لقاضي المتقاعد زهير كاظم عبود:
لا يختلف أحد في العراق على تعدد المكونات العراقية، واعتبار هذا الخليط الجميل مصدر قوة ودعم لتحقيق القاعدة المتوازنة في البناء الاجتماعي المهم في بناء الدولة الديمقراطية.
هذا التنوع الانساني يشكل الجسر والمعبر الذي لا يمكن تأسيس دولة مدنية تضمن حقوق الإنسان إلا من خلال ضمان حقوق جميع هذه المكونات، وهي مسألة طالما أكدت عليها الدساتير وتبجحت بها السلطات، في المساواة التامة بين العراقيين دون أي اعتبار للدين والقومية والمذهب والجنس والعقيدة واللون، وفي معايير مسألة الحقوق حيث تتساوى المكونات باعتبار أن الحقوق لا تتجزأ.
المكونات العراقية الإسلامية والمسيحية و#الأيزيدية# والمندائية تعاني من حالة التناقض التي تمارسها وتتمسك بها جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق، فأتباع هذه الديانات في النصوص الدستورية جميعا يتساوون مع جميع العراقيين بغض النظر عن الدين، وبهذه المساواة تتساوى الحقوق وتتحمل جميع الواجبات والالتزامات القانونية.
حالة التناقض في النظرة الى ابناء المكونات العراقية تنسحب على ثقافة المجتمع، حيث لم يزل ينظر الى ابناء هذه المكونات الأصيلة، نظرة بعيدة عن المساواة والأيمان بالحقوق المنصوص عليها في الدستور بما فيها حرية الفكر والعقيدة والضمير، ولعلنا لا نغالي اذا قلنا ان هناك تجهيلا للتاريخ واخفاء للحقائق تتناوب عليه اجيال من العراقيين من خلال ثقافة المجتمع في البيت والشارع والمدرسة وفي الجامعة وفي مؤسسات الدولة والمبنية على اساس التفاضل بين الديانات نقيضا لما ورد بنصوص الدستور.
الديانة الأيزيدية ديانة قديمة لا نريد ان نسهب في قدمها وعراقتها، أسوة بالعديد من الديانات القائمة على الأرض العراقية، وأتباع هذه الديانة تعرضوا بسبب اعتناقهم للدين الأيزيدي، والذي يؤمن بوحدانية الله، خلال فترات متباعدة من التاريخ الى مجازر وحملات ابادة جماعية وتطهير عرقي وصلت لأكثر من 72 حملة شعواء، تحمل فيها الأيزيديون بالإضافة الى تهميشهم، حملات من المجازر الدموية والسلب والنهب كانت تتم تحت ستار الدين، راح ضحيتها مئات الالاف من البشر لم يرتكبوا جناية أو ذنب سوى كونهم يتمسكون بعقيدة كفلها الدستور والشرائع وحقوق الأنسان، حملات لم يعرفها العالم ولاذكرتها كتب التاريخ الحديث، لقصور في كشف الحقائق، ولسيطرة الحكام المشاركين بالقتل على ما يكتبه المؤرخين.
هذه المجازر كانت جميعها حملات منظمة للإبادة الجماعية، حملات القتل الجماعي هذه كانت تستهدف الأيزيديين بقصد تدمير وجودهم ومسحهم من الأرض التي يعيشون فيها، وهو ما يتطابق مع التعريف القانوني لمفهوم #الإبادة الجماعية#، بما يعني ممارسة افعال القتل الجماعي ضدهم، والحاق الأذى النفسي والمدمر في نفوسهم، وعزلهم ضمن مناطق معينة ومحاربتهم اجتماعيا ونفسيا، والتضييق عليهم معيشيا، كل هذه الأمور تمت ممارستها عليهم ضمن نطاق المرحلة التاريخية التي مرت، والتي من نتائجها أن انتشرت مجموعات منهم في سورية وتركيا وأرمينيا وانتشروا كلاجئين في الدول الاوربية.
ولم تكن الإجراءات التدميرية التي مارسها الدكتاتور صدام ببعيدة عن الذاكرة، فقد حاصرهم ضمن مجمعات سكنية أشبه بمعسكرات الاعتقال، وصادر اراضيهم، وطارد شبابهم، وعمل على دفع بعض منهم لتغيير قوميته، وحاول استغلالهم، ويكفي أن اغلب اراضي سنجار الزراعية لم تكن ملكا صرفا لأصحابها، ولم تزل اعداد منهم تعيش في تلك المخيمات.
