نكران الإبادة الجماعية وعودة تكرارها، أثبتتها عشرات التجارب العالمية وعلى رأسها العراق
بتصريحاته الأخيرة، التي نفى فيها حدوث حملات #الأنفال# المريعة بحق أكرد العراق والهجوم #الكيماوي# على بلدة حلبجة الكردية نهاية الثمانينات، فإن رئيس أركان الجيش العراقي الأسبق، وأحد المتهمين بالضلوع في تلك الفظائع، #نزار الخزرجي#، إنما يفتح الباب سرداب النكران مرة أخرى، ذلك الدرب الذي يؤدي موضوعياً لإعادة إحياء تلك الأفعال في الفضاء العراقي، وبأشكال أكثر شراهة وأشد إيغالاً في الدموية.
هذه العلاقة العضوية والطردية بين نكران الإبادة الجماعية وعودة تكرارها، أثبتتها عشرات التجارب العالمية، وعلى رأسها العراق نفسه، وطوال تاريخه الحديث.
بذا، فإن الخزرجي، لا يستهدف بفعلته هذه الضحايا الأكرد وذويهم الكثيرين فحسب، بل أيضاً المجتمع العراقي كله، وحقه المطلق في تجاوز مآسي الماضي، التجاوز الذي لن يحدث إلا بالاعتراف والاعتذار الحقيقيان، ومحاسبة طبقة المجرمين الكبار على أفعالهم، كما أثبتت مختلف تجارب الدول والمجتمعات التي تمكنت من تجاوز مرحلة الإبادة الجماعية في تاريخها الحديث.
ليس الخزرجي وتصريحاته الأخيرة مجرد شخص، بقدر ما هو نموذج عقلي وروحي (Paradigma) لطبقة من قادة الرأي والسياسي والمجتمع في العراق، طبقة كانت متمركزة طوال تاريخها حول الدولة وسلطاتها، تمنحها قداسة مطلقة، تنزهها من كل ما قد يمس جبروتها وصلاحها وصورتها الناصعة كذات عليا وجمعية. حيث أن الدولة وسلطاتها ومؤسساتها وأفرادها، حسب هؤلاء، يملكون شرعية السلطان المطلق، الذي يستطيع أن يمرغ الناس والمجتمعات والمدن ويمحقها، في سبيل ما تراه الرسالة الخالدة.
عبدة الدولة هؤلاء، متأتون من ثلاثة مشارب رئيسية، يشغل الخزرجي، مثل عشرات الآلاف غيره، نقطة تقاطع المشارب الثلاث تلك، لذا يبدو شديد الحماسة لنكران كل ما قد يلحق الدولة من لطخة عار، أياً كان وضوحها الجنائي وفداحتها الأخلاقية.
فهؤلاء غالبا من أبناء المؤسسة العسكرية، أجهزتها وخطابها وأنظمتها الداخلية المحكمة، الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب الدولة لأنهم مؤسسوها، حماتها الذين تقع على عواتقهم مسؤولية حماية هذا الكيان بأي ثمن كان.
الخزرجي الذي لم ير لنفسه حياة إلا داخل هذا الغول العسكري المُحكم، منذ أوائل الستينات وحتى أواسط التسعينات، كان العسكر العراقيون يخوضون فيها ملحمة من الصراعات الدموية، فيما بينهم وضد المجتمع ومع دول الجوار، حتى صار العراق كله خلال تلك العقود مجرد كتيبة عسكرية.
لم تكن العسكرية مجرد تاريخ شخصي للخزرجي فحسب، بل تمتد لأن تكون سيرة للعائلة المديدة التي ينسل منها، حيث كان والده وأعمامه من قادة الجيش العراقي، وكان الجيش فعليا هو العائلة الكبرى التي نشأ الخزرجي في ظلال خنادقه وأسلحته وخطاباته ورؤيته للحياة والمجتمع والسلطة.
أيتام المؤسسة العسكرية هؤلاء، غالباً ما يحملون أفكارا تعتبر أن الحياة بكل ما فيها هي جزء وأشياء ملحقة بالعسكر وعالمهم وما يصبغون به من قداسة على ذواتهم، وليس العكس. لذا يُستحيل عليهم التفكير والاعتراف بما قد يدحض ذلك، وإن كانت إبادة جماعية، وأياً كانت الحقيقة الموضوعية لتلك الإبادة.
المشرب الثاني هو الإيديولوجيا القومي المطلقة، التي تتلبس أروحهم كفكرة كلية حول الوجود والمعنى، تلك الإيديولوجيا القومية التي لا تقل ثباتاً وجبروتاً عن الإيمان الديني المتطرف، من حيث تملكه قدرات هائلة لتقديس الذات وتكفير الآخرين، وتالياً إمكانية بالغة لإخراجهم من آدميتهم، وبذا إمكانية محقهم.
نزار الخزرجي المجبول بأفكار البعث الفاشية، هو أيضاً نجل عبد الكريم الخزرجي، أحد الضباط العراقيين البارزين، من الذين شاركوا في (انقلاب مايس) عام 1941، مع تشكيلة من ضباط الجيش والساسة العراقيين، الذين كانوا يملكون هياماً وولاء وروابط بالزعيم النازي أدولف هتلر.
لا يُقصد هنا اتهام الخزرجي بناء على سيرة عائلته، بقدر محاولة القول إنه شخص ولد وعاش ضمن هذا التكوين الإيديولوجي والخطابي الفاشي.
ذلك التكوين الذي لا يملك أي اعتداد بقيمة البشر وحقهم في الحياة والحرية، مقابل انغماس مطلق في رؤى الهندسة الاجتماعية والقومية والجغرافية، بالذات في مواجهة الجماعات المُصنفة كخطر محدق على تطلعات/أوهام هؤلاء الفاشيين.
