا. بعد قتل القائممقام وبتاريخ 27 حزيران 1926 قُتل أيضاً جنديٌ تابع للجيش الفرنسي في منطقة عامودا.
وفي رسالة الجنرال فيغانت بتاريخ 19 آب/ أغسطس 1923 (الوثيقة 6)، ذكر فيها أنّ الضابط إسماعيل حقي قام بتسليح حاجو آغا يوم ال 14 تموز/ يوليو 1923، أي قبل أربعة أيام من معركة “بياندور”.
لماذا عمل حاجو آغا مع الأتراك؟
للتنويه.. يجب أخذ ظروف الحقبة التي نناقشها بعين الإعتبار عند تحليل اسباب عمل حاجو آغا مع الأتراك، ففي بدايات عام 1920.
أولاً، لم يكن الفكر الكوردي القومي منتشراً في المنطقة، ولكن بعد هذه الحقبة الزمنية حاجو آغا وعدد كبير من الأشخاص الآخرين، قاموا بتبنّي الفكر الكوردي القومي والعمل على نشره وكانت علاقتهم جيدة مع حكومة أتاتورك المنتخبة أواخر العشرينيات من القرن الماضي، كمثال على ذلك: إحسان نوري باشا الذي كان القائد لثورة آرارات التي تعد من الثورات الكوردية الكبرى، والذي كان مقرباً من حركة أتاتورك وداعماً لحركته حتى نهاية 1920 وكان ضابطاً عثمانياً يخدم في ألبانيا واليمن بالإضافة إلى مشاركته في الحرب العالمية الأولى ضد روسيا.
ثانياً، في عام 1920 كانت هناك منافسة قوية على رئاسة وقيادة العشيرة والمنطقة التي ينتمي إليها، وبدعم السلاح التركي كان حاجو آغا قادراً على مواجهة قوات دولة كبيرة وذو نفوذ وشأن كبيرين مثل فرنسا وكانت تلك نقطة قوة بالنسبة للقيادي في ذاك الوقت مما جعله المرشح الأقوة لقيادة العشيرة والمنطقة كونه قام بمواجهة الفرنسيين ب 3000 شخص فقط، مما اعطاه المكانة الاجتماعية وأحقية قيادة العشيرة والمنطقة، من وجهة نظري لولا أحداث “بياندور” لما كان حاجو آغا قادراً على الإنتفاضة ضد الأتراك في عام 1926.
مقتل محمد عباس آغا في قرية بياندور
قبل أحداث بياندور، أي قُبيل هجوم العشائر على الفرنسيين، قام الفرنسيون باعتقال سليمان عباس آغا ومحمد عباس آغا بتاريخ 18 تموز/ يوليو 1923 في مخفر “بياندور” بحجّة نهُ قد تم سرقة قطعة سلاح لأحد الاشخاص الذين يسكنون قرية عباس آغا، ولأن محمد وسليمان كانا مالكا القرية ومن مسؤوليتهما حماية ممتلكات الأهالي لذلك تم اعتقالهما. من وجهة نظري هذه كانت فقط حجّة لاعتقالهم، بينما السبب الرئيسي كان حصول الفرنسيين على رسالة من قبل إسماعيل حقي وحاجو آغا إلى نايف عبدالرحمن (كبير عشيرة طيّ العربية) وكان محتواها دعوة نايف للإنضمام إليهما والحصول على موافقته بانضمام سليمان عباس آغا أيضاً.
ويؤكد الجنرال بيوليت ضمن تقرير كتبه في 24 آب/ أغسطس 1923، بأن عائلة سليمان ومحمد عباس آغا تعتبر عائلة غنية اقتصادياً وذو نفوذ وسلطة في المنطقة، ولكنهما على علاقة جيدة مع الضابط اسماعيل حقي والحكومة التركية. كما ذكر في تقرير استخباراتي بأن في 27 آيار/ مايو 1923 خطط حاجو آغا مع 100 شخص تابعين له بالهجوم على الفرنسيين من قرية دوكرى التي كان تملكها عائلة عباس آغا.
