إبراهيم خليل
أولا: حول اللغة
اللغة منتج بشري جماعي اجتماعي تعددت النظريات في نشأته الأولى وانتهت إلى واحد من خيارين: الوقف أو الاصطلاح. وﻷني لا أرى أي قيمة علمية في الخيار اﻷول وأميل بشكل حاسم إلى الخيار الثاني أرى أن من غير المنطقي على اﻹطلاق أن يكون شخص واحد ما قد اختلق اللغة وتعلمها بمفرده ثم علّمها غيره ﻷنها في اﻷصل ملكة تشاركية تستلزم الاتفاق والتواطؤ تحقيقاً لمصلحة مشتركة هي تيسير العيش وزيادة فرص البقاء بناء على الميزة التي يمنحها التفاهم لجميع أفراد المجموعة ولا يتم ذلك إلا بوجود آلية متوافق عليها للتعبير والاستيعاب. ولا شك عندي في ما كان لنشوء اللغات اﻷولى على أيدي جماعات متفرقة من البشر اﻷولين في أمكنة متفرقة من العالم القديم وفي أوقات متفاوتة من فعل السحر في تحويل مسيرة اﻹنسان ومصيره على اﻷرض, وتخصيصه بامتياز فريد لولاه لتابع حياته القطيعية البهيمية لا يشغله من أمر هذا الوجود سوى شاغلي الجنس والطعام ومحاولات النجاة اليائسة من الحيوانات الأحدّ ناباً أو اﻷضخم حجماً.
مع تزايد أعداد البشر وانتشارهم جغرافياً، اختصّت كل جماعة بشرية بلغة منفصلة عما عداها ولعبت اللغة المخلوقة باتفاق ضمني دوراً رئيسياً في عملية التقارب والتآلف بين أفراد الجماعة اللغوية (اﻷسرة) الواحدة بالقدر نفسه الذي تحوّل فيه جميع غير الناطقين بتلك اللغة إلى “آخرين” أعداء في الغالب بسبب حالة الغموض وغياب التفاهم حتى انتهينا إلى عالم اليوم الذي تم فيه تعيين اللغات ودراستها وضبطها بل تخصيصها لأمم بعينها وحصرها داخل حدود جغرافية بعينها تحت مسمى “اللغة الوطنية”.
لا تكاد توجد اليوم على كثرتها لغة غير مدونة بل إن علماء اﻷلسنية في دول العالم المتحضرة حريصون منذ عقود على حفظ وتدوين اللغات المنقرضة بلمِّ شتات أحرفها وأصواتها وكلماتها عن الرُّقُم وجدران الكهوف وقطع العملة حرصهم على استنقاذ أي لغة شفاهية على شفير الانقراض ولو كان عدد متحدثيها زوجاً واحداً من البشر إيماناً منهم بمشاعية التراث اﻹنساني والمسؤولية الجماعية عن حفظه.
يتعدى دور اللغة اليوم جانبه العاطفي الشخصي وحتى الاجتماعي العام إلى جوانب سياسية اقتصادية مؤثرة في حياة اﻷفراد على المدى البعيد حتى ولو لم يشعروا بذلك أو يحسبوا له حساباً ولذلك تراها داخلة كعامل رئيسي في حسابات الدول الكبرى التي ترى أن سيادتها مقرونة بحفظ لغتها وأن امتداد نفوذها مرتبط بأبعد نقطة تصل إليها لغتها وحيثما وجد ناطق بلغتها في أي مكان في العالم فهو مشروع حليف محتمل أو على اﻷقل حيادي إيجابي لن يعيقها إن لم يؤازرها ولذلك تراها في تسابق محموم على نشر لغاتها القومية بجميع الوسائل المتاحة راصدة لها ميزانيات مجزية ومدافعة عنها بشراسة أو محاربة لغة أعدائها كلما وحيثما لزم اﻷمر[1]
وفي الوقت نفسه انتبهت اﻷمم المستضعَفة إلى خطورة دور اللغة ومركزيته في بلورة شخصيتها الاعتبارية وتعزيز موقعها السياسي على المدى القريب والاقتصادي على المدى البعيد فتمسكت بها وحرصت على نشرها والتدوين بها وتعليمها لناشئتها بشكل منهجي ومقاومة صهرها أو الاعتداء عليها أو تحقيرها من قبل خصومها وأعدائها.
