بقلم الكاتب والسياسي على شمدين
لاشك بأن المثقفين يلعبون الدور الأهم في إستنهاض الجماهير وقيادتها نحو التحرر والإنعتاق، ولعل السلاح الأهم الذي يستخدمونه في معركتهم ضد الظلم والقمع والإستبداد هي الكلمة، أجل الكلمة هي التي أقلقت أعتى الديكتاتوريات وقضت مضاجعهم إلى درجة أن غوبلز وزير الإعلام الهتلري قال: إنني أتحسس مسدسي كلما سمعت كلمة المثقف، تأكيداً منه على خطورة هذا الدور وأهميته في التأثير على الرأي العام وتوجيهه .
وقد سجل التاريخ في هذا المجال أقوالاً مأثورة مؤثرة حول أهمية الكلمة والمخاوف التي تثيرها لدى أعتى الحكام والدكتاتوريات، فإن الأفكار مهما كانت عظيمة لاتصبح قوة مادية حاسمة إلاّ حينما تدخل إلى أذهان الجماهير وتستقر في ضمائرها، كما يقول ماركس، وهذه المهمة مرهونة بالمثقفين بشكل رئيسي دون غيرهم، وهم مدعوون لقول الحقيقة، كل الحقيقة للجماهير مهما كانت مرّة وأليمة، كما قال لينين .
ولذلك فقد شكل #جكرخوين# أواسط القرن العشرين ظاهرة ثقافية بارزة في إستنهاض الشعب الكردي الغارق في التخلف والجهل والأمية، وتحريضه للنضال ضد الظلم والإضطهاد القومي والوطني الذي يثقل كاهلة منذ آلاف السنين، ولعبت أشعاره وكتاباته بمضمونها الواقعي ولغتها السلسة وانتشارها الواسع، دوراً إعلامياً مؤثراً في تكوين الرأي العام الكردي وتوجيهه نحو النضال ضد القهر والعبودية والتخلف والجهل ، وترك بصمة واضحة في تنميه وعيه القومي وبلورته، حتى بات يشكل مدرسة أدبية لها مريدوها الذين صاروا يرددون أشعاره عن ظهر القلب في المجتمع الكردي وينشرونها شفاهاً ويتغنون بها في كل مكان قبل أن تطبع، وبعد طباعتها اندفع المئات من متذوقي شعره إلى تعلم الأبجدية الكردية (اللاتينية) بحماس للتمكن من قراءة دواوينه وكتاباته الأخرى، وقد أسس بنفسه مدرسة لتعليم اللغة الكردية في مدينة عامودا تعلم فيها العشرات من الشباب الكردي.
لقد تجاوز جكرخوين الإشكالية التاريخية بين المثقف والسياسي، وشكل جسراً بين الوسطين، فمثلما كان شاعراً كبيراً بنتاجاته ومشهوراً بعبقريته وإبداعاته، كذلك كان سياسياً بارزاً بآرائه ومواقفه وبمواقعه القيادية التي تسنمها في حزبه الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا منذ أواخر الخمسينات وحتى رحيله عن عمر ناهز الواحد والثمانين أمضاه في ميادين النضال المختلفة، السياسية والثقافية والجماهيرية.
ولهذا فقد اكتسب جكرخوين مع الزمن كاريزما جماهيرية قوية استقطبت حولها قطاعات واسعة من الرفاق والأصدقاء والمحبين ومتذوقي شعره من كافة الشرائح الاجتماعية، ومن مختلف القوميات المتواجدة في المجتمع الكردي، من العرب والسريان والجركس، من #اليزيديين# والمسيحيين والمسلمين والأرمن، وهذا ما عكسه الكرنفال الشعبي الكبير جداً الذي خرج لإستقبال جنازته التي وصلت في 5/11/1984 إلى #القامشلي# بناء على وصيته التي جاءت تعبيراً عن تعلقه بمدينته المحببة لديه ولشعوره بمكانته الجماهيرية هذه بين محبة وشعبه.
استطاع جكرخوين أن يكتسب ثقة جماهيرية واسعة ومؤثرة في المجتمع الكردي والكردستاني والوطني عموماً، فقد كان مرشداً إجتماعياً، وداعية سياسية وملهماً لأفكار التحرر من الجهل والتخلف والعبودية، فهو لم يكتفي بالتنظير فقط أو الإلتزام بالبرج العاجي كشاعر وأديب، وإنما انخرط في العمل الميداني بين الجماهير، عاش معاناتهم وتألم لأحزانهم، فرح لنجاحاتهم وتكدر لإخفاقاتهم، حتى أصبح بذاته مدرسة قومية لها مريديها وأنصارها.
