يقول الشاعر الكوردي المعروف شِيركوُ بِيكَس انه ولد في خضم الحرب العالمية الثانية يوم 2 أيار 1940 في حي كويزة – كَاوران.
كان أغلب جيرانه مسيحيين، والسيدة جميلة والدة نوري متى، هي التي ولّدت أمه، وبعد ولادته رسمت هذه السيدة بقطعة من فحم علامة صليب على جبهته، فسألها الموجودون: ما هذا؟ قالت: هذه مباركة وليكون ذكياً.
ويضيف انه محظوظ أن سيدة مسيحية هي من استقبلته، فتلك علامة على الوئام والتعايش، حتى إن كان دينياً، فهو علامة على الوئام والسلام والمحبة بين اثنين من الأديان.
لاورا شرادر، وهي كاتبة وصحفية من إيطاليا، تقول: منذ أن عرفت شِيركوُ بِيكَس اهتممت بشعره، أقصد أني لا تعجبني أشعاره فحسب. عند تقييمي لأعمال شِيركوُ بِيكَس؛ أقارنها بأعمال نيرودا، غارسيا لوركا، إيليمي ویكیسن، أوجينيو مونتالي، أي أني أقارنه بشعراء آخرين، أنا أعرف الشعراء الغربيين أكثر، في الواقع أقارن شيركو بكبار الشعراء العالميين، الذين تعرفت على أشعارهم.
أما عثمان بايدمير، وهو الرئيس السابق لبلدية آمد، فيقول انه طالما بقي الكورد وكوردستان، وطالما بقي الشعر مقروءاً ومرئياً، ستبقى بصمة شِيركوُ بِيكَس واضحة ومعروفة.
بدوره، يقول لوسيان لايتس، وهو ناشر من سویسرا انه لا علاقة لتعريف أو مفهوم الأدب العالمي بالانتماء إلى بقعة من الأرض، الموضوع ليست مرتبطاً بمَن ومن أي مكان من الدنيا يأتي، ليكتب أدباً عالمياً. هناك أمثلة كثيرة لا يتصورها العقل البشري، هناك أدب عالمي ولد في لندن، وآخر ولد في جوكوروفا مثل ياشار كمال. وفي كولومبيا ماكوندو، أو شاعر من شيلي اسمه بابلو نيرودا، وفي السليمانية شاعر كبير اسمه شِيركوُ بِيكَس.
شِيركوُ بِيكَس أو الصليب الملفوف بالشعر.. في رائعة الصليب والثعبان ومفكرة شاعر، يشير إلى طفولته بالقول:
كان طفلاً يطالع أحلام الغابة.. يشم الضوء بعينيه.. يسمع أجراس ألوان الطبيعة..
كان طفلاً مفعماً بقوة الخيال، قوة تخالط الأسطورة ورؤية الجمال..
هو شاهَدَ مسير التل والجبل وأشجار البلوط.. وسمع أجراس البرك والنجوم والأرض.
رأى قلب النجم، وملائكة الرب. هو رأى الحقائق مجردة، عارية..
هذا الشاعر، لاعَبَ القمر في طفولته ومسّد بيده الأطياف..
آه أيتها السماء، أي طفل متخم بالخيال كان!
واضح بالتأكيد مصدر صوت ولون هذه الموهبة! معلوم!
ويضيف شِيركوُ بِيكَس: بعد مطالعة الأشعار الرومانسية ل(هَردي) و(كَوران)، زاد ولعي بالشعر. لم أبدأ بالشعر التقليدي، بخلاف كثير من الشعراء، بل بدأت من حب الشعر الحديث وكتبت الشعر. بعد ذلك ذهبت إلى تجربة الشعر الكلاسيكي، ولنقل أني عرفت (نالي) أو عرفت (مَحْوِي) في وقت لاحق.
الكبير (كَوران) موجود في السليمانية ويرأس تحرير جريدة (ژین)، كَوران اسم كبير وهو محدّث الشعر واللغة الكورديين، كَوران واحد من كبار مثقفي زمانه. كان بالتأكيد صديقاً مقرّباً لفائق بيكَس، وكل قارئ يشعر بهذا. يحمل شيركو قصيدة بسيطة غير ناضجة كتبها ويذهب إلى الكبير كَوران في جريدة ژین. يبدو أنه هو أيضاً كان في رحلة بحث عن هوية للشعر.
