فرهاد حمي
حاولنا بعجالة في المادة السابقة، معالجة نزعتي «الصوابية السياسية» وعقيدة «بناء الأمة» اللتان تستأثران بالسياسة الأميركية في شمال شرق سوريا. وأظهرنا مدى تناقض كلتا النزعتين قياساً مع التحديات الوجودية القائمة. ولأن نطاق التناقضات لا تتوقف عند هاتين النزعتين، ثمة تناقض ثالث بارز يظهر على السطح، ويأخذ أرضيته من منجز #الإدارة الذاتية# الذي كان من نتاج أطروحات تيار كردي بعينه.
وبحكم أن الصوابية السياسة تحبس الحقائق التاريخية والواقعية وتتحاشى الإشارة إلى #القضية الكردية# في خطاباتها الرسمية، تجنباً لعدم إثارة النعرات العنصرية التركية، وتغضّ الطرف عن الانتهاكات التركية جواً وبراً، فإنها بالمثل تحجّم نطاق التعاون الأميركي/الغربي مع قوات سوريا الديمقراطية تحت يافطة مكافحة الإرهاب حصراً .
تدفع محصلة هذه المقاربة بالكرد، بطريقةٍ ما، إلى أن يكونوا ضحايا الشك والريبة، وأن يخالجهم لاشعورياً سيناريوالمصيدة الكرديةالتي تتداخل عادةً مع البلادة التي يتصف به السلوك الأميركي.
وتفادياً لسوء الفهم، لا نهدف استحضار أدبيات «نظرية المؤامرة» عند تناول سيناريو «المصيدة الكردية» بصفةٍ خاصة، بل نحاول النظر إلى المشهد الحالي من الزاوية التاريخية والذاكرة الاجتماعية والمناخ السياسي-النفسي الغائم، بهدف تلافي عثرات التاريخ من خلال اللحظة المعاشة.
المصيدة الكردية
تذخر الأدبيات الكردية على الدوام عبر أغانيها وحكاياتها الشعبية بذلك القدر المشؤوم الذي يحاك خيوطه من خلال القوى الدولية والإقليمية، ويدفع بالكرد نحو البؤس والانكسار. عادةً ما تنعت هذه الثيمة ب«غدر الزمن». فكلما تقترب لحظة إثبات الذات سياسياً، يظهر نذير شؤم، وتجول في اللاشعور الجمعي أشباح «المصيدة الكردية»، وكأن هذه الدوامة أضحت قدر الكرد السرمدي. وبطريقةٍ ما، لا يبدو شمال شرق سوريا اليوم استثناءً من هذه الدوامة الحالكة.
سادت فرضية «المصيدة الكردية» في شمال شرق سوريا مؤخراً نتيجة عاملين. الأول، احتلال عفرين وسري كانيه (رأس العين) وتل أبيض من قبل القوات التركية، بتواطؤٍ مشين من قبل الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين ومن ثم الأميركي دونالد ترامب على التوالي. الثاني، تأرجح المقاربة الغربية بين ثنائيات غامضة مثل: التعاون-اللا تعاون، الشراكة-اللا شراكة، الاعتراف-اللا اعتراف، الالتزام-اللاالتزام، وهكذا دواليك. واستناداً إلى عدم حسم الخيارات تلك، جنباً إلى جنب مع التشويش الذي يصاحب مصير المنطقة ولو بالحدود الدنيا، تعزز لعبة نصب الأفخاخ حول القضية الكردية من قبل القوى الدولية، تماشياً مع تناحر الأهداف الجيوسياسية الدولية، من حقيقة المعادلة الشهيرة «ضرب عدة عصافير بحجر واحد» والتي أضحت تؤرق نفسية السكان المحليين باستمرار.
أجاد ترامب تلخيص هذه اللعبة بشكلٍ سافر عقب الاجتياح التركي لشمال شرق سوريا، عندما قال: «تركناهم ينهشون بعضهم البعض، ومن ثم أمليت عليهم شروطنا»، وهو موقف وصفه حينها خلفه جو بايدن بأنه «عارٌ على السياسة الأميركية».