فمن هو (جكرخوين)، هذا الرجل العظيم الذي ترك بصمته واضحة في المجتمع الكردي في سوريا، وكان له الدور الكبير في إستنهاضه والمساهمة في تنمية وعيه القومي والوطني؟!
إنه شيخموس بن حسن الذي تولد عام 1903 في قرية هساري بكردستان تركيا،،حيث توفي والده مبكراً وسرعان ما لحقت به والدته أيضاً ليمضي طفولته يتيماً متشرداً، كما أمضى شبابه في الحجرات الدينية والكتاتيب، وبالرّغم من ظروفه القاسية والصعبة تلك إلاّ أنه جعل العلم والمعرفة هدفاً وغاية له، فسبق رفاقه في إنهاء دراسته الدينية وحصل على الإجازة العلمية بامتياز ليصبح إماماً بالجبة والعمامة.
ولكن سرعان ما عصفت به رياح التقدم والتحرر، ليرمي خلفه الجبة والعمامة ويشمر عن ساعديه للإنخراط في معمعان النضال القومي وتحدي الظروف السائدة والمساهنة الفعلية في تغييرها، فتأججت النار المشتعلة بداخله لتنفجر دفعة واحدة كالبركان وتسيل على الورق شعراً منظوماً بمهارة وعبقرية نادرة.
فبث جكرخوين همومه وآلامه ومعاناته بين سطور دواوينه الشعرية التي نظمها ونسجها بإتقان، إلاّ أن القلق على واقع الشعب الكردي ومصيره ظل يقض مضجعه، وأصبح همه وتفكيره يدور حول كيفية إيقاظ الجماهير المسحوقة الغارقة في الجهل وإستنهاضها في وجه جلاديها ومضطهديها، فصار يعوم في بحر من الأسئلة المصيرية.
- كيف سيستنهض هذا الشعب الرازح منذ مئات السنوات تحت نير الظلم والإضطهاد، ويسمعه صوته المحرض على النضال من أجل التحرر والخلاص من مستعبديه ؟ .
- كيف سيقنعه بإن هؤلاء المستغلين والمستعبدين هم الذين يسرقون قوته ولقمة عيشه، ويخدمون أعدائه ؟.
- وكيف سيقنع الشعب الكردي بأنه كرديّ بقوميته، وليس تركياً أوعريباً أو فارسياً ؟.
- كيف يقنعه بأن زمن الحجاب والخزعبلات الدينية قد ولى، وبات زمن الدبابات والمدافع والطائرات ؟.
- وكيف سينتصر للمرأة الغارقة في العادات والتقاليد القاتلة، وسيفهمها بأنه لافرق بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات الإنسانية؟ .
- كيف سينتشل الكرد من دوامة الجهل ويدفعهم للتعيلم والدراسة ؟.
لقد دارت الآلاف من هذه الأسئلة المقلقة في رأس جكرخوين، إلاّ أنه في الأخير أطلق برجولة صرخته المدوية، الداعية إلى اليقظة والنهوض من هذا السبات الطويل ولكن ندائه هذا لم يصل سريعاً إلى آذان الجماهير كما يجب، بسبب إنعدام وسائل الإعلام الكردية آنذاك، وحرمان الكرد من كل وسيلة إعلامية أخرى سوى نشرات سياسية غير دورية كانت تصدر بأعداد قليلة وبشكل ضعيف جداً، لذلك كانت أبواب المجتمع الكردي مفتوحة على مصراعيها أمام الدعاية المضادة وأبواقها المضللة فقط.
كما إن المثقفين في المجتمع الكردي كانوا يعدون على الأصابع آنذاك، ولم يكن هناك متعلمين في تلك المرحلة سوى الشيوخ والملالي الذين كانوا منشغلين بصناعة الأحجية وممارسة الخزعبلات وكيفية سد آذان الناس وربط أعينهم وكم أفواههم لتجهيلهم وتركهم فريسة بين مخالب مستغليهم ومستعبديهم من الإقطاعيين والآغوات وغيرهم.