يجب ألا ننسى أيضاً، أنه قبل أحداث بياندور كانت هناك معارك عديدة بين أفراد العشائر الكوردية والفرنسيين (كما ذكرت أعلاه) بدعم من الضابط اسماعيل حقي؛ كل هذه الأسباب دفعت الحكومة الفرنسية آنذاك باعتقال محمد وسليمان عباس آغاً كرسالة إنذارٍ لبقية عشائر المنطقة السورية وعدم التفكير بالتحالفات مع إسماعيل حقي والعشائر الأخرى التي تسكن تركيا ضد الفرنسيين، وكذلك أرادوا أن يجعلوا منهما عبرةً لكل شخصٍ يفكّر بالتمرد.
في نفس اليوم الذي اعتقل فيه محمد وشقيقه سليمان عباس آغا، يكتب الكولونيل اندريه بأن حاجو آغا مع أتباعه قاموا بالهجوم على “بياندور” مساءً في ذات يوم الإعتقال.
بعد الهجوم كتب الجنرال بيوليت في تقرير بتاريخ 24 آب/ أغسطس 1923، بأن الملازم غيشاغد، أعلن حالة الطوارئ (القانون العسكري) واعتماداً عليه حُكم على سليمان ومحمد عباس آغا بالإعدام لأن حالة الطوارئ المعلنة تسمح بتنفيذ عقوبة الإعدام، وأعدم محمد عباس آغا بتهمة التجسس وليس بسبب السرقة التي حصلت في القرية كما أدعي ذلك.
في الرسالة ذاتها، كتب بيوليت في اليوم التالي للمعركة صباحاً انسحب المهاجمون، وأراد قتل سليمان أيضاً، ولكن بسبب تدخل ووساطة (نايف) كبيرعشيرة طيّ وقائممقام بياندور الجديد، لم ينفذ حكم الإعدام على سليمان، ولكن بشرط دفع فدية قدرها 200 فونت، 8 أحصنة، و4 أبقار. لقد استغل الأتراك القسوة التي مورست على سليمان ومحمد عباس آغا، بعدها يتواصل عباس مع حاجو وتتكشف الأحداث.
الهجوم على الثكنة الفرنسية في بياندور
في الهجوم الأول على الفرنسيين بتاريخ 18 و19 تموز/يوليو 1923، الذي قام به حاجو آغا وأتباعه، كان سليمان ومحمد عباس آغا معتقلَين لدى الفرنسيين في مخفر بياندور، وهذا كان سبب عدم مشاركتهم في الهجوم.
أما بتاريخ 21 و22 تموز/يوليو 1923، هجم حاجو آغا على بياندور مرتين متتاليتين. بعدها تم إطلاق سراح سليمان عباس آغا حيث قام بالمشاركة مع حاجو آغا في الهجوم على القرية، ابتداءً من تاريخ 28 تموز حيث استمر الهجوم لمدة 32 ساعة، حسب تقرير الجنرال بيوليت، ويعد الهجوم الأكبر، إذ قتلوا 9 أفراد من الجيش الفرنسي، وذكر بأن الفرنسيين قلتوا 100 شخص من أفراد العشائر.
جميع التقارير الفرنسية تؤكد مشاركة الجنود الأتراك في هذه الهجمات، متخفين بزيٍّ مختلف.
المعركة الكبرى لم تكن في بياندور بل كانت بالقرب من نهر عباس (وتقول تقارير فرنسية أخرى أن مكان المعركة كان في محيط قرية تربسبيه) بتاريخ ال 31 تموز/يوليو 1923، وقد شارك في الهجوم خلال المعركة 3000 شخص ضد فرقة إمداد فرنسية كانت في طريقها للدعم، وكان المخطط لهذه المعركة الضابط إسماعيل حقي وفي هذه المعركة قُتل 31 عسكري تابع للجيش الفرنسي و3 ضباط فرنسيين.
رسالتا الجنرال فيغانت والكولونيل اندريه، وكذلك الضابط ديليمان ومجلة أوغينتو موديغن، تؤكد بأن المخطّط للمعركة الكبرى كان الضابط إسماعيل حقي وكذلك بمشاركة الجنود الأتراك، حيث كان القائد، هو حاجو آغا.
وورد في رسالة الجنرال بوليت 24 آب/ أغسطس 1923، أن الفرنسيين قصفوا المنطقة ب16 طائرة حربية بتاريخ 4 آب/اغسطس منعاً من توسّع هذه الحركة التمردية. [1]