شِيركوُ بِيكَس، يوضح: في تلك الأيام كانت ژین الجريدة الوحيدة التي تصدر في مدينتنا. كان الأستاذ كَوران رئيس تحريرها ومديرها لفترة. الجريدة كانت مملوكة ل(أحمد زرنك) بصفته حفيد (بيرة ميرد). للمرة الأولى بعثت إليه بشعري، وللمرة الأولى التقيت كّوران هناك. حملت إليه قصيدة، ويبدو أنها لم تكن تشبه الشعر. كانت أي شيء، لكنها ما كانت شعراً. أتذكر أنه أخرج قلمه، وكان يعدّل لحن الشعر أو كان يصحح لي مقاطع القصيدة. من تلك البداية بدأنا.
بينما تقول كاني: عندما كنت أرى الأستاذ شِيركوُ بِيكَس، كنت كمَن يلتقي بقصيدة، قصيدة هي في نفس الوقت طفل وشاب وشيخ. كان يخيل إليك أن حرفاً سيخرج بين الفينة والفينة من بين دخان سيجارته، وهذا الحرف سيتحول إلى سطر والسطر إلى قصيدة وردية.
أما لوسيان لايتس، فيقول: أدرك هذا جيداً، فالأمر في سويسرا مشابه من وجوه كثيرة، والسويسريون شعب جبلي. الشعوب الجبلية تجمعها أمور مشتركة. يشبهون الخضرة التي على صفحات الصخور، كلما واتت الظروف ينبتون من جديد. ثم تجد التساؤلات وبسهولة قصصاً كهذه، أو يجد شعب متحدثاً كهذا عنه، أو يبدع مغنياً، سعيد حظ الشعب الذي يعثر لنفسه على مغن مثل شيركو، فهو يضفي الأبدية على عالم من الأحداث ويحفظها.
ويردف شِيركوُ بِيكَس:
قلتها مراراً، هذه ليست المرة الأولى، القصائد البسيطة، القصائد البسيطة العميقة أصعب من القصائد المثقلة بالأقفال. فمثلاً عندما تقرأ أشعار الشاعر الأمريكي المعروف (والت ويتمان)، معلوم أني قرأتها من خلال ترجمات (سعدي يوسف)، تشعر بأنها أمر جلل، لكن عندما تدقق فيها، تقول: وما هذا؟! لكنك لن تتمكن أبداً من كتابة أشعار مثلها. البساطة في تلك الأشعار تشبه بساطة الحقيقة. فالحقيقة رغم بساطتها، هي أكبر شيء يمكن أن يقال. أكبر الأشياء هو الذي تعبر عنه.
فيما يبين لاورا شرادر: أود أن أقول إنه رغم كل شيء، وكون شِيركوُ بِيكَس شاعراً عظيماً جداً، وأنه يخاطب الجميع، فإن كل من يقرأ قصيدة له سيعشقه، وأود أن أذكّر بأنه كان كثير المزاح. عندما زارني في بيتي، وعندما دخل ورأى شبابيك غرفتي العالية، المصبوغة أطرها بالأخضر، بدأ يضحك، وقال: أشعر وكأني في بيت إمام، هههه لا أدري ربما خيّل له أني إمام؟ لا أدري، جلسنا إلى طاولة، مع بعض الأصدقاء الكورد الذين يتحدثون الإيطالية، لا أعلم إن كان قد كتب تلك القصيدة ساعتها أم لا، كانت حديثة للغاية، كتبها وترجمناها إلى الإيطالية، كانت القصيدة غاية في الجمال، إلى جانب قصائد أخرى، كان ممتعاً جداً أن تترجم قصائده وهو معك وتختار الكلمات بمساعدته، وبالتأكيد اختيار الكلمات مع المترجمين.