لا تتوقف حياة الفرد على تعلمه للغته أو إهماله إياها وتبني لغة أخرى مختلفة ﻷن اللغة ليست من العمليات الحيوية الفردية وذلك أمر مفهوم ولكن ما تتوقف عليه حياة أي أمة من اﻷمم هو بقاء لغتها التي تميزها عن سواها وتشكل حجر الزاوية في عمارة هويتها على قيد الحياة، والتاريخ حافل بأسماء أمم سادت ثم بادت ولم يعد للغاتها اليوم من مكان سوى على رفوف المكتبات القديمة وفي كليات اﻷلسن واﻵداب.
الكردية لغة القرباط وماسحي اﻷحذية …
أقدم كتاب مدوَّن حفظ الجذور اﻷولى للغة الكردية المنطوقة اليوم هو كتاب “أفستا” المنسوب إلى أول نبي تاريخي معروف وموثق وهو النبي الميدي “زردشت” الذي يختلف المؤرخون حول تاريخ ميلاده ووفاته لكنهم لا يختلفون أنه ظهر قبل ميلاد المسيح بقرون عديدة.
يحتوي ما وصلنا من هذا الكتاب على مئات الجذور الهندوأوربية (بشعبتها الشرقية الايرانية بشكل خاص) والتي ما زالت لها آثار واضحة في فارسية وكردية اليوم باﻹضافة إلى العنصر اﻷهم في بناء أي لغة وهو القواعد بدءً من طريقة نحت الكلمة وانتهاء بطريقة تركيب الجملة.
وإذا اعتبرنا الشرق اﻷوسط ميراث جد أول فإن الكرد هم اﻷخ المستضعف لذي استولى إخوته (في الواقع هم جيرانه لا إخوته) على نصيبه من الميراث وذلك حين انتهى عصر التناوب على دست الحكم في الامبراطورية الإسلامية ببزوغ عصر القوميات ودخلت شعوب اﻷمة اﻹسلامية (سابقا) اللعبة السياسية المعاصرة بإشراف الدول الاستعمارية الصاعدة بعد الحربين مطالبة بحريتها واستقلالها.
وبعد عقود قليلة من الاضطرابات والثورات والمؤامرات، جرى التوافق بشكل ضمني ثم رسمي على تشكيل دول قومية إقليمية للعرب والفرس والترك على حساب اقتسام أراضي “كردستان” التاريخية وتم رسم حدود سياسية صارمة مزقت كردستان شر ممزق دون مراعاة لمطالب السكان المحليين ولا لمفاهيم الحق والعدالة والمساواة ليتحول الكرد رغم كتلتهم العددية الضخمة إلى مجرد رعايا وأقليات داخل حدود دول جديدة مصطنعة وليتكفل الخطاب السياسي والبروباغاندا الشوفينية بعد ذلك في اختراع مصطلحات عدائية بحقهم مثل “منشقين، انفصاليين، متمردين، عصاة، عملاء، قرباط، ماسحي أحذية … إلخ” في مواجهة هبّات الوعي الكردي الشعبي أو النخبوي بين الحين واﻵخر.
شنت كل دولة من الدول التي اقتسمت كردستان من جهتها حرباً لا هوادة فيها مفردة وبالتنسيق ضد الحراك السياسي أو العسكري الكردي في موازاة حرب معنوية كان عنوانها الرئيسي هو الصهر بشقيه الناعم والخشن فتم إنكار وجود شعب كردي وحظرت #اللغة الكردية# حتى في المناطق التي تبلغ نسبة الكرد فيها ما يقارب المئة بالمئة ليس على صعيد التعامل الرسمي في مؤسسات الدولة ودوائرها فحسب بل حتى على الصعيد الاجتماعي الثقافي الشعبي فلم يعد مسموحاً إقامة أي نشاط اجتماعي مدني عن الكرد أو باللغة الكردية ولو كان غير رسمي.