إنتفض جكرخوين كالمارد في وجه الظلم والقمع والإضطهاد، وبدأ بالإتصال مع العمال والفلاحين، الرجال والنساء والشباب، في المدن والأرياف، يحرضهم على اليقظة والنهوض من هذا الرقاد العميق، ويدعوهم للمقاومة والنضال من أجل التحرر والإنعتاق من قيود الظلم والعبودية، ويلقنهم ألفباء الكردايتي والوعي القومي .
فرسخ جكرخوين جذوره العميقة والواسعة بين الجماهير، وبدأت أشعاره ودواوينه تنتشر بينها كالنار في الهشيم، حتى أصبحت قصائده بالنسبة للجماهير كبيانات سياسية يومية تعكس الآلام والهموم الكردية والكردستانية وتنقل الأحداث العالمية بلغة شعرية سلسة ومفهومة.
وبهذا الشكل أصبح جكرخوين لسان حال الجماهير وصوتها المعبر عن روح التمرد والثورة، وسرعان ما ملأ الفراغ الذي تركه غياب وسائل الإعلام الكردية بين الجماهير بكتاباته التي شكلت ينبوعاً غزيراً نهلت منه الجماهير الكردية بشغف دون أن تنضب.
لقد دق الشاعر الخالد جكرخوين جرس النضال مبكراً، وأطلق صرخته المدوية داعياً إلى التحرر والخلاص ، حيث نظم أول قصيدة له عام 1924 ونظم منذ ذلك الحين المعاناة والظلم الذي عاناه خلال حياته أشعاراً وقصائد أطلقها ناراً ولهيباً في وجه مضطهديه ومستعمريه.
فأصبح يراعه قنديلاً متوهجاً مزق الحجاب الأسود الذي كان يحجب عيون الجماهير الكردية، وأنار أمامها درب الخلاص، مثلما إن يراعه كان رمحاً في عيون خصوم الشعب الكردي وقضيته القومية العادلة .
خلف جكرخوين بكتاباته رأسمالاً ثميناً، نذكر فيما يلي بعض من نتاجاته المطبوعة، التي صارت آيات مقدسة تقرأها الجماهير بشغف، وتتغنى بها في الأفراح والأتراح، وتستلهم منها العزيمة والتفاؤل بأن يوم التحرر والخلاص آت لامحال، وهي :
1- الديوان الأول ( النار واللهيب).
2- الديوان الثاني (ثورة الحرية).
3- الديوان الثالث (من أنا؟).
4- الديوان الرابع (النور).
5- الديوان الخامس (زند آفيستا).
6- الديوان السادس (الشفق).
7- الديوان السابع (الأمل).
8- الديوان الثامن (السلام).
9- قصة (جيم وكلبري).
10- قصة (رشوي داري).
11- قصة شعرية (سالار وميديا).
12- قاموس (كردي-عربي).
13- تاريخ كردستان.
14- التراث الكردي.
15- الأقوال المأثورة.
16- الفولكلور الكردي.
17- حول ديباجة أحمدي خاني.
18- مذكراتي.
هذا الى جانب الكثير من النتاجات الأخرى التي لم تطبع بعد.
لم يبدع جكرخوين في مجال الكتابة واللغة والأدب الكردي فقط، وإنما إستبسل في المجال السياسي والعلمي أيضاً، وناضل جنباً إلى جنب المناضلين الأوائل وقادة الحركة السياسية الكردية في سوريا، أمثال الدكتور نورالدين زازا، أوصمان صبري وحميد درويش، ولسان حاله كان يقول دائماً : (لا أريد أن أرافق قافلة المناضلين من أجل الحرية أعزلاً، سأناضل حتى آ خر نفسي في سبيل شعبي وفي سبيل جميع الشعوب المضطهدة )، رداً منه على أولئك الذين كانوا ينتقدونه بقصد أو بدونه على إنخراطه في العمل السياسي المنظم بين صفوف الحركة، وكان يرى بإن ممارسة العمل التنظيمي إنما هو إمتلاك لسلاح نضالي، إذ لا يمكن مرافقة قافلة النضال من دونه .
بهذه الثقة العالية بالنفس، تقرّب جكرخوين من جمعية خويبون وأصبح عضواً فيها، كما ظل لفترة صديقاً للحزب الشوعي السوري، وأسس في عامودا عام 1937 (جمعية الشباب الكردي)، وفي عام 1950 أصبح عضواً في إدارة جماعة انصار السلم في سوريا، وكان أحد مؤسسي جماعة (آزادي).
وبعد أن تأسس أول حزب كردي في سوريا، أعلن جكرخوين عن إنضمامه إليه وأصبح عضواً في اللجنته المركزية للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، وظلّ في موقعه هذا حتى وافته المنية.
