روشن مسلم
الأرض، اللغة، الثقافة، كلمات ثلاث تكاد تتلازم، طارحة أكبر قضية في منطقة الشرق الأوسط، وهي التحدي الأول لحصول الشعوب والقوميات على حقوقها المشروعة باعتبارها هدفاً إنسانياً، وهذا التحدي ينطبق على مجمل بلدان العالم، ولا فرق بينها مطلقاً. وتشكل الهوية الوطنية الذاكرة الحيّة للفرد والمجتمع الذي يجب أن يكون الحوار بين قومياته هو الأساس الذي ينطلق من أجل تحقيق الهدف النهائي لأي شعب، والذي يتلخص في إقامة الدولة المستقلة العلمانية المتقدمة التي تساوي بين كافة مواطنيها، وبذلك ينعكس هذا الأساس على كيان الدولة ووحدتها كدولةٍ مستقرة سياسياً
واجتماعياً، دولةٍ يتعايش فيها الجميع بتنوعهم العرقي والديني والطائفي، ويجمعهم نظام ودستور كإطار جامع يحتوي الجميع. ويجب أن يعترف الجميع أن للهوية خصوصيةُ، فهي المعبّر عن ملامح أي شعب، وأن الأرض واللغة هما
القاعدة الأساسية لهذه الهوية، وبالطبع يضاف إليهما وقائع التاريخ وأحداثه التي تتحول بحكم الزمن إلى جزء من الشخصية العامة للفرد والأمة.
وتقول حقائق التاريخ إن هوية الشعوب ظلت هدفاً للقوى الاستعمارية، وسعت الأنظمة الحاكمة لتدميرها أو تزييفها وطمس ملامحها، ولهذا كان نضال الشعوب على مرّ التاريخ ضد الاحتلال الأجنبي أو أنظمة القمع
القومية، يرتكز على طرد المستعمر ومقاومة هذه الأنظمة والاحتفاظ بالهوية القومية، أي أن النضال الوطني ارتبط بالنضال الثقافي، وربط ما بين التحرر والحفاظ على الهوية الثقافية. إن أحد التحديات التي تواجه الشعوب في نضالها هو استعادة الحقائق، وامتلاك الوعي لأهمية الهوية، وهذه التحديات بدورها تثير إشكالية القدرة على احترام التنوع الثقافي والاعتراف بالآخر، والتصدي لمفهوم الثقافة الأحادية، ولعل الأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط بل والعالم، قد أثارت أسئلة كثيرة حول مفهوم الدولة والأمة، وخصوصاً في مجتمعات سعت لما يمكن أن نسميه بالاندماج السياسي بل الجغرافي الذي يتجاوز الحدود الوطنية، فهل يمكن القول إن هذا الطرح يُعتبر شكلاً جديداً من أشكال عولمة العالم وخصوصاً في الجانب الاقتصادي، أم هو شكل آخر ومختلف لمفهوم الهوية الوطنية؟ إن هذا الطرح يستلزم الإجابة على عدد من التساؤلات الفرعية وهي:
أولاً: ما هو مفهوم الهوية؟
ثانياً: قراءة لواقع #الهوية الكردية# في سوريا.
ثالثاً: إشكالية الاعتراف بتعددية الهوية.
رابعاً: نحو مشروع سياسي جديد.
أولاً: مفهوم الهوية:
“الهوية مصطلح يُستخدم لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعات (كالهوية الدينية أو الوطنية أو العرقية)، ويُستخدم المصطلح خصوصاً في علم الاجتماع وعلم النفس، وتلتفت إليه الأنظار بشكل كبير في علم النفس الاجتماعي، فكلمة «هوية» منسوبة إلى الضمير «هُوَ».” ويُشتقّ المعنى اللغوي لمصطلح الهوية المركب من تكرار (هو)، فقد تم وضعه كاسم معرّف ب “أل”، ومعناه
“الاتحاد بالذات”. ويشير مفهوم الهوية إلى ما يكون به الشيء هو، أي من حيث تشخّصه، وتحقّقه في ذاته، وتميّزه عن غيره، فمفهوم الهوية يشكل وعاء الضمير الجمعي لأي تكتّل بشري، ومحتوى هذا الضمير في
ذات الوقت بما يشمله من قيم وعادات، ومقوماتِ تكيّف وعي الجماعة وإرادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانه.