وإذا كنا نريد أن نتوغل في قضية الإبادة والتطهير العرقي الحاصل للأيزيدية، فأن الجريمة الأخيرة التي ارتكبتها عصابات إجرامية تحت غطاء وستار ديني باسم داعش، تجسد كل معاني الجريمة التي يتم ارتكابها بقصد الإبادة، فقد ارتكبت مجازر على اوسع نطاق، وتم اقتياد الأطفال والنساء والشابات كأسرى وسبايا بعيدا عن الاخلاق والشرف، واذا كان تعريف السبي هو الوقوع بالأسر عند الأعداء المحاربين، فلم تكن هناك امكانية مواجهة مسلحة وحتى الدفاع عن النفس من قبل المجتمع الأيزيدي، كما أن السبايا من النساء امتهنت انسانيتهن وتم بيعهن في أسواق النخاسة، كما تم الاعتداء على النساء الباكرات والأطفال، وتم ترويع الشيوخ العاجزين عن النزوح من بيوتهم باتجاه الجبل، بان قاموا بقتلهم وذبحهم نحرا وتصويرهم، وقتلوا أعداد كبيرة من الأيزيديين اطفالا ونساء وشباب لم يتمكنوا من مغادرة بيوتهم وقرآهم.
وقد لا تختلف الطريقة التي عومل بها الايزيدية في جميع الفرمانات التي مرت بتاريخهم الدموي، فسبق لهم وأن تم تعليق رؤوسهم المنفصلة عن الأجساد فوق جسر الموصل، وسبق وأن تمت ممارسة ترغيبهم وترهيبهم لدخول واعتناق الدين الإسلامي قسرا، ومن ثم تم قتل من رفض منهم، وتم دفن اعداد منهم بالتراب وهم احياء، وسبق وأن تمت استباحة قراهم وبيوتهم ونهبوا حلالهم، وتمت ممارسة استرقاقهم وجعلهم عبيدا للمنتصرين الذين احتلوا ارضهم وبيوتهم، وهدموا مزاراتهم، واحرقوا محاصيلهم، واصبحت اعداد كبيرة منهم رقيقا دون حرية او ارادة، وغيرت أعداد منهم دينها على امل الخلاص من سيطرتهم وجبروتهم وقساوتهم كل هذا تم باسم الدين.
الاختلاف الوحيد هو في توفر التقنيات العلمية التي سمحت بأن تنقل بعض الأحداث أو جزء يسير من الجرائم المرتكبة بواسطة قنوات التواصل الاجتماعي، وجاء الاجتياح الأخير في الشهر الثامن من عام 2014 ليؤكد بان ما حصل للأيزيدية لا يشكل الا استمرار لنهج دموي لن يتوقف بالتمنيات وسيتكرر مستقبلا.
ليس داعش وحدها من يستهدف المكون الأيزيدي، بل جميع العناصر المتطرفة في العراق، والتي تعدهم كفار مع انهم يعبدون الله وحده، وأن ورد اسمهم خجولا ضمن نص الفقرة ثانيا من الدستور، حيث يضمن الدستور لهم حرية العقيدة والممارسة الدينية،الأيزيدي ليس بحاجة فقط لممارسة طقوسه الدينية بحرية كما يقول البعض، فهو بحاجة ماسة للشعور بإنسانيته داخل المجتمع العراقي، من خلال المساواة مع باقي الشرائح والفئات، وهو بحاجة ماسة لأن يلمس دوافعه للبقاء ضمن الشعور بالأمن، علينا أن نضمن عدم عودة الرعب والإرهاب الى مناطق الأيزيدية، وسيبقى الأيزيدي مرعوبا حتى في أرضه، وعلينا أيضا أن نثبت عدم تعرض ظهورهم للطعن أيضا، فقد غدر بهم الجار، وان نضمن لمناطقهم الحماية المناسبة، سواء ما كان منها عراقيا أو اقليميا أو حتى دوليا، وعلينا أن نساهم في ترسيخ قيم التفاهم والمحبة والحوار بينهم وبين بقية شرائح المجتمع. وسيبقون بحاجة لقناعة الآخرين للعيش بكرامة وانسانية ومساواة، حتى تكون هناك شراكة انسانية لجميع المكونات بديلا عن حالة الكراهية والعداء المستتر تحت نصوص الدستور، وفق هذا العداء المتراكم نتيجة الحقن والحشو البعيد عن المعاني الإنسانية، والمتعارض مع حقيقة العقائد والأديان التي تدعو جميعها للسلام والمحبة والوئام وتقديس الأنسان كأسمى مخلوق في هذا الكون، اذن فأن هذا التواجد الأزلي للمكون الأيزيدي سيبقى متهددا وتحت طائلة الشروع في البدء بجريمة أبادة جماعية أو تطهير عرقي قادم والا فما معنى الخشية والخوف من المساواة.
من يخشى من المسيحيين والمندائيين والأيزيديين في العراق لا يخشى على العراق ولا يحرص على استقراره مطلقا !! ومن يتعمد في ظلمهم وغبنهم لا يحرص على مستقبل العراق !! ومن يساهم في إنقاص أهمية مساهمتهم وإشراكهم الفعلي في الحياة السياسية يدفع الى الاختلال الذي يحصل للعراق في عدم التوازن وعدم تحقيق حلمه المشروع في التطلع نحو المستقبل ولايريد الخير للعراقيين جميعا.