لقد أولى جكرخوين في حزبه أيضاً إهتماماً كبيراً باللغة الكردية، ولذلك أصدر العدد الأول من مجلة (كليستان) باللغة الكردية عام 1968، وكانت أول مجلة تصدر باللغة الكردية في سوريا، واليوم أيضاً تلك المجلة مستمرة ويتابع رفاقه إصدارها من بعده.
كان جكرخوين في كتاباته وأشعاره وأفكاره وقناعاته، إنساناً تقدمياً وديمقراطياً، مؤمناً بالحرية والعدالة والمساواة، ومناصراً لتحرر كافة الشعوب المضطهدة وإنعتاقها وخاصة الشعب الكردي الذي أصبحت قضيته القومية همه الأكبر، وبهذه الرؤية الواضحة تابع جكرخوين نضاله دون هوادة ولم يتردد يوماً في قناعاته هذه أو يشعر بالندم، كما إنه ضحى بماله وكافة سنوات عمره في سبيلها، وكان يقول : (لو يصدف أن أعود شاباً من جديد، سأظل مؤمناً بهذه الآراء والقناعات ذاتها).
لقد واجه جكرخوين على طريق نضاله الكثير من أشكال الظلم والإضطهاد والسجن والملاحقة والنفي، دون أن تضعف عزيمته أو تلين، لابل إن الجبناء والمتخاذلين كانوا موضع سخريته على الدوام، وبنضالاته هذه إحتل جكرخوين في قلوب الجماهير الكردية مكانة مرموقة، حتى بات رمزاً وملهماً بالنسبة للفقراء والكادحين، للعمال والفلاحين، للمتشردين والمسحوقين من أبناء شعبه الكردي الذين كانوا يحفظون أشعاره كالآيات عن ظهر القلب.
وكما يظهر من تاريخ حياة جكرخوين، فإن آرائه ومواقفه هذه تبلورت خلال ظروف الحرب العالمية الأولى والثانية، وتحت تأثير الإتفاقات والمعاهدات العالمية التي تسببت في ترك كردستان مدمرة ومجزأة، وتركت أحداث ثورة أوكتوبر أيضاً آثارها على وعي جكرخوين وفكره.
كما إستمد جكرخوين عزيمته النضالية من الثورات والإنتفاضات الكردية التي عمت كردستان خلال النصف الأول من القرن العشرين، وساهمت السياسات الشوفينية والقمعية التي كانت تستهدف الشعب الكردي، في إنضاج فكره القومي الذي شكل المضمون الأساسي لخطابه الشعري، وتركت حياته القاسية التي أمضاها في التشرد والحرمان بصمتها الواضحة على إبداعاته ونتاجاته المختلفة التي صارت مرآة صافية عكست بدقة وإتقان كل تلك الظروف والأحداث التي مر بها جكرخوين وعاشها لحظة بلحظة.
سخّر جكرخوين كل حياته لخدمة قضية شعبه، وبرحيله في 22/10/1984 إنطفأت نجمة ساطعة من سماء كردستان، وخسر الشعب الكردي رائداً كبيراً ومشهوراً من رواد يقظته القومية..
وقد وري الثرى بناء على وصيته في باحة داره بمدينة القامشلي في 5/11/1984، وأصبح يوم وصوله الى مدينته المحببة كرنفالاً جماهيراً كبيراً، حيث سار مع جنازته وبقلوب دامية مئات الآلاف من محبيه ورفاقه، وأصبح ضريحه اليوم مزاراً مقدساً يزوره في الأعياد والمناسبات الأفواج من الناس ليضعوا عليه باقات الورد ويشعلوا الشموع عليه تقديراً لدوره وتكريماً لذكراه.
أجل كان جكرخوين صرخة الشعب الكردي في وجه الظلم والإضطهاد والإستبداد، وكان لسان حال الفقراء والمحرومين والمسحوقين في كل مكان، مازالت أشعاره مقروءة على طول كردستان وعرضها، وصوته بات مسموعاً عالمياً، وشكل بمفرده منبراً إعلامياً ينشر الوعي القومي ويدعو إلى العلم والمعرفة والتقدم والديمقراطية، والتحرر من قيود الظلم والعبودية وبناء مجتمع ديمقراطي تسوده العدالة والمساواة بين الرجل والمرأة وبين الأثنيات القومية والمذاهب والأديان.[1]