وبدورها، لا تتوانى روسيا منذ 2015 عن تسخير القضية الكردية، إذ تحذر على لسان مسؤوليها، وعلى رأسهم وزير الخارجية سيرغي لافروف، من قيام «#الدولة الكردية#» بغية إثارة العقدة التركية حيال القضية الكردية. وينتهي مفعول تلك التصريحات عند مرحلة إملاء الشروط على أنقرة لاحقاً. حتى أن المفكر الروسي المتطرف ألكسندر دوغين لطالما نصح القيادة الروسية في كتابه «أسس الجغرافيا السياسية»، وعبر مقالاتٍ متعددة، باستغلال التناقض الكردي والأرمني من أجل إركاع التركية الأطلسية.
يقينياً، تعج أدبيات السياسة الخارجية الدولية بمقارباتٍ انتهازية ونفعية مؤقتة مماثلة حيال الشعوب المضطهدة. كما أن الكرد ليسوا وحدهم ضحية مصيدة «فرّق تّسد»، إلا أن واقعهم في هذا السياق فريدٌ من نوعه.
وبخلاف شعور التشّفي لدى النخب المناصرة لمنهجية السلطات المركزية الإقليمية التي تقمع حقوق الكرد الوجودية، فإن الجزء الغائب من معادلة «المصيدة الكردية» التي تستغلها الدول الكبرى قبل أن تقذف بالكرد تحت آلة العنف لدى الدولة الحاكمة الإقليمية، يتجسد بأن تلك الدول تُحرم، مع مجتمعاتها المتجانسة، من مواردها وإرادتها السياسة وتصبح رهينةً للقوى الخارجية. والأسوأ من ذلك، تتحكم القوى الديكتاتورية بالسلطة، فيما تعيش مجتمعاتها أجواء الحرب الدائمة والنزعات القومية والدينية المتطرفة وقوانين الطوارئ. هذه البيئة الشاذة هي من تمنح تلك النظم المقدرة على ارتكاب المجازر بحق الكرد، وتساند القوى الخارجية لتنفيذ مآربها. وبذلك،، تتحطم فكرة السلام الاجتماعي والحياة التعددية المشتركة ويفقد الأمن وتبذّر الثروات، تماماً مثل حكومة اليمين المتطرف في تركيا ونظام الملالي في إيران وبشار الأسد في سوريا.
الاستعمار ونصب «المصيدة الكردية»
يقينياً، ثمة لبِنَات إيديولوجية وذرائعية تكاد تكون شبه راسخة تشجع الدول الكبرى على نصب شرك «المصيدة الكردية». وتعود جذور هذه الإيديولوجيات الذرائعية إلى ميراث الاستعمار الكلاسيكي. وتتجلى من خلال عناصر متداخلة، أبرزها:
الفكرة الاستشراقية التي تنظر إلى الظاهرة الكردية من منظار بدائي ومتخلف.
تسويق عقيدة افتقار الكرد إلى مميزات الأمة وإداراتها، واعتبارهم كياناً هلامياً.
قدرتهم (الكرد) على القتال والصمود واستثمار نضالهم الحقوقي خدمةً لمعادلة التوازن المضاد مع الدول القومية الحاكمة والمتمردة، وفرض أهدافها الاستراتيجية في نهاية المطاف على تلك الدول، طبقاً لنظرية العلاقات الدولية التقليدية التي تفاضل التعامل الدبلوماسي بين الدول السيادية على الكيانات غير الدولتية.
لدى تعرضهم (الكرد) إلى المخاطر الوجودية كالمجازر والإبادة، تظهر القوى الدولية بهيئة المنقذ. وتالياً، يجري إعادة استثمار قضيتهم مجدداً، وفق أهداف تلك القوى الحيوية تجاه المنطقة.
بالمستطاع إدراج عوامل أخرى ضمن هذه القائمة بكل تأكيد، لكن الثابت في الأمر أنه من المحال تطبيق «المصيدة الكردية» إلا على أرضية التيارات العنصرية التي تؤمن بالنزعة الأحادية دينياً، قومياً، جنسوياً، وطبقياً، وحشر القضية الكردية بالمقابل في نطاق القومية المضادة وفتح صندوق باندروا تالياً أمام شتى التصنيفات الإيديولوجية المقيتة بحق الكرد من قبيل: انفصاليون، إرهابيون، شيوعيون ملحدون، مناهضو الإمبريالية والرأسمالية، قوميون متطرفون.. وهلم جرا. والخلاصات الأخيرة لمثل هذه المواقف لم تعد خافية على أحد: المجازر والتطهير العرقي والتهجير القسري والتغيّر الديمغرافي.