طفولة غاية في المرارة.. مراهقة تكتنفها الوحدة.. الوحدة، ولا صديق ولا أنيس سوى الخيال الشعري والرغبة في أن يصبح شاعراً. ثم عندما بلغ 25 سنة، أي وهو في ريعان الشباب، اضطر للذهاب إلى الجبل وانخرط كبيشمركة في العمل بإعلام الثورة. منذ أواسط الستينيات حتى ضرب الحركة الكوردستانية وانتكاسة الثورة، ثم يمر بأنفاق الغربة والتشرد، إلى أن يعود إلى السليمانية، وقبل أن ينال قسطاً من الراحة تقض مضجعه شائعة حصوله على جائزة قادسية صدام. على مدى نحو 20 سنة، اعترضت الآلام والمرارة سبيل عبق حياة ونمو غابة الشعر هذه. في العام 1984، هجر هذا الشاعر مرة أخرى حياة المدينة والحياة العادية، قاصداً الجبال والغابات والوديان والمضايق المحررة.. شاهد الأطياف الجريحة وتوسد الصخور وركب مراجيح الطيف، وواصل التحدث بلغة الصخور والحدائق.
في تلك الأيام الصعبة، كان شيركو يلعب مع الموت، يلعب على الحدود بين الموت والحياة. لكنه وبدون تردد، يرفض جائزة قادسية صدام، لكنه فيما بعد، وفي وقت متأخر جداً، يقبل بكلمة من (بايدمير) كأكبر جائزة في حياته وأدبه.
في العام 2010، أخبرني شِيركوُ بِيكَس، أنا سيروان رحيم، كاتب ومخرج هذا الفيلم، بالقول: أرجو منك تسجيل رسالة بايدمير هذه، رسالة قال فيها: شيركو أنت لست وحيداً، فهناك 40 مليون كوردي خلفك. هذا الصليب الملفوف بثعبان، تعرفه غابة الشعر هذه، كل نسائم الشعر هذه التي قدمها للغة وللإنسان، جعلت منه شخصاً يفوز بالإجماع، إجماعٍ ومشاعرَ جمعيةٍ في ظل غابته تفخر بكورديتها وصمود اللغة الحلوة التي كتب بها أشعاره وارتقى بها.
بينما يقول عثمان بايدمير: في ذاك اليوم، قلت لشِيركوُ بِيكَس؛ أنت لست وحيداً، فهناك 40 مليون كوردي خلفك. لكني أرى الآن أكثر من 40 مليون كوردي يحملون شيركو في قلوبهم ويمدون في عمر شيركو في ضمائرهم.
ويوضح: طفولة صعبة، بلا ملاذ، كأرنب بدون جحر. مراهقة صعبة، كسفينة بدون شواطئ.. وفي ريعان الشباب هروب، وذهاب إلى الجبل، ثم المهجر، ثم العودة إلى الجبال ومرة أخرى إلى المهجر. كل هذه المفاصل الصعبة للحياة، وكل هذه المحطات العصيبة للرحلة باتجاه أعلى، جعلته دائماً مشتتاً، رجلاً مشتتاً يحركه دائماً عدم الاطمئنان من الداخل. لكنها في الشعر، كانت تمنحه طاقة مميزة. كانت تمنحه القدرة على البقاء. كان قلقاً، لكنه ينتج شعراً هادئاً. غير مطمئن، لكنه ينتج شعراً مفعماً بالطمأنينة.
مليئاً بالصراخ، والصياح والشرارات، لكن شعره كان جزءاً لا يتجزأ عن الألحان وشيئاً مستقيماً ذا وئام. كانت له حياة غير مستقرة وعاش عدم استقرار، لكنه قدم غابة من الشعر غاية في الانتظام.
