تُعتبر المرويات الشعبيَّة لأي مجتمع سوري خزَّاناً هائلاً يحوي مساحاتٍ واسعة للذكرى، ف#سوريا# مُذ وجدت وحتَّى وقتنا الرَّاهن تملأ ذلك الخزَّان الهائل بذكريات أبنائها الذين غرقوا في غابات الظلام، أو لفظهم البحر، وغيرها من قصص النكبات المستمرَّة.
في العام 1960، وتحديداً في اليوم الثالث عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، في #عامودا# بالشمال الشرقي لسوريا، أُضيفَ حدثٌ مهول إلى خزَّان الذكريات السوريَّة، ليتمّ الاكتشاف، مصادفةً، نوعاً آخرَ من الموت وإضافته إلى لائحة أجناس الموت، وهو الموتُ حرقاً فيما الأحياءُ الأطفالُ قبل قليل كانوا يشاهدونَ فيلماً سينمائيَّاً مساندةً لثورة الجزائر، لتندلع ثورة أخرى داخل صالة السينما المبنيَّة بشكلٍ اعتباطي غير صالحٍ لمكوث أعداد هائلة من الأطفال، ثورة أحرقَت قلوب قاطني المدينة، وبقيت النُّدبة موجودة حتَّى الآن ولن تُزالَ أو تُمحَى مهما مرَّت السنوات واختلفت الأجيال.
الحكاية المرويَّة
ثمَّة فيلمٌ سينمائيّ يُعرَض، بَكرةُ الشريط السينمائي القابلة للاشتعال تدور رويداً رويداً، فيما لا يعلم الأطفال المندهشين من الفيلم المعروض، والذي كان ربمَّا ليس مصادفةً، “شبح منتصف الليل”، بأنّ المفردة الأولى من عنوانه ستتحوَّل إلى واقع، ومن ثم يُضاف إلى خزّانات المرويات والذكريات في سوريا.
كانت الغاية من الفيلم هو مساندة الثورة الجزائريَّة ضد الفرنسيين آنذاك عبر إرسال ثمن التذاكر المقبوضة من عائلات الأطفال الفقراء إلى ثوار الجزائر كعونٍ لهم! ولكن انقلبت الحكاية رأساً على عقب، حيث دبّ حريقٌ هائل في الشريط السينمائي، ليساهم البناء الاعتباطيّ للصالة إلى تضاعف أثر الحريق.
كانت صالة سينما شهرزاد آنذاك تُدرَج ضمن دور السينما السوريَّة، ولكن البناء لم يكن صالحاً، بدءاً من الجدران التي تم تغطيتها بخيشٍ مطليٍّ بمواد تعشق الاحتراق والاشتعال، وليس انتهاءً بالباب الرئيسي الذي كان يُفتح ويغلق بشكلٍ مناقضٍ لمنطق الأبواب.
كما أنَّ تدافع الناس بنيَّةٍ مقدَّسة لإنقاذ أرواح الأطفال المهتاجين ذعراً من النيران التي تلتهم كل شيء أربكت كل المحاولات للإنقاذ، نيرانٌ أشعلتها شرارةً صغيرة انطلقت من محرِّك الشريط السينمائي لتحُرِق بدورها جيلاً كاملاً على وجه التقريب، لتكون النتيجة المأساويَّة احتراق 200 طفل لم يسمع بهم أحد في تلك الفترة.
الذكرى السنويَّة
ككل فاجعة أو كارثة تحل بأي مدينة سوريَّة، تبقى تلك الفاجعة مرسومة في الأذهان، لتُعاد سنويَّاً كما ذكرى حريق سينما عامودا، ويعتقد المرء أنَّها حدثت للتو ولم تمر عليها السنين الستين الطويلة والمليئة بحكاياتٍ أليمةٍ أخرى متعاقبة.
ينظر الناس في الوقت الحالي إلى “قبور الشهداء-الأطفال”، قبورٌ قريبة من بعضها البعض، وكأنَّها منصَّة مسرح خشبيَّة، يحاول الأطفالُ أن يخرجوا من تحت الأنقاض، ويتم معاملتهم من المجتمع الدولي كأي مدينة تحصل فيها فاجعة تستوجب التحقيق.
ولكن، عامودا تبقى في كل عام تعيدُ مضغ ذاكرتها الممزوجة وتتفرَّج على ما آلَت إليه الأحداث وتواترها اليوميّ منذ الدقائق الأولى ما قبل اندلاع الحريق، مروراً بلحظات الحريق الذي أودى بحياة أرواحٍ بريئة كان يمكن لها أن تعيش حتَّى الآن، وصولاً إلى يومنا الراهن.
الطفلُ الحيّ
ثمة أطفال كانوا موجودين عند احتراق صالة السينما، ولكن شاءت الأقدار أن يتم إنقاذهم، والآن هم رجالٌ مسنَّون، لا يتحدَّثون كثيراً لأبنائهم عمَّا حصل، ويُخفون آثار الحروق على أبدانهم عن أعين الأطفال لئلَّا يخافوا، حين يتكلَّمونَ في أفلامٍ وثائقيَّة أو تقارير صحافية مرئية يتحاشَونَ النَّظرَ مباشرةً إلى عدسة الكاميرا، يتحدَّثونَ وهم يتأمَّلون صورةَ النيران المشتعلة في أذهانهم، يتهادونَ في سيرهم نحو الضريح الاسمنتيّ الموضوع في منتصف حديقة السينما بعامودا التي باتَت نقطةَ علَّامٍ لكل سكَّان شمال شرقي سوريا، بأيديهم ورودٌ يضعونها على المقاعد الإسمنتيَّة الموضوعة مؤخَّراً، يحاولون أن يتذكَّروا وجوه أصدقائهم الأطفال ويغمضونَ عيونهم.[1]