د. محمود عباس
أكثر الحركات حاجة إلى التطبيق المطلق للجدلية الثقافية المتوالية، والتي بنيت عليها الحضارات، هي الكوردية، الثقافية حصراً، وبكل ما تملكه من الإمكانيات، لأنها الأكثر عوزاً لتصعيد وعيه و#المجتمع الكوردي# عامة، ولن يتم ذلك، أو سيظل ناقصا-مشوهاً، بدون التحرر من الثقافة الشمولية الموبوءة، التي فرضتها الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة، بدءً من السنوات الدراسية الأولى إلى تخرجنا من الجامعات، ومثلها في ساحات العمل، وفي الشوارع والحانات وفي الدوائر الحكومية، ومن خلال التلفاز، والمذياع، والصحف والمجلات، إلى أن أصبحت صور نمطية مهيمنة على أذهاننا. فرغم كل معاداتنا ومحاربتنا لها ولعقود طويلة، إن كانت في الوطن أو المهجر، ورغم التغيرات الهائلة في التواصل وبنية الثقافات، ظلت الدكتاتورية راسخة في أذهان شرائح واسعة منا، نتعامل بين بعضنا على سويتها وبنفس الأساليب الشمولية.
بعد عقدا أو عقود وأكثر على غياب هيمنة تلك الأنظمة، إما بعدميتها في منطقتنا، أو على خلفية الهجرة، تشكلت ثلاث مجموعات فكرية ضمن حراكنا الثقافي:
الأولى؛ تكاد أن تكون متحررة من تلك الثقافة، تلتزم الصمت أو النقد العصري لمخالفيهم في الرأي، وربما هي الأغلبية.
والثانية، مثلها؛ لكنها انساقت إلى بيئة عنفيه تجاه كل من لا يوازيها فكرا.
والثالثة؛ لا تزال تعاني ويلات تلك الثقافة، إن كانت في الداخل أو الخارج، تنشر السواد على كل الأطراف.
والأخيرتين إحداهما أخطر من الثانية. لذلك نجد ضياع أعمال الشريحة الأولى، والتي تسود عندها الثقافة الحضارية على الشمولية، وتساهم في تصحيح مسارات مخالفيها، ويحاولون أخذ العبر من الناجحين في حقل ما، على خلفية عبثية المجموعتين؛ الثالثة حصراً، والتي لا تزال تعيش التيه الثقافي، وتحتاج أكثر من أية شريحة في المجتمع إلى الحضانة والتوعية، لأنها الأكثر ضررا من الجميع على الحراك والقضية.
ومن مساوئهم، إننا جميعا نهاجم الأنظمة الدكتاتورية نظرياً، لكننا نقلدهم في الواقع العملي بكل أبعادهم، على خلفية عبثية المجموعتين اللتين لا يزالان يخلقان الفوضى الفكرية ضمن المجتمع.
نتحدث عن شريحتين من حراكنا الثقافي، وعن البون الشاسع بين التهجم والنقد في مداركهم، عن حملتهم لرايات الأولى، وتغييبهم لجماليات الثانية، عن السذج الذين يدرجون ذاتهم في خانة النقاد، عن المنتقدين الذين يجدون التجاهل خير رد على ما لا يستحق الرد، عن الإشكالية التي كتب فيها المئات من المفكرين، والكتاب، وطرحت مثلها من المفاهيم والأفكار، وبنيت عليها مدارس النقد، وما أكثر الذين تعمقوا بالحديث عن أهميتها وسلبياتها وإيجابياتها. نتحدث عن ضحالة إدراك العابثين بالثقافة لنتائج أعمالهم، وخلفياتهم، وضررهم على الثقافة والمجتمع، وعلاقتهم بالوعي، والجهالة.
نتحدث عن الضروريات التي يجب أن يستند عليها الشريحة الواعية من حراكنا الثقافي، للفصل بين الناقد الموضوعي، وبشاعة المتهجم الساذج، الغوغائي، العابث ضمن المجتمع والذي جل همه جلب الانتباه إلى ذاته. والحرص على عدم السقوط في حبائل التيه، في مرحلة يعاني فيها حراكنا الثقافي الكوردي الويلات. نتحدث عن العمل الدؤوب لإنقاذ السذج وعدمي الإدراك، من مستنقع التهجم بعمومياتها؛ وتعريفهم على جماليات التوقف عند حد ما، وتذكيرهم بمضار النسيان أو تناسي التعميم، والتمييز بين النقد الإيجابي والسلبي، علهم والحراك يستفيدون ويفيدون المجتمع.
