كلمة الفنّان التشكيلي الكردي بشّار العيسى في المؤتمر الدولي الخاص ﺑﺎﻟﻘﻀﻴﺔ ﺍﻟﻜﺮﺩﻳﺔ في سوريا
في المؤتمر الدولي الخاص ﺑﺎﻟﻘﻀﻴﺔ ﺍﻟﻜﺮﺩﻳﺔ في سوريا، المنعقد في (الجمعية ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ) ﺑﺘﺎﺭيخ ( 21 كانون الثاني 2005 )
في الأسطورة الإغريقية: لما طال غضب بوزيدون إله البحار، على أوليس الضائع في البحار بعيدا عن أرضه،تدخلت حكمة أثينا لدى زيوس رب الارباب بالقول: آه.. والدي العظيم يتمزق قلبي لمصير أوليس بطل طروادة وقد طالت عقوبته، وهو يحلم دون أمل أن يرى يوما دخان مواقد وطنه، ألم يحن الوقت أن تنتهي ورحلة الشقاء هذه؟ . تعاطف مجمع آلهة الإغريق مع صرخة الحق والعقل التي نطقت بها ربة الحكمة أثينا فقرر وضع اية لتيهه و لعقاب الآلهة كي يعود إبن إيثاكة الى وطنه سيّد بيته وأرضه. انتهت الأسطورة وانتهى عقاب الآلهة للبشر، ليحل بعض البشر محل الآلهة في العقاب. ولربما كانت عقوبة ملايين الكرد، أقسى وأطول عقوبة نزلت بشعب على وجه الأرض من قبل الألهة البشر، امحى وطنهم كردستان من على خارطة العالم دون كبير أمل بعودتها إليه، وقد انتهى زمن الآلهة وضلت الحكمة الطريق الى عقول وقلوب البشر . الكرد ، شعب يزيد عن الثلاثين مليون نسمة، وأرضه التاريخية بمساحتها 500 ألف كم مربع الممتدة على خطوط الطول 48 و36 والعرض 40 و 34 ،قسمت على حدود أربع دول: وهي أيران تركيا العراق وسوريا، بموجب اتقفايات صاغتها اجتهادات موظفين لمصالح الحلفاء المنتصرين في الحرب الكونية الأولى. إتفاقيات دولية حجبت عن ملايين الكرد حق الاعتراف لهم بكيان سياسي إسوة بغيرهم من شعوب الدولة العثمانية. أفقد الكرد بموجبها ولا زالوا الاعتراف بهويتهم القومية.كما افتقدوا ولا زالوا اعتراف القانون الدولي بهم إلا كأفراد لهويات دول وشعوب لا تحمل اسمهم ويقمعون بقسوة في شخصيتهم وانتمائهم ولغتهم وثقافتهم دون أمل بنهاية لهذا الإجحاف، لأن مصائرهم أصبحت رهينة القانون الدولي.
أن إنكار الدول المتقاسمة لكردستان ، حقوق شعبها يستند إلى قرارات ومعاهدات أفرزتها الشرعية الدولية لمصالح استعمارية آلت بالوكالة إلى هذه الدول . ولا من يطلق صرخة حق لأجل الملايين من الأطفال يحلمون كتابا مدرسيا بلغتهم وأبجديتهم. دون أن تنالهم العقوبات و ممنوعات الأحكام العرفية والزجر العنصري، من أجل نصف مليون كويتي حشد المجتمع الدولي عن حق قوة ردع من عشرات الدول ومئات آلاف الجنود، ومن أجل شعب بالملايين لا يستصدر ولا قرار واحد من هيئة الأمم المتحدة لتحمي ثقافتهم وتراثهم، لقد تغيرت اسماء قرى هي أهم مواقع أركيولوجية في ميزوبوتاميا بقرارات دول عضو في منظمة الأونسكو. يجبر الكردي، بشرعة القوانين الدولية، أن يصبح فارسيا في أيران وتركيا جبليا في تركيا وعربيا في سوريا وعراقيا مشكوكا به في العراق، مطلوب منه أن يندمج في أمة أخرى ويذوب في هوية غير هويته في حين يصعب على العربي السوري أن يندمج بالعربي العراقي وتتدخل تركيا ضد حقوقه في العراق لصالح تركمان العراق وتحجب عن أكرادها ما تطلبه لأتراك بلغاريا، وتطمح أن تصبح من أسرة الديمقراطية الأوربية.لم يهبط الكرد من السماء، ولا يعرف المؤرخون أرضا أخرى أو كوكبا آخر قدموا منه، وليست كردستان فضاء افتراضيا لأشباح، الكرد شعب أصيل في أرض كردستان، تواجدوا وأجدادهم منذ أكثر من ألفي سنة وعلى أرض الحضارات هذه قامت واندثرت ممالك ودول . ومر غزاة وتمازجت ثقافات و تناسلت أديان. كان السومريون و البابليون والآشوريون والكاسيون و والحوريون والميتانيون والفرس الساسانيون والميديون وأتى الاغريق يتقدمهم الكسندر المقدوني وكان الكرد هنا.