ويعتبرها أي الهوية الكاتب العالمي جيمس فرعون على أنها مكوّن متطور لمساعدة الأفعال السياسية، وتعني باختصار فهم الناس من أين هم، وما يربطهم بغيرهم. إذا كان لكل شعب من الشعوب حضارته وهويته الوطنية، فإن للشعب الكردي خصوصية تشكل سمة مضافة إلى هويته الوطنية، وتتمثل هذه السمة في أنّ تبلورها قد ارتبط بمواجهة تقسيم دولتهم إلى أربعة أقسام من طرف القوى الاستعمارية، وأنظمة حاكمة استهدفت وجودهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، وهنا يمكننا القول: إنّ الشعب الكردي يخوض صراعاً مريراً للحفاظ على هويته القومية، وإثبات وجوده التاريخي على أرضه. لهذا كان النضال الكردي ولا يزال يسير في مسارين؛ مسار تحقيق الحقوق الوطنية، ومسار الحفاظ على الهوية، لهذا نستطيع القول إن مفهوم الهوية لدى القومية الكردية يختلف كثيراً عن مفهوم الهوية لدى الشعوب الأخرى.
ثانياً: قراءة لواقع الهوية الكردية في سوريا
في الحقيقة إنّ إشكالية الهوية الكردية موجودة فعلاً منذ القِدم في المربّع الكردستاني، وعلى الرغم من المقاومة والنضال إلا إنها تواجه تحديات عميقة في البقاء والحفاظ على نفسها، وهو التحدي الأكبر، لذلك نجد من
الصعب عند الحديث عن خصوصية هوية شعب ما دون الرجوع إلى الخلفية التاريخية لهذا الشعب، وخصوصاً عندما يتم ابتلاع ثقافة مكونات شعوب المجتمع داخل ثقافة مركز الدولة، فيختفي ذلك الخاص
لصالح العام بسبب القوة والهيمنة، مما يؤدي إلى طمس هويتهم وطمس معالمهم الحضارية.
عندما نعود إلى التسلسل التاريخي للاتفاقيات والمعاهدات لتاريخ كردستان وسوريا الطبيعية، نجد أن إشكالية الهوية تعود إلى اتفاقية سايكس بيكو في آذار (مارس) عام 1916م، حيث تم تقسيم المناطق الواقعة تحت
احتلال الإمبراطورية العثمانية بين الحلفاء، ثم لحقتها هدنة مودريس في 30 تشرين الأول ( أكتوبر) عام 1918م، وانهيار الجيوش العثمانية، ثم سان – ريمو من 18حتى 26 نيسان (أبريل) عام 1920م، والذي بموجبها أُعطي الحق للانتداب الفرنسي على سوريا، و مؤتمر السلام في سيفر في 10 آب (أغسطس) عام 1920م، والذي كان من بنوده تأسيس دولة كردستان بعد سنة من توقيع الاتفاقية، ثم ألغيت هذه الاتفاقية في
24 تموز ( يوليو) عام 1923م، وحلت محلها اتفاقية لوزان التي ضمت قسماً من أراضي كردستان إلى الأقاليم السورية التي وقعت بدورها تحت الانتداب الفرنسي. يقول الكاتب أمين زكي “إن تعداد الكرد في مدينة دمشق نفسها زهاء عشرين ألفا من الأنفس. وإنه على رأي وتدقيقات (M. Deniker) كل من أهالي لبنان الغربي، والنساطرة، ودروز جبلَي الشيخ وحوران، ما هم إلا ناشؤون من امتزاج واختلاط الكرد بالسكان المحليين المجاورين لهم”.
ويقول الدكتور فريج “إنه يوجد في ولاية حلب (27) عشيرة كردية وذلك قبل الحرب العظمى، وأن مدينة حلب نفسها فيها عدد غير قليل من الأكراد. هذا وتوجد عدة عشائر أخرى كردية في بلاد (حارم)، و(جبل
الوسط) و(بيلان) وفي حوض نهر (العاصي) وفي (جبل الأكراد) أيضاً، ومدينة دمشق نفسها تحتوي على عدد غير قليل من الأكراد”. وقدّر المسيو (زيميرمان) القنصل الروسي بحلب، تعداد الكرد بشمالي سوريا، ب (125،000) نسمة، ويقال من جهة أخرى إن نحو (20،000) من الكرد، تسكن منطقة (العاصي بيلان) الخاضعة للانتداب الفرنسي. والخلاصة أن تعداد الكرد في سوريا (الشمالية والوسطى) حسب تقدير وتحقيق زيميرمان قبل الحرب العامة
وبعد استثناء أكراد الأقسام الكردية التي بقيت داخل حدود تركيا من ولاية حلب القديمة يتراوح بين (70) ألفاً و(80) ألف نسمة. تأسست مع الجمهورية العربية السورية بعد حرب الاستقلال دولة مركزية ذات طابع قومي عربي في ظل تنامي موقف سلبي من الكرد السوريين، والتي كانت سبباً لانتفاضات شعبية كردية على الرغم من صعود الأقليات الدينية الأخرى (المسيحيين والعلويين، الدروز والإسماعيليين). وولدت فضلاً عن ذلك فيما بعد سياسات تقمع حقوق الكرد لإعادة إنتاج بشكل عنيف لطمس هويتهم، من خلال تجريد الآلاف من الجنسية السورية، مع حظر استخدام اللغة الكردية، كما حُرموا من الاستفادة من الإصلاح
الزراعي وتوزيع الأراضي رغم أحقّيتهم بذلك في مناطقهم، لكن الفقر والأمية وانعدام التوثيق، أدى إلى عدم امتلاك الكثيرين لشهادات ثبوتية، وتم إجبارهم على تعريب أسماء مدنهم وقراهم وحتى تعريب أسماء أبنائهم.
