*رستم محمود
على حياء تحاول وسائل الإعلام التركية نقل الأخبار عن المجزرة البيئية التي تُمارس في ولاية #شرناخ# الجبلية، جنوب شرق البلاد، ذات الأغلبية السكانية الكردية المطلقة. حيث أدت عمليات تقطيع أشجار الغابات في تلك الجغرافيا، خلال الشهور الستة الأخيرة فحسب، إلى القضاء على أكثر من 7 بالمئة من الغطاء الشجري للولاية.
في محاولتهم لمقاربة هذه الكارثة، فإن الصحفيين والكتاب وقادة الرأي والناشطون البيئيون الأتراك، يحاولون قول أشياء تتعلق بالبيئة والاقتصاد وما شابه، لكنهم يتلعثمون تماماً في قول شيء صريح عن: أنه سلوك يشبه ما كانت تفعله أنظمة الاستعمار الأكثر تخلفاً تجاه الجغرافيات والسكان المُحتلين، الذين كانوا دون أية قيمة ومعنى واعتبار، وممن كان يمكن التجاوز والقضاء على مختلف أشكال حقوقهم، بالذات لو كان ذلك يدخل في خدمة تأبيد الهيمنة المطلقة لهذه الدولة على هؤلاء الخاضعين. كل ذلك، مع وجود فضاء عمومي من القومية الفوقية، الممزوجة بكل عوامل الذكورة العنيفة.
يستنكفون عن قول هذه الأشياء، حتى لا يعترفوا بحقيقة وجود شعبين في هذه الدولة، أو دولة قاهرة وجماعة أهلية مسحوقة الحقوق، على الأقل. هذه الثنائية الحاضرة والمؤسِسة لوعي الدولة التركية وسلوكها، منذ قرن وحتى الآن. وإلا، ما معنى أن تُقطع الأشجار وتدمر الغابات في هذه المنطقة من البلاد بالذات، وهي الأفقر على الإطلاق بالثروة الشجرية على مستوى البلاد، إذ لا تزيد نسبة مجموعة مساحات الغابات في المناطق ذات الأغلبية الكردية في تركيا عن 10 بالمئة من مجموع مساحة غابات تركيا، رغماً أن مساحة المناطق الكردية تزيد عن 25 بالمئة من مساحة تركيا.
ثمة جلافة وجدانية وسلوكية في كل ذلك، مصدرها عدم اعتبار عميق لأية قيمة لأناس المكان وحقهم الطبيعي في العيش ببيئة وجغرافيا ذات قيمة جمالية وحياتية وصحية، جلافة متأتية من نزعة قومية صلبة وعدوانية، مركبة مع قدرة واستعداد دائم لتنفيذ مخططات الهندسة السكانية والجغرافية والبيئية، وفقط في سبيل تحقيق ما تكتنزه وتعمل عليه الدولة في باطن وعيها، ألا وهو إلغاء الوجود الكردي وشراكته في هذه الجغرافية والدولة.
لا يتعلق الأمر فحسب بعشرات الآلاف من الأشجار المقطوعة في ولاية شرناخ يومياً، والتي تُنقل على مرأى السكان المحليين، الذين يتخيلونها وكأنها جثث ذويهم الآتية من المقاصل، بل يمتد لأن يكون سلوكاً تنفيذياً وعقيدة سياسية تقليدية لقادة وأشخاص ومؤسسات الكيان التركي تجاه الكرد، داخل تركيا وفي كامل البلدان والجغرافيات المحيطة.
منذ نصف قرن وحتى الآن، وبالرغم كل النداءات والتوسلات، لم تتوانَ الدولة التركية عن تدمير أربعة آلاف قرية كردية في عموم البلاد، بدعوى تأييد سكانها لمقاتلي حزب العمال الكردستاني. الملايين من سكان هذه القرى هجرتهم إلى مدنها الداخلية المتروبولية، ليتحولوا إلى مجرد عمالة رخيصة في مصانع وشركات طبقة الأغنياء الأتراك الجدد، الذين صعدوا في ظلال قادة الانقلابات العسكرية، وكانوا شركاء لهم. فيما اندثرت قراهم وأعمالهم والبيئة الصاخبة بالحياة، حيث كانوا. هذه الحقيقة المُرة التي اعترفت بها الدولة التركية نفسها عام 2009، عبر تقرير شهير، وقررت دفعت تعويضات مالية رمزية لهؤلاء السكان، لم تكفيهم كأجرة طريق، ليعودوا ويشاهدوا أطلال بيئتهم وبيوتهم التي دُمرت.