وكانت النتائج وخيمة بالطبع إذ تصدعت الشخصية الكردية وتوقفت اللغة الكردية عن النمو بتعطل عجلة النحت والاشتقاق والتجديد وتسربت مئات المفردات اﻷجنبية إليها لتحل محل الكلمات اﻷصلية. وبسبب الحظر المفروض على التأليف والطباعة والترجمة والتوزيع, ركد النشاط اﻷدبي الكردي حتى اقتصر على الشعر أو يكاد ونشأت في مقابل ذلك – أو تعويضاً عنه – طبقة جديدة من المثقفين الكرد المنقطعين عن جذورهم الجاهلين بتراثهم من الموهوبين الذين يبرعون التعبير عن أنفسهم ومحيطهم ولكن بلغة الدولة التي يحملون جنسيتها وهذا ما تنطبق عليه تسمية “الصهر الناعم”.
ثانيا : المرياع الفصيح، سليم بركات ومعضلة الهوية:
لعل “سليم بركات” ليس أول ضحايا عمليات الصهر الممنهج التي أتينا على ذكرها لكنه بالتأكيد أشهرهم على اﻹطلاق فسمعة الرجل ك”#كاتب كردي#” اخترق فضاءات العربية كنيزك وجاب شعابها كقيّاف أثر حاذق واستحق وصف “أفضل من كتب بالعربية خلال آخر عقدين” بحسب صديقه الحميم “محمود درويش” ما تزال سارية في أوساط الأكراد السوريين – وهم أهله وعترته اﻷقربون- بشكل خاص سريان النار في الهشيم، يتخاطفون رواياته ودواوينه فيما بينهم ويتلهفون لصدور الجديد منها ويتفاخرون في من قرأ له أكثر أو قابله وجهاً لوجه أو لمحه عَرَضاً في محطة مترو أو حصل على توقيعه حتى بات من النادر أن يغيب اسم بركات عن أي حوار ثقافي يجمع نُخَب العرب والكرد السوريين ليتم رصفه إلى جانب صلاح الدين اﻷيوبي وابن خلكان وإبراهيم هنانو وأحمد بك شوقي وحسني الزعيم وخالد بكداش والبوطي وسواهم من أعلام اﻷدب والسياسة كجسور تواصل بين “الشعبين الصديقين”.
ولنفهم أصل الحكاية علينا العودة إلى الوراء قليلا …
نشأت الدولة السورية كما أسلفنا في مطالع القرن العشرين بهوية منحازة إلى الغالبية العربية[2]. ولأسباب قد تعود إلى هاجس التخلص من التركة الاستعمارية ومحاولة إعادة بلورة هوية مفقودة أو ممزقة بين الإسلام والعروبة والعثمانية والشرقية والهوية القطرية فشا بين حملة الهوية العربية في “دولة سوريا” الجديدة مزاج عروبي مبالغ فيه كردة فعل مباشرة ومنطقية على تعرضهم لقرون من السيادة التركية وعقود من السيادة الفرنسية بعدها في بلادهم.
نشأ بركات ابن العائلة الكردية – كما نشأنا جميعا نحن الجيل الكردي الذي تلاه – في الجزء #الكردستاني# الملحق بسوريا على اللغة العربية والتراث العربي والثقافة العربية فتمثلها وتشربها طفلاً وصبياً يساعده في ذلك اتقاد ذهنه وخصوبة قريحته حتى سرت في شرايينه وخالطت دماءه وأصبحت لغة يقظته ومنامه، لغة تفكيره وتعبيره، لغته اﻷم المستعارة ولكن بوشم اﻷصالة اللازب.