نقول بأن الخلل ليس فقط في عزلة المجتمع الأيزيدي وضعفه وفرقته التي تنخر مفاصله، انما الخلل يكمن ايضا في المجتمع الكبير الذي يعيش ضمنه الأيزيدي كمكون ليس له حقوق وعليه واجبات، ونؤكد بأن مسألة الحقوق ليس في امكانية ممارسة الطقوس الدينية بحرية، وليس في تبوء مركز وظيفي تنفيذي، ولافي المشاركة بالانتخابات، إنما تكمن الحقوق في المجتمع الموحد الذي يطبق بقناعة مسألة المساواة بين الناس، وأن يعتمد الدولة المدنية التي تفصل الدين عن الدولة، هذه الدولة التي تحافظ وتحمي كل العراقيين بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية أو المذهبية. دولة التسامح والمحبة وقبول الآخر وأن يتساوى الجميع أمام القانون مع تمتعهم بكل الحقوق التي تنص عليها القوانين والدستور، وأن يتحملوا جميعا الواجبات بشكل متساوي ايضا، وأن تحترم جميع العقائد والأديان.
بالنتيجة فأن المرحلة التي يمر بها عراق اليوم ليست مرحلة ديمقراطية ولا مرحلة تحول ديمقراطي بل هي مرحلة (تطعيم) ديمقراطي؟ وهذا التطعيم لا ينجح في إزاحة آثار وحش الشمولية القديم ولا إزاحة ممارسات وحوش الشمولية العراقية الجديدة دون تمكين الجميع في المشاركة، ووفق ثقافة مجتمعية ومنظور انساني للفرد بغض النظر عن دينه او قوميته أو جنسه.
إمكانية التحول باتجاه بناء الدولة المدنية يمر عبر مراحل الانتقال، متجاوزا جميع ما يشوه العملية السياسية القائمة على قاعدة مشوهة من العلاقات بين المكونات العراقية ومن بينها العلاقة مع الأيزيدية، وحتى يمكن ان نسعى جميعا وبجدية الى مرحلة بناء الدولة المدنية، علينا أن نؤمن جميعا بالمساواة الحقيقية بين المواطنين، والأيمان بالمساواة بين المواطنين بغض النظر عن دياناتهم وقومياتهم ليس سوى عبارات انشائية أو خطابات سياسية ومزاعم لا قيمة لها مالم تترجم الى واقع ملموس يدخل ضمن عملية تأسيس القاعدة في بناء الأنسان والدولة المدنية معا، حتى يمكن أن تحافظ هذه الدولة وتحمي جميع أبناء المجتمع العراقي بشكل متساوي وبغض النظر عن دياناتهم وقومياتهم، دولة تتسع للجميع وتحضن جميع مواطنيها وتضمن لهم حق الحياة والعقيدة والفكر والكرامة.
يتعرض اليوم المجتمع الايزيدي الى محنة وانتهاكات وتعدي فوق ما يتعرض له من إقامة اجبارية في مخيمات بديلا عن أراضيهم وبيوتهم، يتعرضون اليوم تحت مرمى وبصر الحكومة المركزية وحكومة الإقليم الى اعتداءات عسكرية تنغص عليهم حياتهم واستقرارهم وتدمر بيوتهم وتقتل اعداد منهم يجعل العديد منهم غير مطمئنين لاوضاعهم ولم تزل قراهم متهدمة وبيوتهم مهجورة ومزارعهم تالفة دون تعويضات حقيقية تعيد لهم حقهم كمواطنين عراقيين وتحميهم.
الأيزيدي له علاقة وطيدة بالأرض وهي تضم بقعة دينية مقدسة هي لالش، يدور حولها ويشم ترابها الا انه لن يجازف بالرحيل عنها، بالرغم من حالة الهجرة القسرية التي اجبروا عليها، وخسروا بها اعداد كبيرة من شبابهم مما سيؤثر سلبا على مستقبلهم، الا انهم سيعودون الى اماكنهم ومزاراتهم، على الحكومة أن تعزز من هذا البقاء بتمليكهم الأراضي الزراعية، وأن توفر لرجالهم فرص عمل لضمان معيشة عوائلهم بكرامة، وأن تكون التعويضات المادية التي تمكنهم من العودة واستعادة ما تم تخريبه ونهبه في حياتهم على وجه السرعة ودون وضع هدف التعويضات تحت ثقل الروتين، وعلى الحكومة ومنظمات المجتمع الدولي أن تسهم في معالجتهم نفسيا لما مر بهم من مآسي لا تتحملها اعصاب البشر، على الحكومة أن تعيد النظر في برامجها تجاه البناء التحتي المطلوب في مثل هذه المناطق، وان يساهم أقليم كوردستان مساهمة كبيرة في مساندتهم.
ومادامت هناك أدلة ثابتة على الجرائم الوحشية تمت ممارستها على نطاق واسع ومنهجي في الهجمات ضد السكان المدنيين في الأراضي التي يسكنها الأيزيديين، والتي تصنف ضمن مفهوم الجينوسايد، يستوجب ذلك على المجتمع الدولي ومجلس الأمن أن يصدروا قرارا دوليا باعتبار ما جرى للأيزيدية من جرائم الإبادة التي تدخل ضمن نطاق الجرائم ضد الإنسانية، وما يترتب على هذا القرار من تبعات قانونية وفقا للقانون الدولي.[1]