لكن الدولة التي أصدرت ذلك التقرير، والتي كانت في ذروة انفتاحها على المسألة الكردية وقتئذ، كانت في ذلك الوقت بالضبط مُصرة تماماً على تنفيذ مشروع سد إليسو في قلب المناطق الكردية، دون أي اعتبار لمئات القرى وملايين الأشجار التي تم جرفها، ومعها الآثار التاريخية الأكثر أصالة في منطقة حصن كيفا، التي كانت الشاهد الأبرز على حقيقة الوجود التاريخي الكردي في هذه الجغرافيا.
يمكن سرد أمثلة لا تحصى عن ارتكابات من مثل ذلك، مثلاً عن التقرير الذي نشرته منظمة PAX للسلام ومراقبة النزاعات، والذي قالت فيه إن عمليات الجيش التركي في إقليم كردستان العراق قد أدت لإحراق 100 ألف دونم من الغابات، هي المناطق الأكثر ثراء بالتنوع البيئي والحياة البرية والأنواع الفريدة من الحيوانات على مستوى العالم. أو عن التقارير الدورية حول العمليات المنظمة لقطع أشجار الزيتون في منطقة عفرين الكردية/السورية المحتلة من تركيا، ومثلها مئات النماذج المماثلة.
مجموع ذلك هو القومية الذكورية، التي لا تملك أي رادع لأن تُجفف البحيرة وتخنق السمكة. دون أية روادع سياسية أو قضائية تستهدف المحاسبة، وطبعاً دون أية هواجس وجدانية وأخلاقية، فالاستباحة والتحطيم يجريان براحة تامة، داخلية وخارجية.
يحدث ذلك بيسر بالغ، لتراكب عاملين شديدي التأثير، ما كانت هذه الفظائع أن تُنفذ لولاهما.
فمن جهة ثمة استسلام تام من قِبل المجتمع التركي لصالح نزعة الدولة وسلوكها ونوعية علاقتها مع سكانها الكرد. فالسيرة الطويلة والقاسية للتربية القومية، في المدارس والجامعات والجيش ومؤسسات الحكم والداعية، خلقت نوعاً من النموذج العقلي والسلوكي العمومي الباراديم، الذي يتبناه المجتمع التركي بأغلبية مطلقة، تجاه مواطنيهم الكرد، كعدو جذري ومستباح.
هذا النوع من الإدراك الذي عملت عليه الدولة التركية وعمقته في باطن وعي القواعد الاجتماعية، ومعها تقريباً كل النخب الثقافية والفكرية والسياسية في البلاد، أزاح عن كاهل الدولة عائقاً أولياً ودائماً، حسب النماذج العالمية الأخرى، حينما تعترض المجتمعات على سلوكيات دولها وحكوماتها التي بهذا المستوى من الفداحة.
وتالياً، صار ذوو القرار قادرين على خلق أنواع من التماهي بين القوى السياسية الكردية والمجتمع الكردي في البلاد، وبين هذه الأخيرة والبيئة الجغرافية والمناخية للمناطق الكردية، وتالياً خلق واجتراح أنواع من الاستباحة والاستئصال تمتد على كامل الطيف، وبصمت تام من المجتمع، على الأقل، وبتشجيع منه في مرات لا تُحصى.
العامل الآخر كامن في نوعية علاقة الدولة التركية مع القوى الإقليمية والدولية. فبالضبط كما يسمح لتركيا بارتكاب مختلف أنواع الجرائم بحق الكرد، بما في ذلك قصف المدنيين بالطائرة المسيرة خارج حدودها، أو استخدام الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً في مواجهة المقاتلين الكرد، فأن البيئة المناخية الكردية متاحة بنفس المستوى.
فالقوى السياسية والشخصيات والمنظمات الدولية الأكثر حماسة ونضالاً في القضايا البيئية تشبه نظيرتها اليسارية والديمقراطية التي كانت طوال عقود كثيرة مضت.
تفعل هذه الجماعات والقوى البيئية مثلما كانت تفعل قوى ودول اليسار الشيوعي العالمية من قبل، تزيد في الحديث عن حقوق الشعوب وثورة المعذبين، بينما تقيم أفضل العلاقات وتبيع أقسى الأسلحة لتركيا، التي كان كردها يخوضون كفاحاً مستميتاً لعقود، وفقط في سبيل نيل الاعتراف. وأيضاً مثلما تفعل الدول الديمقراطية في أحاديثها الشعرية عن الحريات وحقوق الإنسان، بينما لا تستنكف عن بيع آخر تقنيات القتل العام للجيش التركي.
تفعل هكذا أنواع من القومية المطلقة وبالغة الذكورة شيئاً مضاداً للطبيعة جوهرياً، حينما تنكر الأصل والجذر الواحد للبشر، وتنفي تلك الصلة الحميمية بين البشر وأمهم الطبيعة، لذلك تنتقم الطبيعة مع هكذا أنواع من القومية، وحيث أن مختلف الأخبار على مستوى العالم، متخمة بانتقامات هذه الطبيعة.
*موقع فضائية الحرةالامريكية[1]