من الجميل أن يقدم كل منا رؤية فيما يطرحه الطرف الأخر من آراء ونشاطات، إن كان على مستوى الأشخاص أو الاتحادات أو المنظمات، ومن المفيد لشعبنا ولقضيتنا أن نحاول تصحيح الأخطاء، أخطاء الكتاب، والشعراء، الأدباء، السياسيين أو الحزبيين، والتمييز بين الإنتاج الأدبي والأديب، بين الشعر كمادة والشاعر كشخص، بين نشاطات الحراك الثقافي والكتاب القائمين عليه، وعدم التيه عند تقويم المسارات الفكرية وأصحابها؛ والابتعاد عن إصدار الأحكام بمطلقه، أو الطعن في المادة والنص من خلال أصحابها، كأحكام الطغاة السياسيين.
جلنا يدرك أن الجهالة في النقد ستلحقها أحكام جائرة سلبية، وستنتهي إلى نتائج فاشلة، مثلما التقييمات الضحلة لأي عمل ثقافي أو لنص ما سيزيد من تعتيم المسيرة الثقافية، والأكثر أذية عندما تهيمن الشمولية في التهجم، وهو ما سيؤدي إلى تدمير ما تم بناءه من الثقافة الصحية في المجتمع.
ندرك، وعلى مستوى الشعب وحراكه، أن الاختلاف والتباين في الآراء وأساليب العمل سمة من السمات الحضارية، رقيها أو ضحالتها انعكاس مباشر لتطور المجتمع أو تخلفه. أما على مستوى الأفراد، مثقفين أو على نسقهم، نرى أن الطعن في الأخر شخصا أو نصا، لمجرد خلاف ودون تعليل منطقي، أو لتبيان الذات، وباء فكري، خاصة عندما لا يستند المتهجم على الحجة والأدلة؛ وتطلق الأفكار على علاتها، إلى درجة عدم إدراكه أنه يطعن في ذاته حتى ولو حام حوله شريحة مماثلة لمداركه، قبل أن يكون انتقاصا من المعني بالأمر، ويكرس العلل بين المجتمع. وهؤلاء أكثر الناس حاجة إلى المساعدة عن طريق التوعية.
لا شك، النقد مرآة عاكسة لصاحبه قبل أن يكون كشف عن الناقد وأعماله، إذا تجاوز حدوده، وغابت فيه المفاهيم والوعي، وكانت الغاية الطعن، ستبين الصورة المشوهة للناقد قبل المنتقد، وسينكشف فيها عورات ثقافته وقيمه، والأسس التي بنى عليها مفاهيمه.
على مدى العقود الماضية كنا نهاجم أساليب دوائر الدولة الثقافية ورقابتها، وبعد التحرر من خلال النت، لا تزال الشريحة العابثة غير مدركة كم هو جميل أن يقوم ضمير الأنسان ووعيه بالدور ذاته، وعلى المستويات العصرية، وحسنات التحرر من مساوئ التهجم المخفي؛ المؤشر الأكثر وضوحا عن الحقد الدفين على الحياة والمجتمع.
الخروج عن جغرافية النقد الموضوعي، عن وعي، حالة مرضية نفسية، معروفة لدى علماء النفس، يصاب بها معظم الذين يحاولون التسلق للتعريف بذاتهم، وهم أكثر الناس تبجحا بمفاهيمهم، وانتقاداتهم للآخرين دون قيود.
لا بد من العمل على إنقاذ المجتمع، ومعهم الشريحة الثالثة، من مخلفات ثقافة الأنظمة الشمولية، وتجاهل أصوات المحبطين من الشريحة الثانية، والعمل قدر الإمكان على إرشادهما إلى الدروب القويمة، وتجاهل الرد بالمثل، بل وتوجيههم للتركيز على مواجهة مشاكلنا القومية والثقافية، ففي الأولى إنقاذ لثقافة المجتمع من الانحدار نحو الضحالة المعرفية، وفي الثانية تضحية مشرفة من أجل تحرير ثقافة الشعب، وتنويره وتعويم مداركه.
لا شك أن العديد من الذين تعرضوا أو يتعرضون إلى الإساءة ليسوا بعاجزين عن ردها، لكنهم عرفوا ويعرفون قدر المسيء فتجاهلوه وثمنوا قدرهم، فارتقوا بها ورفعوها عن كل ما لا يليق بهم.[1]
الولايات المتحدة الأمريكية