ويرى عثمان بايدمير أن شِيركوُ بِيكَس ليس من الجنوب، وحسب، بل هو لكل كوردستان. كان كوردستانياً قلباً وفكراً. ليس متواجداً في مكان محدد من كوردستان، فهو مرة في كرمانشاه وأخرى في سنندج، ومرة في قامشلو وأخرى في عفرين، مرة في وان وأخرى في آمد، هو في وان، في السليمانية، في حلبجة، في بيرمام، وفي كل منطقة من كوردستان. لأن الكورد وكوردستان موجودان في قلبه وذهنه، أعتقد أنه محا الحدود في فكره وعقله. تماماً مثل مايسترو الموسيقى، مثل مايسترو يوجه عشرات العازفين بإشارات يده، يبدو أنه كان يسوق عشرات الكلمات وعشرات التعابير باتجاه العزف. بهذه الطريقة، وبأسلوب المايسترو كان يبدأ بإلقاء الشعر على المستمعين، لكن هذا المايسترو يعيش في عالم مثقل بالتناقضات، بعيداً عن الانسجام، في واد يعج بالعواصف وتموج فيه الرياح. رياح لا يعلم أحد كيف ومتى تهب.
في العام 1984، عندما قصد الجبل مكرهاً، وبعد عامين لمّا بنى النظام العراقي حينها ترسانة ضخمة من الأسلحة بمساعدة دول الشرق والغرب، اضطر شيركو هذه المرة إلى الذهاب نحو المجهول، إلى مكان قصي للغاية. على أمل الوصول إلى واحدة من دول أوروبا، وصل من الجبل عن طريق إيران إلى الشام.
شِيركوُ بِيكَس، ينوه الى ان من الأمور الغريبة التي ينبغي أن تعرفها أنني تعرفت هناك على الأدباء الفلسطينيين. قالوا سنقيم لك ندوة في مخيم اليرموك. قلت حسناً. انطلقنا في أحد الأيام وتم تنظيم الندوة، حضر الندوة ما بين 250 و300 شخص. كان الجميع من طلبة جامعة دمشق، أغلب أولئك الشباب كانوا من الكورد، الكورد السوريين. قُرئت القصائد، وأذكر أنه أثناء قراءة القصائد انقطع التيار الكهربائي فجاؤوا بسراج. أذكر ذلك.
ويشير فَنَر روزبياني الى انه في الفترة بين العامين 1986 و1987، كانت فترة تتنامى فيها حركة أدبية وثقافية في صفوف الطلبة الكورد. في هذه الفترة بالذات، كنا نسمع أن شِيركوُ بِيكَس يأتي إلى الشام وينوي إقامة عدد من الندوات الأدبية وندوات لقراءة الشعر. لكن للأسف كان قدوم شِيركوُ بِيكَس في ظل ظروف لم نكن نحن في سوريا قادرين على تقديم أي شيء أو قراءة أي شيء بلغتنا.
شِيركوُ بِيكَس، يقول ايضا: لقينا ترحيباً كبيراً، عندما خرجت أحاط بي أولئك الطلبة الكورد، وعلمت المخابرات بذلك. أرسلت المخابرات في طلبي. قالوا لي: ماذا أنت فاعل؟ أين أنت ومن أين جئت؟ بأي لغة تقرأ الشعر؟ قلت بالكوردية. سألوني: أين تظن نفسك؟ قلت أنا في الشام. قالوا: هذا لا يجوز. سألوني: وأين هي قصائدك؟ كانوا يأتون بالقصائد ويذهبون ويتساءلون: ما هذا؟ قلت: هذا شعر. وأين جواز سفرك؟ ومن أي الطرق جئت؟ طرحوا هذه الأسئلة، قلت إني جئت سراً. هذا جواز سفري وهذه وثائقي. جاؤوا بي وذهبوا يومين أو ثلاثة أيام، كان أسلوب التحقيق في الشام نفس أسلوب التحقيقات في العراق. في الأخير، وهو ما يثير السخرية لدرجة كبيرة، وبينما كانوا يسألون عن القصائد ما هذا وما ذاك؟ عندي قصيدة تقول:
في غابة
حل الظلام، وثم أسد في عرينه
يفكر كيف في الغد
ينقض على جاره الفهد
وكان الفهد يفكر كيف
ينقض على الثعلب في الصباح ويسلخه
والثعلب يفكر
كيف يبلغ العش في الجبل
ويلتهم أفراخ الحمام
والحمامة تفكر
كيف تستطيع
الصياد و
الطائر و
الحيوان
في الغابة، كيف توحدهم؟
كيف لها؟
قالوا ما هذه القصيدة؟ قلت هي شعر. لا شك أنهم ترجموا (شێر) الكوردية بالأسد. قالوا لي: ما هذا؟ فقد كانوا يفكرون في أسد آخر. قلت: الأسد حيوان، وهو معروف. زاد ذلك الأمور تعقيداً. قلت لِمَ؟ بدا أن (الأسد) الذي كان في بالهم كان أسداً آخر. قلت إن الأمر ليس كما تفسرونه أنتم، هذا تفسيركم أنتم. أنتم من يفسر الأمر هكذا. قالوا: لا، أردنا فقط أن نعرف ما هذا. في النهاية أعادوا لي القصائد وقالوا: ومتى سترحل؟.