ونتيجة الجهد الذي بذله الكردي النابه والحبر الذي متحه من المعاجم العربية وسفحه على الورق لاحقاً استطاع أن يجد لنفسه منبراً بين رجالات الصف اﻷول من المثقفين والكتاب العرب في عصره. ونتيجة إقامته في أوربا والغموض الذي يتعمد إحاطة نفسه به والأقاويل التي تتناثر هنا وهناك حول غرابة أطواره, امتلك بركات صورة كاريزمية لا نظير لها في الأوساط الثقافية الكردية المستعربة متحولاً عاماً بعد آخر وكتاباً بعد كتاب إلى عَلَم انقسم فيه قراؤه (الكتّاب لاحقا) بين قدوة يسعى بعضهم إلى ملاحقة غبارها وعدواً وحجر عثرة في سبيل تقدم بعضهم اﻵخر في سلك الخدمة عينه.
تذكرني هذه الصورة – ولا أقصد مطلقا اﻹساءة بقدر ما أحاول اﻹتيان بتشبيه ألطف من عنوان الفقرة – بمنصب “شاويش العمال” الذي يصطنعه اﻹقطاعي من بين فئة الفلاحين فيرفع مقامه درجة خفيفة يرفعه بها على سائر أقرانه ولكن دون أن يبلغ به ذلك إلى التطامح إلى درجة السيد بل يبقيه معلقاً هناك بين علوّ همته واتّضاع نسبه.
بدأ بركات بشكل شبه تقليدي فكتب “سيرة الصبا” يتحدث فيها عن بعض تفاصيل طفولته – الكردية حقا – بلغة عربية جميلة ولكن رغم سلاستها وحلاوة سردها وطرافة تفاصيلها لم تكن تلك الطريقة في السرد وسجن الجغرافيا الذي وجد نفسه فيه ليسوقا إليه أي مجد أو شهرة مما كانت تتوق نفسه إليه فقرر تغيير كليهما معا وهذا ما حدث.
ولما كان بركات قد أتى على معظم المفيد من كتب التراث العربي وتتلمذ على أرباب البيان والبلاغة فقد هدته عبقريته إلى الخروج على نسق أقرانه واتخاذ لغة جديدة خاصة به في السرد وتقديم مزيج فريد لم يسبقه إليه سابق فكانت لغة “الكاهن العصري” الذي يعيش عصره بلغة جده وأعتقد أن هذه النقطة بالذات هي ركن تفرده وعلّة تفوقه.
وهكذا تحول سليم بركات – أو تم تحويله – إلى ظاهرة هي ظاهرة الكاتب العربي (الكردي) الذي ينافس العرب في لغتهم وأدبهم. ومع التفوق العربي السياسي والعسكري الواضحين والثقافي اﻷدبي المظنونين تم تطبيع الشاذ وتأليف الجامح وتعيين العربية كمجال المنافسة الوحيد بين أرباب البيان في سوريا بشكل خاص مع تغييب الكردية وتحقيرها ضمناً ومحاربتها دون إعلان.
أضاف بركات إلى المكتبة العربية الحديثة حوالي ستين كتاباً نصفها تقريباً روايات والنصف الآخر موزع بين الشعر والنثر الفني أما مواضيعه فتتدرج من السيرة الشخصية واليوميات في مسقط رأسه إلى الشأن الكردي حاضراً وتاريخاً فإلى شكل من الأدب الكوزمولوجي ذي هوية عالمية.
لست بالطبع في وارد انتقاد أدب سليم بركات أو تقييمه فاﻷمر متروك للتاريخ وللنقدة المتخصصين لكني أتناول منه هنا ما أدعي اهتمامي به واشتغالي عليه وهو الجانب المختص بلغة الكتابة عنده أعني العربية.
تتطلب العربية الفصحى القاموسية (في الشعر خاصة) من القارئ جهداً مكافئاً للجهد الذي بذله الكاتب في إنشائها وتكلفه النبش في أمهات المعاجم العربية من أجل إعادة تفكيك المركب تسهيلاً لهضم نص عسير على الهضم أصلاً وهذا ما لا ينسجم مع روح العصر ولا يشجع قارئاً جاداً على إنفاق وقته فيه.