إن كانت ثمة لبِنَات إيديولوجية كلاسيكية دفعت القضية الكردية لتكون على هذا النحو، فثمة ممارسات سياسية برهنتها عملياً مراراً وتكراراً. ويرجع تاريخ هذه الممارسات بصفة خاصة إلى الفترة التي تخللت هدنة مودروس واتفاقية لوزان عام 1923، إذ توسطت تلك الفترة، كما هو معلوم، انعقاد مؤتمر القاهرة عام 1921 برئاسة ووزير المستعمرات البريطانية آنذاك ونستون تشرتشل مع مسؤولي المستعمرات البريطانية لرسم سياسة الانتداب في الشرق الأوسط، وكردستان. والمفارقة، أن آثار السياسات البريطانية تلك لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، بحسب إفادة مسؤول أميركي كبير بعد احتلال العراق، وفق ما نقله جنكيز تشاندار في كتابه «قطار الرافدين السريع».
من المهم إسدال الستار عن حيثيات تلك المرحلة، نظراً لما تكشفه عن «المصيدة الكردية» وكيفية تأسيسها وتجذرها، إذ ساد في تلك المرحلة انبعاث فكرة حق تقرير المصير وفق مبادئ الرئيس الأميركي ودورو ويلسون. وبحكم أن بريطانيا كانت أحكمت سيطرتها على كردستان العراق بعد الحرب العالمية الأولى، فإن إدارة لندن المركزية نصحت مسؤوليها في كردستان بإرسال إشارات إلى الشعب الكردي توحي بالتعاطف مع تطلعاته المشروعة، طبقاً لما ينقله الباحث ديفيد ماكدويل، وحذرتهم في الوقت نفسه بعدم ترجمة وعودهم على المستوى العملي ورفض المجاهرة بأهدافهم التكتيكية والاستراتيجية النهائية.
وعلى مسارٍ مواز، أضاف انتصار الكمالية التي تلقت الدعم والمساندة من البلاشفة بعد عام 1922 تحدياتٍ كبيرة أمام السياسة البريطانية، إلى جانب تراكم المشقات الاقتصادية الباهظة نتيجة الحرب. وتبعاً لهذه الخلفية، مال طيفٌ كبيرٍ داخل الإدارة البريطانية صوب خيار التطبيع مع الكمالية تناسباً مع الاستراتيجية البريطانية المتّبعة. وبغية تنفيذ هذه المهمة، أطلق بعض الضباط الإنكليز بين الفينة والأخرى تصريحاتٍ متعاطفة مع حقوق الكرد، الأمر الذي أثار شكوكاً لدى الأتراك بأنها دعمٌ بريطاني للتمرد الكردي في كردستان العراق، كونها تفنّد المزاعم التركية بأنها يمكن أن تمثّل الكرد على أحسن وجه في ولاية الموصل (كردستان العراق).
لاحقاً، تراكم زخم هذه الشكوى مع ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 التي بدأت مع حادثة استفزازية من قبل مفرزة تركية في قرية بيران الواقعة في شمال ديار بكر (أمد). وعلى الرغم أن تشرتشل نفسه قال مرة: «لم نتمكن من الإيفاء بكل وعودنا للعرب من خلال الحرب، وعارضت تماماً خلق صعوبة مماثلة للكرد». ومن حيث الأساس، أجمع البريطانيون خلال مؤتمر القاهرة على رفض أي تمردٍ كردي ضد الأتراك. كما أن من بين أسباب سحق ثورة الشيخ سعيد هو أن الفرنسيين سمحوا للأتراك باستخدام سكة حديد بغداد التي تمر من سوريا لغرض نقل جنودهم.
في المحصلة، نكثت الحكومة الكمالية بوعدها، خاصةً بعد اتفاقية لوزان، بمنح الحكم الذاتي للكرد في إطار التحالف الكردي-التركي في الميثاق المليّ عام 1920. وسحقت ثورة الشيخ سعيد بيران بوحشية، ومن ثم تولت الفاشية سدة الحكم. بالمقابل، حصلت بريطانيا على ولاية الموصل النفطية، وطوّعت أنقرة ضمن استراتيجيتها حيال الشرق الأوسط. ومنذ تلك اللحظة، أضحت «المصيدة الكردية» والتلويح بها وسيلة جذابة تغوي القوى الدولية، بهدف إثارة هياكل الدول القومية المتطرفة التي تحكم الكرد، ومن ثم تطويعها تناغماً مع أهدافها الحيوية في المنطقة.