انقسمت كردستان لأول مرة، بين البزنطيين والفرس الساسانيين لحين دخول العرب حاملين الإسلام فدخل الكرد وأرضهم فضاء الإسلام كغيرهم من الشعوب ومنذ ذاك التاريخ وهم حاضرون على مسرح الشرق الأوسط بحيوية أغنوا الدين الجديد بثقافات صوفية رقيقة من تراثهم الروحي ما قبل الاسلامي بالمذاهب اليزيدية والقزلباشية والكاكائية وأهل الحق والطرق القادرية الكيلانية والنقشبندية السنية كما وقدمو للفكر والتاريخ والأدب شعراء ومؤرخين وعلماء، لم يكن أولهم أبي الفداء حفيد صلاح الدين الأيوبي وليس آخرهم محمد كرد علي وخير الدين زرگلي، باللغات العربية والفارسية والكردية والتركية.
إن العالم المتحضر ينظر باحترام إلى حكمة ورحابة الفكراللتين ساس بهما صلاح الدين الأيوبي الكردي امبراطوريته عندما أحجم وهو في عز انتصاره الكبير على الصليبيين طردهم من شرقي المتوسط. فقد اعتبرهم من سكان البلاد بعد مرور حوالي مئة سنة على وجودهم فيها تاركا لهم ممالكهم شرط التخلي عن الكراهية الدينية و النزعة العسكرية ويتحولوا الى جسر تبادل ثقافي وتجاري بين الشرق والغرب.
يجمع المؤرخون أنه منذ القرن التاسع ولغاية منتصف القرن التاسع عشر، كانت للكرد دولهم شبه المستقلة وإماراتهم المحلية: الإمارة الشدادية والدوستكية المروانية والإمارات اللرية الصغرى والكبرى و الأردلانية والخراسانية والإمبراطورية الأيوبية.
في بداية القرن السادس عشر، وإثر الانتصار العثماني في معركة جالديران1514 أصبحت كردستان ساحة تصادم ”Tampone Zone وحروب بين الامبراطورية الصفوية الشيعية والعثمانية السنية. وبعد إتفاقية أماسيا التي رسمت الحدود بينهما سنة 1555 انقسمت كردستان وشعوبها على حدود الإمبراطوريتين المتصارعتين. أخذ غالبية الكرد جانب السلطان العثماني سليم الأول مقابل الحفاظ على إدارة حكوماتهم وإماراتهم والتي كانت تبلغ ستا واربعين إمارة في أيالات ديار بكر ووان وشهرزور، تتبع السلطان اسميا. الذي فوض أمر تنظيمها الإداري إلىالعلامة الكردي إدريس البدليسي. وحدد فرمان سلطاني الاتفاق على العرف التالي :
1 تتمتع الإمارات الكردية باستقلالها المحلي مع خضوعها لتاج السلطنة.
2 يكون الحكم في الإمارات الكردية وراثيا للأبناء الذكور أو حسب القوانين المحلية.
3 تساعد الإمارات الكردية السلطان في حروبه الخارجية ويساعد السلطان الأمارات إذا تعرضت لعدوان خارجي.
4 يدفع الأمراء الكرد الرسوم والصدقات لبيت مال السلطان. كان الكرد القزلباش الشيعة الضحية الأكبر لمعركة جالديران.
لقد هجر الصفويون آلاف الأسر من كردستان الشرقية الى خراسان لمواجهة الأوزبك التركمان ولا زال أحفادهم الى اليوم كما وأن العثمانيين هجروا مئات الآلاف منهم الى غرب الأناضول ليأمنوا احتمال تحالفهم مع العدو الشيعي.