الكاتب والصحفي، فَنَر روزبياني، أوضح انه كان لقدوم شِيركوُ بِيكَس إلى روجآفا وإلى سوريا أصداء عظيمة. ليس بين الكورد وحدهم، بل وفي صفوف العرب أيضاً. خاصة المثقفين والكتاب العرب، لدرجة يمكنني أن أضم إليهم الكتاب العرب المقيمين في لبنان، حيث كان كثير من الكتاب العرب من دول عربية مختلفة يقيمون في لبنان، كانت له أصداء بينهم، وكان له تأثير عليهم أيضاً. هو مشرد، لكنه يُطرد من هناك.. يُطرد من الشام، بسبب كلمة؟ لا، بل لأنه يقرأ الشعر بلغة لا وجود لها. فاللغة الكوردية غائبة حتى الآن عن الأنفاق المظلمة لبعض العقول. في ذلك الوقت بالذات، عندما طُرد من هناك، بعث له عشاق الشعر وحقوق البشر في إيطاليا بالتعاون مع اللاجئين الكورد في البلد، تأشيرة سفر. فانطلق من الشام إلى فلورنسا الإيطالية. يُطرد من الشام ليعلق له دانتي ملصقاً في فلورنسا ويُستقبل كما يستحق في إيطاليا.
كما اضاف شِيركوُ بِيكَس: لحسن الحظ أن مجموعة من المخلصين الكورد في إيطاليا، في مدينة فلورنسا، علموا أني جئت إلى هناك، وبدأوا مساعيهم، وبعثوا لي عن طريق لجنة حقوق الإنسان في فلورنسا دعوة إلى السفارة الإيطالية. بينما كنت أتمشى حزيناً ذات يوم، قال لي شاب: ألم تذهب إلى السفارة الإيطالية؟ قلت متسائلاً: السفارة الإيطالية؟ قال: كنت هناك وأخبروني أن رجلاً بهذا الاسم موجود، لماذا لا يأتينا لنمنحه تأشيرة سفره؟ كان ذلك بمثابة هدية من السماء. كانت الأوضاع مزرية للغاية في الشام بعد تلك الندوة. هكذا حصلت على التأشيرة وتوجهت إلى إيطاليا، وهناك جاؤوا لاستقبالي، وانطلقنا بالقطار إلى فلورنسا.
وتقول لاورا شرادر: تم تنظيم أمسية خاصة بأشعار شيركو، وألقيت قصائد عديدة في تلك الأمسية، وكان ممثل إيطالي يقدم الترجمة للقصائد. الأمسية أقيمت في مكان معروف جداً، على نهر (بو)، وكان المكان فسيحاً. عندما انتهى شيركو من إلقاء القصائد، كان هناك تصفيق غير متوقع، تصفيق وأصوات، حققت الأمسية نتائج جيدة جداً. خاصة بعد إلقاء القصائد باللغة الكوردية، رغم أنها كانت لغة غير معروفة عند الحاضرين، مجموعة قصائد يلقيها شاعر لم يكن الحاضرون قد سمعوا اسمه قط من قبل، كان ذلك العمل مكسباً كبيراً. خاصة وأن أسلوب شِيركوُ بِيكَس في الإلقاء، أسلوب يكشف كل الغايات والمشاعر المكنونة.