تستند هذه السردية، التي يعاد استنساخها منذ قرن بكامله، على سياسة توازناتٍ مضادة ومنطق القوة الذي تتمتع به الدول الكبرى. كما تغذي المتطرفين في واشنطن ولندن وموسكو وتل أبيب وطهران وأنقرة ودمشق وبغداد. والمفارقة أن دولة على شاكلة أرمينيا، التي تعرضت إلى إبادة جماعية على يد المتطرفين الأتراك، بدأت تسلم عناصر حزب العمال الكردستاني إلى تركيا قبل أيام على غرار فنلندا والسويد، اللتان توصفان بأنهما واحة لسيادة القانون وحماية حقوق الإنسان في العالم.
ربما تفتقر إدارة بايدن إلى هذه الخلفية التاريخية لتدارك خفايا هذه اللعبة، إلا أنّ الشروط الآنية والمعنية بتأمين مصالح القوى العظمى عبر أسهل طرقٍ ممكنة، إضافةً إلى تمازج تقاليد البيروقراطية البريطانية مع السياسة الأميركية في المنطقة، قد تحمل ظلال استثمار «المصيدة الكردية» لا شعورياً أمام صناع القرار. ونتذكر كلنا أن ترامب، الذي كان يجهل طبيعة الصراع الكردي-التركي ويخلط الحابل بالنابل من خلال تصريحاته المتضاربة، استطاع إدارة «المصيدة الكردية» كرمى مصالحه الانتهازية مع أنقرة.
عادةً، ثمة أساليب متنوعة تكشف خيوط «المصيدة الكردية» وكيفية إدارتها عملياً. فقد تظهر ملامحها أحياناً من خلال سياسة الصمت وعدم حسم المواقف، عملياً ونظرياً، والزيارات الرمزية والإقدام على بعض الخطوات الاستفزازية. وأحياناً أخرى، من خلال التلويح بفرض العقوبات وما شابه. وطالما تواصل السياسة الأميركية إدامة القضية الكردية على نفس المنوال وتعاند مشروع السلام من خلال الحل السياسي بين الكرد ودول المنطقة، سيبقى الكرد يشعرون بأنهم عالقون في شباك علاقات واشنطن وموسكو والدول الإقليمية.
ينبغي القول إن فكرة «المصيدة الكردية» تبدّلت نسبياً بعد سنوات الألفية وتفجير الأحداث في سوريا. كما أن روج آفا- شمال شرق سوريا سعت من خلال نموذجها السياسي والدفاعي إلى سحب الذرائع التي تفضي إلى نسج خيوط «المصيدة الكردية»، وعارضت كل أشكال التطرف القومي والديني والجنسوي، وكافحت الإرهاب ولا تزال، ورفعت شأن التعددية الثقافية، وتجنّبت النزعات الطبقية الفجة، ورفضت طروحات الانفصالية، وحاولت ترسيخ علاقتها مع القوى الدولية، بشقيها الدولتي والمجتمعي التقدمي.
ومع ذلك، تجرّع سكان المنطقة مرارة «المصيدة الكردية» مع ترامب وبوتين، نتيجة سيادة نزعات أحادية متطرفة لدى أنقرة ودمشق وطهران. وعليه، تنتظر صنّاع القرار في شمال شرق سوريا مهمة دبلوماسية شاقّة حيال هذا الشأن. ويجدر ممارسة شتى أشكال أساليب الإقناع والحوار مع الأطراف الدولية، مع النظر إلى القضايا العالقة بمنوالٍ تاريخي واجتماعي وطارئ، فضلاً عن ضرورة فضح نظرية «المصيدة الكردية» ورفضها، تناسباً مع الأهداف الأميركية المرسومة تجاه سوريا.
وطبقاً لتعقيد بنية القضايا وتشابكها، ثمة إشكالية أخرى متداخلة مع «المصيدة الكردية»، معنية بغموض «النهج الأمني الأميركي» فيما يخص مكافحة الإرهاب، وهو ما سنتطرق إليه في المادة المقبلة.[1]