ولكن لماذا قد ينجذب القارئ وبتعبير أدق “القارئ العربي” إلى نص غامض مبهم أصلاً؟
الشائع المتعارف عليه أن الإنسان عدو ما يجهل غير إن لمسألة تعلق القارئ العربي بالنص الغامض وتوقيره إياه جذور نفسية موغلة في القدم وهي أسباب خاصة بأمة العرب على وجه التحديد كونها من اﻷمم القليلة التي ما تزال تعيش ماضيها وتأبى الخروج منه إلا لماماً ريثما تشهق نفساً من اﻷوكسجين قبل أن تعود إلى الغوص فيه من جديد.
العربية الفصحى ما زالت حيّة على الورق وإن نبذتها ألسنة الناطقين في الشارع وهذا الطرز من الكتابة والتعبير ما زال هو الشائع في أوساط المثقفين والمتعلمين العرب وفي عامة وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وما زالت للبلاغة مكانتها لما تحمله بين طياتها من عبق “الماضي المجيد” وأوهام السيادة على العالم القديم بالحسام والكلام, وما زال اﻹغماض في الكلام اليوم – كما في السابق – وبوجود نص مقدس حي على مر العصور هو القرآن يؤتي أكله من باب أن كل مبهم ملهم وكل غموض عميق خصب والصنم الذي لا تستطيع صنع مثله عليك عبادته.
وفي الحالة الكردية يمكن إضافة “عقدة الخواجة” والحفاوة التي يحصل عليها ابن القرية الذي ينجح في تخليص نفسه من شوائب الكلام القروي المبتذل ويبرع في الحديث بلغة المدينة ودفع جميع الأولاد للاقتداء به ليحوزوا ما حاز ولذلك ترى معظم من يمجّد بركات ويحاول جره جراً ليكون “أديباً كردياً” هم بشكل خاص أولئك اﻷكراد المستعربون (ثقافياً) الذين يجهلون ألفباء لغتهم اﻷم ويأنفون من تعلمها ولا يتقنون التعبير ولا يريدون سوى التعبير بالعربية لأسباب نفسية معقدة متداخلة مع شعورهم بدونيتهم وأدبهم إزاء بركات وأدبه من جهة وشعورهم بدونية أمتهم ولغتهم وأدبهم مقارنة بالعرب والعربية من جهة أخرى.
أما مظاهر هذا التسبيح وتجلياته فتدور في فلك:
– الدعاية لسليم بركات بصفته “أعظم اﻷدباء الكرد” في العصر الحديث بناءً على دليل من خارج الأدب هو ولادته من أبوين كرديين في منطقة ذات غالبية كردية ثم تأسيساً على حجة أوهن وهي محتوى ما يقدمه بركات من مقاربة الوضع الكردي وتعريف القارئ العربي بالمظلومية التاريخية ولكن اعتماد هذا المقياس سيُدخل في زمرة الأدباء الكرد جميع المؤلفين اﻷجانب الذين تعاطفوا مع الكرد وكتبوا عن وجودهم أو قضيتهم أمثال فلاديمير مينورسكي وجيمس أولدريج ومارغريت كان وجوناثان راندل وسواهم.
– تحقير اﻷدب الكردي الكلاسيكي وتسفيه الحديث منه بناءً على مقارنته بالتراث العربي (والتسمية غير دقيقة ﻷنه تراث إسلامي في حقيقته) وباﻷدب العربي المعاصر (وهو ربيب الترجمة إن لم يكن سليلها أصلاً)
– الزعم بأن الكردية ضعيفة هزيلة لا تكفيهم للتعبير عما يجول في خواطرهم من ضلالات نفسية وهلاوس وجدانية ابتليت بها العربية ذاتها نتيجة للترجمات الرديئة عن اللغات اﻷجنبية.