أن معاهدة كوجوك قينارجة سنة 1774 التي صاغت هزيمة العثمانيين أمام روسيا، والثورة الفرنسية، و حركة الاصلاح الديني البروستنتي في أوربا تركت آثارا عادت بفوائد على العثمانيين ضد مصالح الشعوب ومنها الكرد والأرمن والعرب واليونان والبلغار؛ إذ تنافست الدول الأوربية على وضع خبراتها العسكرية في خدمة العثمانيين لتمنع روسيا من جني ثمار انتصاراتها العسكرية، بالوصول إلى المياه الدافئة وبسط سيطرتها على مسيحيي الدولة العثمانية وبيت المقدس.
في عهد الاصلاحات العثمانية التنظيمات توافد السفراء والضباط الألمان والفرنسيون والبريطانيون، معهم المدافع والذخيرة المتطورة والنظم القتالية الحديثة للسلطان العثماني يتقدمهم مبشرون وجغرافيون ورجال الاستخبارات، يتخذون من حماية الأقلية المسيحية شرعة للتدخل في مستقبل أوضاع المناطق البعيدة، يتنافسون في نشر الكثلكة والبروتسنانتية بالقلاقل، بين رعايا الكنيسة النسطورية/ الأرثوذكسية الحليف الطبيعي لروسيا. انعكس هذا في المزيد من الضبط بالمركزية العسكرية للأقاليم الكردية شبه المستقلة: هكاري والجزيرة وأورومية بإعادة اخضاعها للسلطنة.
وأثيرت فتن وعداوات بين النساطرة، بين المليك الأعيان والبطريرك وبين البطريرك والأمراء الكرد الطامحين للاستقلال، وبين الكرد السنة والكرد اليزيديين والعلويين. ثار الكرد مرارا للحفاظ على استقلالهم وكياناتهم القومية، و قوبلوا دائما بالنار والدماروالتهجير باعادة الاسكان: ثورة الجنبلاطيين سنة 1607ثورة عشائر
برادوست سنة 1608 ثورات أكراد مكري والبابان والبهدينان وعشائر المللي وثورة مير محمد السليمانية سنة1833 وثورة بدرخان باشا الثانية1935
تدمرت كردستان وبفعل العمليات الحربية بين روسيا والعثمانيين والعثمانيين والأيرانيين وبفعل قمع الثورات. لقد دخلت جيوش السلطان كردستان أكثر من خمسين مرة. منذ بداية القرن التاسع عشر أصبحت كردستان محط أطماع وتدخلات جميع القوى الدولية بسبب ثرواتها البترولية وخزائنها المائية. سال الكثير من اللعاب و لا زالت ملايين الكرد تدفع الى اليوم ضريبة هذه الثروات وهذه الخزائن المنتهبة. كلفت الكرد أكثر من 350ألف قتيل ومليون ونصف مهجر في أكثر الإحصائيات تواضعا. تشعبت الصراعات و رسمت الخرائط وصيغت الاتفاقات بين الدول على كردستان وليس على أو لأجل الكرد، على ما تحت الأرض وليس لمن فوقها، فذهبت رغبات ومصالح وحقوق مَن فوقها أدراج الرياح والمصالح كما ضاعت مباديء الرئيس الامريكي وودرو ولسون عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، على أطراف أربع من الحدود التي لم يجد الكرد لهم عليها علما أو داخلها أبجدية. لقد غيبت اتفاقيات أرقى الدول، ثقافات أضعف الشعوب ورمت بمصائرها إلى وكالات محلية لا تفهم من الحق غير اغتصابه. بعد الحرب الكونية الأولى خرجت إلى العلن اتفاقية صاغها موظفان، فرنسي وبريطاني سميت باسميهما picot - sykesبخرائط للشرق الأوسط. في محرقة التوافقات الدولية هذه لكيانات بمسميات مناطق سيطرة ومناطق نفوذ من حول منابع البترول تم نسيان الكرد بملايينهم ونسيت مبادىء ويلسون في مؤتمر الصلح بفرساي سنة 1919 في حدود اتفاقيات سيفر سنة 1920 والتي لم تر النور قط، فتم التحايل عليها في أنقرة بموجب معاهدة فرانكلان بويون سنة 1921 لترسيم الحدود بين تركيا وإدارة الانتداب الفرنسي قلصت الجزء السوري من كردستان الى هامش حدودي معزول عن جغرافيته ترضية لمصطفى كمال كي لا يميل الى روسيا البلشفية(1) ،وفي مؤتمر لوزان سنة 1923 ثبتت والى الأبد الحدود التي رهنت مستقبل الكرد وكردستانهم إلى الإلغاء.