واشارت لاورا شرادر الى انه كان مثيراً جداً، عندما كان شيركو يلقي قصائده، كان يجذبك بطريقة لا تُصدق. كانت لشيركو عند إلقاء القصائد طاقة سحرية تجذب إليها المستمعين والحاضرين، طاقة غير مرئية، صوته، أسلوبه، وتيرة قراءته، كل ذلك بصورة عامة. كان لهذا الشاعر تأثير قوي للغاية حقاً. في الأخير، عندما انتهى، وقف كل الحاضرين وانطلقوا يسعون إلى طاولته.
فيما يرى شِيركوُ بِيكَس ان أجمل شيء كان أنني عندما كنت أجوب مدينة فلورنسا أجد ملصقات تحمل صوري معلقة على أعمدة الشوارع الرئيسة في المدينة. ملصقات كبيرة بحجم متر ونصف المتر تشير إلى عقد ندوة شعرية لي. في الحقيقة، رحب بي هناك الكورد والإيطاليون في لجنة حقوق الإنسان وكذلك حزب الخُضر، ترحيباً جيداً. عقدنا ندوة غاية في الجودة باللغة الإيطالية. القصائد كانت بالكوردية وألقاها شاعر إيطالي باللغة الإيطالية أيضاً.
من جانبه، ذكر لوسيان لايتس: أتذكر زيارة شِيركوُ بِيكَس لنا في دار النشر. جلس على هذا الكرسي، كان ذا جسم ضئيل، لكنك كنت ترى كل الأشياء في ذلك الإنسان تشع من داخله. ما نقرأه نحن في جملة له، كان بإمكانك أن تراه كله فيه. كان بداخله هيجان لا يصدّق. حضوره للغناء، أو للسرد، أو لتفجُّر وانسياب الكلمات من داخل هذا الإنسان، وكيف نشأ، كنت أشعر بتلك الأشياء. هو كإنسان كان نفس الشيء، كان يضمر بركاناً. كان يتضخم بشكل مفاجئ، بقوة وبصوت أيضاً. في نفس الوقت، وعندما كان يلوذ بالصمت، كان يهدأ، صامتاً متواضعاً، يدخن السيجارة تلو الأخرى، وكأنه يضخ مع أنفاسه كل المشاعر ثم يطلقها علينا نحن البشر.
قصيدة الخيمة
إلى أين تذهب بضحكة تلك النبتة؟
إلى ذلك الحقل الحزين
لمن تدفع قلم البرق ذاك؟
لذاك المرج كي يكتب لنا ديوان خزامي أحدث
ولماذا تلف نفسك بقوس قزح ذاك؟
ذاهب إلى عرس ذاك السهل الذي تزوج هذه القرية حديثاً
وماذا عن خاتم الشفق ذاك؟
سأضعه في أصبع تلك القصيدة التي تقف على القمة
ومرآة الشمس تلك؟
آخذها لتلك الغابة السوداء
التي منذ وفاة حلبجة
لم تمشط شعرها
وماذا تفعل بابتسامات الأطفال تلك؟
سأزرعها في بقعة أرض
نصبت فيها الحرية مع المحبة خيمتها
رغم أن حياته كانت حبلى بالمد والجزر.. حبلى بعدم التناسق، حياة صاغ عبقها الهم والقلق، حياة غير مستوية، لكن أشعاره كانت منتظمة ملأى بالموسيقى وبالغناء.. كان يرى أنه من الممكن كتابة شعر مقفى، حر، أن تحلّق الكلمات بحرية، لكنه كان يقول: لا يجوز أن يكون الشعر بلا موسيقى وبلا لحن.
بعد وفاته عثر على مسودة نص مفتوح، ذكرى دراجة كركوكية؛ .. بقراءة البادئة التي كتبها بنفسه، يتضح أن شيركو أفل وهو في قمة العطاء والكتابة.. وكما يغمر الغروب السماء بلون أحمر قان، لوّن شيركو جزءاً كبيراً من سماء اللغة والشعر الكورديين بألوانه الخاصة إلى الأبد.[1]