في هذا المقام، فإن إنكار الخزرجي لإبادة جماعية مثل حلبجة وحملات الأنفال، هو فعل طبيعي ضمن سياق وعيه الفاشي للعالم، فالموت والإبادة وإزالة القرى ومحق البلدات ليست أفعالاً ذات دناءة أخلاقية في وعيه، بل هي متطلبات اعتيادية ضمن ما يُعتقد أنه الملحمة القومية الكبرى، هذه العقيدة التي ما خجل كل قادة البعث والقوميين العرب من التعبير والتأكيد والاعتداد بها في كل حين.
أخيرا، فأن الخزرجي هو الثمرة النهائية لشجرة الهزيمة العراقية، هو العتق النهائي للمهزومين، وما يحملونه من نرجسية زائفة في ذواتهم، يسعون بها لتغليف وتغييب حقيقة ما يعيشونه من شعور حقيقي بالهزيمة.
تأسس وعي الخزرجي في بدايات شبابه مع لحظة طُرد والده من الجيش، بعدما كان قد مُنع من المشاركة في حرب عام 1948، لما كان يحمله من أفكار عدوانية.
الانخراط الفعلي للخزرجي في القيادة العسكري كان في سنة الانقلاب الثاني لحزب البعث في العام 1968، عبر عمله كنائب للملحق العسكري للعراق في الاتحاد السوفياتي، وأحد عرابي العلاقات العسكرية الاستراتيجية بين البلدين، التي توجت باتفاقية عام 1972 الشهيرة، التي كانت اتفاقية لبيع العتاد العسكري أكثر من أي شيء آخر. لكن الأسلحة السوفياتية التي كان الخزرجي كافلها، تحطمت أمام بنادق المقاتلين الأكرد في أواخر الستينات، وأمام الجيش الإسرائيلي في حرب 1973، التي شارك فيها الخزرجي نفسه، وذاق الهزيمة.
في الثمانيات كان الخزرجي مسؤولاً مباشراً عن الهزيمة أمام إيران، بالذات في محور الشمال الذي بقي يقوده لسنوات، ثم صار يبيع أوهاماً كلامية حول نصائحه لصدام حسين باحتلال الأحواز وضمها للعراق، ليخلق لنفسه صورة البطل الذي لم يسمعه القائد.
هزيمة الخزرجي، الذاتية والعمومية، تكرست خلال حرب الكويت، عسكرياً على أرض الميدان، وسياسياً عبر الروايات المتناقضة التي بقي طوال عمره ينشرها حول موقفه من تلك الحرب.
لكن أهم اشكال الهزيمة في ذات الخزرجي كامن في شغل لمكانة اللاشيء فيما طرأ على العراق من تحولات.
فهو الذي انشق عن النظام السابق دون أي يقدم نفسه كمعارض سياسي لأفكار وسلوك حكم ذلك. بل قال صراحة إنه فرّ من العراق خوفاً من قبضة صدام. وهو الشخصية القيادية العامة التي بقيت لأكثر من ربع قرن ملاحقة من قِبل المحاكم الأوربية، والضابط العتيد الذي رفض الحكم الجديد في البلاد استقباله ومنحه أية مكانة بعد عودته الطوعية.
الخزرجي بهذا المقام، إنما يدفع بالنكران لحماية شيء ما من ماء وجهه، قابلة جرح الهزيمة ومكانة اللاشيء التي يشغلها، لمحاولة نيل شيء من المعنى والقيمة، وإن على شكل أكذوبة كبرى.
حسب كل ذلك، فإن نكران الإبادة الجماعية، بكل ما تحمله من أدلة جنائية وطاقة أخلاقية، إنما هو فعل اعتيادي من قِبل أناس مثل الخزرجي، من الذين كانوا طوال تاريخ العراق الحديث طبقة عليا ومهيمنة على سدة الحياة العامة في البلاد، سدنة هيكل الأوهام الخطابية، من الذين يملكون ملايين المريدين والمهلهلين البؤساء، الذين تشهد تعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي على دناءة مشاركتهم العقلية والوجدانية للخزرجي في إنكاره المريع.
في مذكراته المرعبة، يذكر السجين السياسي المغربي أحمد المرزوقي واحدة من أكثر القصص دلالة على ما قد يترتب على سلوك النكران من فظاعات.
إذ يقول المرزوقي، الذي عاش عقدين كاملين في غرفة منفردة داخل سجن تازمامارت الشهير في المغرب، إنه بعد أن خرج من السجن، لم يكن قادراً على المشي، لا لسبب فيزيولوجي أو بيولوجي، بل نفسي وروحي. فلأنه طوال عشرين عاماً كان سجين غرفة صغيرة للغاية، لم يغادرها قط، فقد بقي يتخيل أنه لو مشي أكثر من مترين سيصطدم بالحائط المقابل القريب، الذي بقي يحاصر مخيلته ويمنعه من المشي لفترة طويلة، إلى أن تحرر منه وأعترف لنفسه بالخروج من السجن وزوال الحائط، وبذا امتلك واستحصل قدرة المشي من جديد، ونحو دروب بعيدة للغاية.
هذا الحائط في الحالة العراقية هو إنكار الإبادة. التي ستملك طاقة الاستمرار والتعطيل المطلقة ما لم يُعترف بها بوضوح. والشاهد على حقيقة هذا الربط الموضوعي بين إنكار الإبادة وعودة اندلاعها، هم أطفال حيّ بني شيت وسط مدينة الموصل، الذين محقوا بالكامل قبل سنوات قليلة، وعلى يد أناس ترعرعوا في نفس المدرسة الفكرية والروحية التي نهل منها الخزرجي، حيّ النبي شيت حيث ولد نزار الخزرجي.
*شبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)[1]