قبل سايكس بيكو كان الكرد مقسمين الى كرد عثمانيين وكرد أيرانيين بالتبعية الاسمية في ولاياتهم شبه المستقلة، لا تفصل بينهم حدود ثابتة لهم مراعيهم ومزارعهم ولهم مراكزهم الحضرية وأسواقهم. بعد سايكس بيكو أصبح الكرد و في الدول التي استقلت رهائن قهر بالتتريك والتعريب والتفريس.
لقد ألحقت ترسيمات الحدود النهائية بإدارة الانتداب الفرنسي، ثلاث مناطق كردية، الجزيرة وكوباني وكورداغ منفصلة عن بعضها انتزعت عن امتداداتها الجغرافية الطبيعة والبشرية في كردستان تركيا الحالية بحدود على شكل خط مستقيم يتطابق وخط قطار الشرق السريع بدءا ببلدة كلس شمال غرب حلب وصولا الى مدينة عين ديوار بامتداد 700 كم، حدودا اصطناعية مرتجلة تناثرت على طرفيه مزارع وأملاك وأسر وعائلات ممزقة مفصولة عن تاريخها وأسواقها وروابطها الدموية.انفصل السكان الكرد من هذه المناطق عن أهلهم و مراكزهم التجارية في جزير ونصيبين وماردين ورها وعينتاب و ويران شهر وديار بكر والموصل عوضتها إدارة الانتداب بتطوير مدن صغيرة كانت قائمة مثل سري كانية وعامودة وديريك وأنشئت مراكز جديدة مثل القامشلي وتربة سپية والحسكة ودربيسية تعويضا. كما واستقدمت الى هذه المراكز مسيحيين عرب من مدينة ماردين وأريافها كولية القصور والقلعة مرا والمنصورات لتتشكل منهم البنية المجتمعية للإدارة الانتدابية كما وأنها استقدمت من جبال طور عابدين في تركيا حاليا، سريانا شكلت منهم سرايا متطوعة في الفوجين السابع والثامن بمسمى جيش كلدو آثور أصبح فيما بعد جيش الشرق الثامن التحقوا بعائلاتهم ومواطنيهم لتتشكل منهم النواة السكانية لمدينة القامشلي، كما وأن مذابح العمليات العسكرية البريطانية ضد حلفائه االنساطرة في الموصل، بعد مذبحة سميل سنة 1933 هجرت آلافا من آشوريي طياري الى الحدود السورية وطنتهم إدارة الانتداب في كمبات على امتداد نهر الخابور بين سري كانية والحسجة سنة 1936
لم تكن الجزيرة العليا، وكوباني، وكرداغ، ترتبط تاريخيا بسوريا التي نعرفها اليوم، وهي منذ بداية العهد العباسي أجزاء تاريخية من أراضي ولايات الموصل وديار بكر والرها وكانت ترتبط من الغرب الى الشرق، من أنطاكية الى نهر دجلة، بمراكزها التجارية القائمة اليوم على الطرف الآخر من الحدود السورية التركية وترى أغلبها بالرؤية المجردة. في حين أن بلاد الشام كانت تتشكل من سوريا الداخلية زائد حلب وفلسطين والأردن كما لم تعرف سوريا بحدودها الحالية يوما ككيان سياسي.
أن ملفات تموضع القبائل الكردية في الدولة العثمانية تبرز بوضوح مناطق انتشارها وهي بمجملها تتمحور في الحدود الوهمية التي تحدث عنها وحولها أغلب المؤرخين يكفي للدلالة أن اسم الرقة يأتي مرادفا لسكن قبائل كردية أكثر من 50 مرة .