عموماً القومية الكردية في سوريا، كانت ترى أن الشعب الكردي جزء من الأمة الكردية، وليس الأمة العربية، وهم ضحية للتوافقات الدولية ومصالحها، وأن القضية الكردية هي قضية إنسانية عادلة، ولكن هذا لا يعني
المطالبة بالانفصال عن سوريا، لأن المصلحة الكردية تقتضي الحياة المشتركة مع جميع مكونات الشعب
السوري، والاندماج في العملية الوطنية ككل لكن تبقى مفردات التراث والحضارة واللغة، والغناء والشعر، موجودة كإرث بين الحضارة السورية التي تضم مختلف الطوائف، بالإضافة إلى تبنّي النضال القومي الكردي
في إطار سوريا بالدرجة الأولى على أنه نضال سوري سوري، ولم يتخذ لنفسه طابع المشروع السياسي، وعلى مدى القرون شهدت هذه الفترة ثورات وانتفاضات قام بها الكرد على الدول التي تعارض مطالبتهم بالحصول على الحكم الذاتي، وتحاول طمس الهوية الكردية.
ثالثاً: إشكالية الاعتراف بتعددية الهوية:
يتعلق جوهر موضوع الهوية بإشكالية تحديد الانتماء، سواء للفرد أو الجماعة الصغيرة أو للشعب عامة، وهنا تظهر علاقتها بالدولة وأهميتها الغائبة في استقرار الدولة التي تحتوي على تركيبة هوية الجماعات المختلطة العرقية والدينية والطائفية، التي تؤدي إلى حدوث نزاعات فيما بينهم مما يؤدي إلى الانعكاس السلبي في الاستقرار السياسي والاجتماعي للدولة، وهذا ما يحدث في نزاع الهويات في إطار الدولة الواحدة، وقد تنفجر
أزمة الهوية في ظل الخلافات الأثنيّة والدينية المكبوتة لفترات طويلة لتعبّر عن نفسها بالعنف، وغالباً ما يحدث ذلك في ظل الأنظمة الديكتاتورية، وهذا الأمر قد يوصلهم إلى حدّ مطالبة بعض المجموعات الأثنيّة
بالانفصال عن الدولة. وعلى ما يبدو فإن إشكالية الاعتراف بتعددية الهوية لن تتقدم بشكل جدّي وحقيقي في دستور الدولة، إلّا إذا انتشر الوعي المجتمعي إلى واقع التعدد في اللغات والثقافات والأعراق التي تعزز وجودها.
رابعاً: نحو مشروع سياسي جديد
تحتل قضية الاعتراف بالهوية مكانة الصدارة في الجدال المحتدم على الساحة السياسية السورية، و هي قضية لا بد وأن نعترف أنها من أهم القضايا التي يتعين على الجميع التصدي لها والعمل عليها، لأنها في حقيقة الأمر قضية كل فرد في المجتمع، فلا يمكن أن نتصور إمكانية حل أي مشكلة من مشاكل المجتمع السوري المتعددة والمتراكمة، دون الاعتراف بجميع مكونات الشعب السوري في إطار الدولة المستقلة العلمانية المتقدمة التي تساوي بين مواطنيها، والعودة إلى طبيعة تكوين سوريا الطبيعية التي تضم جميع الطوائف في إطار الوطن الواحد المتقدم بالقيم الإنسانية، وحقوق الإنسان الكونية القائمة على أساس المواطنة المتساوية من خلال التوافق والتشارك بين السمات العامة التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية طابعاً تتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى، لإنتاج مجتمع المواطنة والانتماء الوطني على أساس عقد اجتماعي جديد.[1]