– الشماتة من طرف خفي أو التصريح علانية بأن الكردية لغة غير معترف بها ولا أحد يقرأ المكتوب بها بينما تحظى العربية بملايين القراء، وهو برأيي نتيجة وليس سبباً ﻷن اللغة إنما تحيا بحياة أبنائها وتموت بموت غيرتهم.
وهكذا نشأ جيل من “البركاتيين” الذين يمارسون كرديتهم المفترضة باللغة العربية بشكل طبيعي ودون أي شعور بالذنب أو حتى بوجود خلل ما وأصبح ظهور طفل يصرخ بعريّ الملك مصدر دهشة أولاً ثم استهجان ثانياً ثم استعداء ثالثاً.
هذا الجيل يعبر عن نفسه ومحيطه بالعربية كلغة أم لا يشعر تجاهها بأي غربة (لا أتكلم بالطبع عن كتبة وسائل التواصل الاجتماعي وهم في مجملهم ضحايا الضحايا) بل على العكس فكمية الحميمية والتواصل التي تمنحه إياها العربية لا يمكن ﻷي لغة أخرى منحه إياها وهذا ما يجعله متعلقاً بها مدافعاً عنها حتى لو كان الطرف اﻵخر في المعركة هو لغته اﻷم.
ومن باب قوننة هذا الخط ظهر مصطلح شاذ وغريب للغاية هو “كتاب اﻷدب الكردي بشقيه الكردي والعربي” وهو مصطلح شعبوي متهافت ومشقوق إلى أكثر من شقين وفي البحث عن جذوره فائدة لا تخفى:
بعد أن ركن “الكاتب الكردي” العربي السوري بشكل نهائي إلى اللغة العربية بوصفها “لغة أنتيليجنتسيا”، كما كانت عليه الحال في بعض اﻷزمنة الغابرة حين كان للكهنة لغة مغايرة للغة عوام المؤمنين، بات يعبِّر بها عن جميع أغراضه وأحواله وﻷنها – أعني اللغة – ملكية مشاع وليست حكراً على أهلها اﻷصليين فلا ضير البتة من الاستلحاق بها ولا حرج من الانتساب إليها ثقافياً لا عرقياً وممارسة المغايرة العرقية عبرها كلون من ألوان التميز عن قرينه العربي عرقياً ووسيلة من وسائل النواح والتكسب المعنوي بمظلومية مفترضة.
ووجه الشذوذ والغرابة في المصطلح هو أنه يهمّش – لأنه لا يستطيع أن يلغي- عنصر اللغة في تعيين هوية النص وهوية الكاتب وهو اصطلاح لن تجد له شبيها لدى أي أمة أخرى فهل تتخيل مثلا أن يكون اﻷدب العربي منقسما إلى شقين: شق مكتوب بالعربية وآخر مكتوب بالكردية أو اﻷدب الفرنسي بشقيه الفرنسي واﻷلماني أو الأدب الصيني بشقيه الصيني والياباني.
أعلم أن القضية محرجة والسؤال شائك تدمى له أرجل الحفاة وتتصعّر له خدود اﻷباة لكنها دمّلة لا بد من نكئها ولو تسببت بترويع الغافلين واستجرّت عداوة الإمّعات والمريدين.
لماذا يتجنب الكردي السوري الكتابة بلغته اﻷم؟
مع انعدام الرغبة واﻹرادة ليس أسهل على المرء من ابتكار الحجج والذرائع ومن تلك الحجج والذرائع التي يختبئ خلفها الكتاب العرب (اﻷكراد) السوريون على وجه الخصوص:
– اﻷحرف اللاتينية:
ولعلها السبب الرئيسي المباشر إذ إن المتعلم الكردي السوري قد فتح عينيه على الرسم العربي للكلمات وبحكم الاعتياد أصبحت القراءة بها وبالتالي الكتابة أيسر من القراءة والكتابة باللاتينية يتضافر مع ذلك حالة الانغلاق التي فرضتها اﻷنظمة السياسية على مواطنيها والسوية الرديئة في تعليم اللغات اﻷجنبية في المدارس والمعاهد.