لقد تطابقت ملاحظات الرحالة والمستشرقين ومنهم السير مارك سايكس نهاية القرن التاسع عشر، وخرائط نيهبور 1769 ،والحالة التي وجدتها الإدارة الفرنسية على الأرض للعشائر الكردية في كرداغ وكوباني والجزيرة العليا، وحددوا تموضعات للعشائر الكردية على الشكل الذي لازال قائما الى اليوم من الشرق الى الغرب: في الجزيرة العليا: ملان، آشيتان، وهفيركان، ألي بناريان، ميرسينيان، دقوران و كيكان، مللان ابراهيم باشا. وفي كوبانة: برازي ،وشيخان وكتكان. في كرداغ: شيخان هجروا من كوبانة وجوم استقدموا سنة 1797 من منطقة قونية بأمر من السلطان سليم الثالث وخوجة إزادينان حول نهر قرة سو، وكوجر وشيخان هجروا اليها من حدود أيران، وأميكان وهم قزلباش علويون منذ القرن السادس عشر. يرجع الاستيطان العربي المتناثر لمنطقة الجزيرة العليا فضلا عن جماعة الحرب والشرابية والسادة الى مرحلة الانتداب، كما يعود الى فرقة الهجانة خيالة النوق Méhristesالتي شكلها جيش الانتداب من بدو الشامية والتي أستقرت في القشلة العثمانية التي أصبحت فيما بعد مركزا لمدينة الحسجة، بعد معركة بياندور مع المسلحين الكرد. ومن حول هذه القشلة تم اسكان عرب قادمين من دير الزور ومسيحيين جلهم عرب مستقدمين من ماردين وريفها. أما العشائر العربية التي كانت ترتاد المراعي الكردستانية صيفا لوفرة مزارع القمح والمياه الجوفية والعذبة فتمثلت في الشمر والجبور والعكيدات آتين من بواديهم في الشامية والحماد والعراق تحل صيفا وتغادر أوائل الخريف، أصبحت اليوم المواطن السيد فئة أولى. أن استقرار القبائل والجماعات الكردية نصف الرعوية نصف الزراعية والتي تحضرت بكثافة منذ بداية القرن التاسع عشر في هذا الجزء من كردستان التاريخية يتماشى وطبيعة الأرض والاقتصاد الزراعي الرعوي وامتداد الأنهار من منابعها الكردستانية الشمالية (جايي كرداغي ودشتا عينتابي ودشتا ديار بكر ومارديني وجايي مازي) المنحدرة باتجاه الجنوب وهي الأنهار من الشرق الى الغرب: دجلة، وانيك، جمة تربة سبية، جقجق، جمة عامودة، شكالو، زركان، خابور، جمي كول آفي، فرات وعفرين، وقرة سو، وعلى هذه الأنهار قامت المراكز السكانية الكردية: جزير، عين ديوار، ديريك، تربة سبية، قامشلي، نصيبين، عامودة، دربيسية، قرة مانة، سري كانية، كوبانة، وعفرين. ومن الجدير بالذكر الإشارة الى تجمعات كردية خارج كردستان في الداخل السوري يعود الى حقبات العصور(الأموي المتأخروالعباسي والأيوبي والعثماني) وأهمها البرازية في حماة، وسكان جبل الأكراد والصالحية في دمشق وحصن الأكراد وبعلبك. أن الوجود الكردي في سوريا وغيرها من الدول التي تقاسمت كردستان أصبح ثوابت جيوسياسية، من ثوابت الشرعية الدولية التي لم تعد ترى من الحكمة ما يستوجب اعادة رسم الخرائط، وهي قد تكون محقة لكن هذا لا يلغي أن هذه الحكمة تقتضي أن تنظر بالحكمة الى أن استمرار استعباد الشعوب بالشكل الذي يتم في الشرق الأوسط لم يعد إنسانيا ويفتقد الشرعية الحقوقية كما يفقد الشرعية الدولية المصداقية والحكمة معا بتجاهل حق الشعوب وثقافاتها بالإهمال المتعمد، في تنزيه أعمال الحكومات الاستبدادية المنلطية وراء سياسات شوفينية مقيتة باعتبارها شرعة دول ذات سيادة، وهي تزيد من تعقيد مشاكل هذه البلاد أكثر فأكثر بالإختناقات الديكتاتورية واللاديمقراطية التي تعاني منها تركيا وسوريا والعراق وأيران.
لعب الكرد السوريون الذين منعوا حقهم التاريخي بكردستان كيانا سياسيا دور عنصر استقرار في الدولة السورية التي استقلت تحت مسمى دستوري عرف بالجمهورية السورية 1946 . ساهموا بدور أساسي في حماية الجماعة المسيحية التي تعاونت مع الإنتداب وشرعت لتلك الحماية من خلال مؤسسة الكريف والإحتماء العشائري والتي تلزم الكردي حماية المسيحي من أي انتقام أو إكراه في غوغاء الاستقلال عن دولة فرنسا المسيحية. مع جلاء الجيوش الفرنسية البريطانية سنة 1946 عن سورية آلت السلطة الفعلية الى أسر ونخب برجوازية واقطاعية استلهمت إدارة عصرية تحت الانتداب وهي أسر تنتمي الى الطيف الإثني الذي تكونت منه سوريا الحديثة: من عرب وكرد وتركمان وجراكسة وتغالبة مسيحيين ومسلمين: كيخيا والداماد والقوتلي وهنانو والجابري والأتاسي ونظام الدين والعظم والعظمة ومردم بيك والخوري والزعيم والحناوي وزلفو والبرازي والشيشكلي. أدارت هذه النخبة السياسية أمور البلاد بالحكمة التي رأت في المساواة بالديمقراطية فضيلة أجمل من القهر القومي بالتمييز. ومن المفارقات العجيبة، أن انتخابات سنة 1943 أوصلت الى البرلمان السوري 8 نواب أكراد في حين تمنع سياسات البعث عنهم اليوم امكانية وصول ممثل واحد عنهم.منذ الاستقلال ولغاية قيام الوحدة المصرية السورية 1958 حافظت الدولة السورية على صيغتها التعددية بديمقراطية ناشئة، لم يتعرض الكرد فيها لأي شكل فاحش من التمييز أوالعسف. في دولة الوحدة المصرية السورية سنة 1958 أضيفت الصفة العربية إلى اسم الدولة، غابت فيها الديمقراطية بقوانين الطوارىء والأحكام العرفية بحجة حالة الحرب مع إسرائيل. فكان بداية نشوء النظام الدكتاتوري. وبوصول عسكر البعث إلى السلطة بانقلاب آذار 1963 ،توسعت سياسات التمييز تعسفا بحق الكرد عندما أرسلت حكومة البعث الأولى نخبة من الجيش السوري لنجدة الحكومة العراقية التي كانت تشن حربا على أكرادها 1963
تبنى البعث سنة 1963 وثيقة من 12 مادة تستهدف القضاء على الوجود الكردي في سوريا بسلسلة من القوانين من خزان الفكر العنصري. في سنة 1964 نشرت سلطة البعث، بصيغة انتقائية نتائج الإحصاء الذي أجري سنة 1962 عرفيا، جردت بموجبه عشوائيا عشرات الآلاف من الكرد من جنسيتهم السورية وبالتالي من سائر حقوق المواطنة ومن ملكياتهم ومن انسانيتهم.
إن استمرار التعامل مع الجماعة الكردية في سوريا باعتبارها أقلية عددية في كيان الدولة الاصطناعي أصلا تقفز من فوق حقيقة أن الكرد أكثرية مطلقة في هذا الجزء من أرضهم التاريخية هويتهم القومية وحقوقهم التاريخية يستحقون حسب شرعة حقوق الإنسان المساواة الدستورية بالجماعة العربية على أكثريتها. أن أحلام الكرد الشرعية بوطن وعلم ومدارس وكتب بلغتهم لا يمكن لها أن تصبح حاجزا بينهم والشعوب التي يعيشون معها في فضاءات الشرق الأوسط بكياناتها الحالية اذا قامت على المساواة والحرية والاعتراف المتبادل المتكافىء. كما لا يجوز للآخر أن يشترط لهذه المساواة أن ينزع الكرد جلودهم وأحلامهم وحقوقهم القومية ، ليطمئن هذا الآخرعلى أحلامه القومية الخيالية أحيانا.
لا تزدهر ثقافة الديمقراطية بدون أساس متين للحريات الفردية والتعددية الثقافية والإثنية والعقائدية.
أن مشاكل الكرد والأقوام المسيطرة التي يعيشون معها مشاكل سياسية لا تفتقد حلولا؛ إذا تحلت السياسة بالحكمة والمشاعر بالعقلانية. ونبذ الطرفان الرباط العنصري لصالح الإجتماع الإنساني في بهائه الثقافي. الأوطان أراض وفضاءات يتحرر البشر فيها من عبودية الطبيعة والتخلف بالتعاون وبالعيش المشترك وهي ليست مزارع إقطاعية أبدية يورثها قوم دون غيرهم وهي تصبح معازل قروسطية بالسياسات العنصرية الإلغائية في حين أنها تزدهر إذا تحولت إلى فضاءات للشعوب والأقوام والثقافات القائمة بالإضافات الحضارية المتنوعة لخير أجيال وأجيال ستأتي وتضيف.
أخيرا، أيتها السيدات والسادة، تعلمنا حكمة التاريخ أن التعصب القومي وسياسات التمييز العنصري والكراهية، مرض عقلي يفضي بصاحبه إلى الفاشية وبالإنسانية إلى المآسي فهل من يرتدع بحكمة آلهة الأولمب؟ !
*. (مجلّة الحوار السنة الثانية عشرة العددان 48 49 صيف وخريف 2005 ).[1]