– الجهل بالمفردات الكردية اﻷصيلة وضعف القواميس:
أما ضعف القواميس أو قلة عددها فحجة متهافتة لأن عدد المعاجم الكردية في تزايد مستمر وأما الجهل بالمفردات الكردية فسبب حقيقي ﻷن امتداد عمليات الصهر واستمرارها مع تعاقب الحكومات الشوفينية على دست الدولة السورية قد حوّل الكردية المحكيّة إلى نوع من “الكريول” لكن التغيرات اﻷخيرة قد جعلت من هذا السبب الموضوعي سبباً ذاتياً وبات من الممكن عزوّ الجهل بالمفردات إلى الكسل وضعف الهمّة.
– عدم وجود القدوة التراثية التي يمكن النسج على منوالها وتخصيبها واﻹضافة إليها:
وهو سبب حقيقي منطقي بسبب قلة توفر المدوّنات الكلاسيكية الكردية إما ﻷنها فقدت نتيجة الاضطرابات التاريخية أو لأن المثقفين الكرد قد التفتوا منذ زمن بعيد – تحت التأثير الإسلامي- إلى التدوين بلغة القرآن (إنكليزية العصر اﻹسلامي) لكن الاستفادة من اﻷدب الكردي الشفاهي ومزاوجتها بطرائق السرد الغربية قد يسدّ هذه الثغرة.
– لا تضمن الكردية ما تضمن العربية من المال والشهرة:
وهو سبب آخر حقيقي ﻷن الكردية حاليا تسبح ضمن نطاق ضيق بسبب قلة القراء وقلة القراء تؤدي كما هو معروف إلى قلة المطبوعات وهذه بدورها تؤدي إلى محدودية الانتشار والشهرة وشح الوارد المالي.
بالتأكيد ثمة حجج أخرى ولكن مجملها بدون استثناء مجرد قشور رقيقة إن أنت حككتها قليلا ستظهر لك تحتها بجلاء مشاعر ومركّبات الدونية واحتقار الذات واستمراء الانصهار واعتياد العبودية.
الخاتمة:
إن تطويب سليم بركات الظاهرة – ولا يعنيني الشخص – ك “كاتب كردي” ليس دليلاً إلا على شيء واحد اليوم هو فاعلية ونجاعة برنامج التعريب الذي سهرت عليه السلطات السورية المتعاقبة واستسلام عامة الكرد لذلك البرنامج, وبقاؤه مرتبط ببقاء حالة الانحطاط السياسي التي يعيشها الكرد السوريون في حاضرهم, وتقبله شكل من أشكال الركون إلى الهزيمة الثقافية, ولا شك عندي على اﻹطلاق أن في زوال تلك الحالة اختفاء هذه الظاهرة أو على اﻷقل عودتها إلى حجمها الطبيعي ك “أديب عربي” من جملة اﻷدباء العرب المبدعين مع اﻹلماح في ترجمة سيرته إلى أنه ينحدر من أصول كرديّة شأنه شأن شوقي والعقاد والحيدري وهذا مما لا يرفعه ولا يحطّه.
======
[1] . احتج الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك على مواطنه “آرنست أنطوان سيلييه” رئيس لوبي الأعمال الأوربي وغادر القاعة بشكل مفاجئ ﻷن سيلييه ألقى كلمته باللغة اﻹنكليزية خلال اجتماع القمة الأوربية سنة 2006, واحتجت فرنسا رسمياً على محاولة لبنان تحويل لغة علامات الطرق الرئيسية من الفرنسية إلى اﻹنكليزية, واحتجت الدولة التركية مؤخراً لدى اليابان بسبب محاولة هذه اﻷخيرة تدريس اللغة الكردية عندها.
[2] . تم استلحاق الجزيرة السورية ذات الغالبية السكانية الكردية بعد عدة سنوات من تشكل الدولة.[1]
المصدر: (Pênûsa Azad-Hijmar (12