حاوره: هيئة التحرير
أجرت مجلتنا حواراً مع الناقد والروائي #عبد المجيد محمد خلف# حول تجربته الكتابية في #الرواية#، ورؤاه بشأن الرواية وأهميتها بالنسبة للكاتب والقارئ، ودورها وتأثيرها في القضايا المجتمعية والحقوقية للشعوب، وواقعها في شمال وشرق سوريا، وهذا نص الحوار:
عبد المجيد محمد خلف، روائي وناقد كردي من سوريا، حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة حلب، وشهادة معهد إعداد المدرسين- قسم اللغة العربية في مدينة الحسكة، ينشر في الدوريات والمواقع المحلية والعربية والدولية.
مرحبا بكم، نبدأ حوارنا بالحديث عن بداية تجربتكم الأدبية، هل يمكنك أن تتحدث لنا عن ظروف بدايات الكتابة لديكم؟
لكل إنسان منا ظروفه الخاصة التي تبعث به، وتدفعه إلى خوض تجربة الكتابة، والتعبير عما يجول في ذاكرته من أفكار، وما تعتمل في روحه ونفسه من مشاعر، لتنطلق بفعل الكتابة والتدوين إلى الحياة، مؤرّخة تاريخه ووجوده، وباعثة على الوقوف عند أهمّ المحطات الحياتية التي ساهمت في صقل تجربته الأدبية، طبعاً الواقع الذي عشتُ فيه كان حافلاً بالكثير من الأحداث والقصص، التي شكّلت نقطة انطلاق لي في أن أروي عنه، وعن المكان الذي كان ومازال المرتكز الأساسي لجميع الأعمال التي كتبتها فيما بعد؛ لأنني ابن هذا الواقع، الذي فرض بتجلّياته وأحداثه روحه عليّ، لدرجة أنني تماهيت معه ككل، وما عدت قادراً على الفكاك من شباكه التي نسجت خيوطها في ذاكرتي بقوة، فجعلني أسير حبّه، لتكون البدايات في المراحل الأولى من العمر، ولتستمر التجربة، وتزداد قوة مع الأيام، نتيجة الظروف التي عشتها، والوقائع التي أشهدها كل يوم، وخاصة بعد هذه الأحداث العاصفة التي مررنا بها في المنطقة ككل.
تعتبر روايتك (الصوت المخنوق) باكورة أعمالك الإبداعية، وهي الرواية الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي (الدورة 14)، حبذا لو تتحدث لنا عنها، وعن الظروف التي رافقت تأليفها؟
هي الرواية الأولى التي قمت بكتابتها، واحتجت لحوالي سنة ونصف تقريباً لإنجازها، أعطيتها من روحي كل شيء، لتكون في المستوى الذي كنت أسعى إليه دائماً، كما في جميع كتاباتي التي أحرص على أن تحظى برضا وقبول المتلقي، على الرغم من أن الكاتب يكتب أولاً وأخيراً سيرة حياته، وينقل لنا خلاصة تجاربه ومواقفه في الحياة عبر الكتابة، لكن عملية الكتابة لا تتم من دون إشراك القارئ مع الكاتب في كل شيء، فالكتابة رسالة مشتركة بينهما، وقد توقفت المدارس النقدية على هذه الحالة كثيراً، وتناولتها بالدراسة والاستقصاء، وهي بحاجة إلى جهد وتعب شديدين؛ وخاصة الرواية، فهي عالم مفتوح على غاربه، وهي كتاب كبير ومفتوح يؤرّخ تاريخ شخصياته، والأحداث التي تمر بها تلك الشخصيات؛ بطريقة سردية جميلة ومشوّقة جداً، وهي حياة متكاملة، وتتطلب الدقّة في كتابتها، لذلك أردت التعبير بها عن الواقع الذي أعيش فيه، وأجعلها اللسان الناطق عنه، وبعد أن انتهيت من كتابتها، اشتركت بها في جائزة الشارقة للإبداع؛ لتحظى بعد طول انتظار بشرف الفوز بتلك الجائزة، وتنقل بي من عالم إلى آخر في المجال الإبداعي، وتزيدني ثقة بالنفس، وتدفعني إلى المزيد من الحرص على الأعمال التي ستليها، بعد ذلك، لأن الجوائز تضع الكاتب، وتجربته الكتابية على المحكّ بعد نيلها، فإما أن يستمر في نتاجه بقوة أكبر، أو أن تغرِه الجائزة، فيشعر بأنه فوق النقد، ولا يهتم برأي أحد فيما بعد، بسبب حصوله على الجائزة في المجال الذي يكتب فيه.
– تنبثق أهمية العنوان – سليل العنونة – كما يقول الدكتور (خالد حسين)، “من حيث هو مؤشر تعريفي وتحديدي، يُنقذ النص من الغفلة؛ لكونه – أي العنوان -الحدّ الفاصل بين العدم والوجود، الفناء والامتلاء، فأن يتملك النص اسماً (عنواناً)، هو أن يحوز كينونة، والاسم (العنوان)، في هذه الحال، هو علامة هذه الكينونة: “يموت الكائن، ويبقى اسمه”. وله وقع وتأثير في المتلقي، ما الدافع لتسمية الرواية بهذا الاسم (الصوت المخنوق)؟
قصدت به أن يكون صوت جميع أبناء المنطقة عندنا، وخاصة بعد الظروف الصعبة التي مرّ الجميع بها، من فقر، وبؤس اجتماعي، نتيجة هذه الأحداث التي عصفت بالمنطقة كما أشرت، دفعت بالكثير من أبنائها إلى مغادرة البلد فيما بعد، والعيش بين ظهراني الاغتراب في ظروف قاسية جداً، ناهيك عن التعرض لمخاطر السفر، وقد سمعنا بالكثير من حوادث الموت التي وقعت لهم، لذلك فهو (صوت مخنوق) يحاول أن يرتفع، لكن الظروف تمنعه من ذلك، لتبقى شخصيات هذه الرواية تدور في حلقة مفرغة من الألم والمآسي، وتحاول التخلص من الواقع المرير الذي كانت وما زالت تعاني منه.
– انبثق مفهوم الخطاب من داخل علم اللغة البنيوي، ربما متأثراً إلى حدّ كبير بتمييز (إيميل بنفنيست) بين نمطين من الرواية، حيث يشير السرد (histoire) إلى الأحداث المكتملة التي تحررت في الزمن عن المتكلم، ويشير الخطاب (discourse) إلى أحداث ترتبط من الناحية الزمنية، بفعل الكلام. كيف تنظر إلى الرواية، وما أهميتها بالنسبة للكاتب والقارئ أو الرأي العام عموماً؟
الرواية من أكثر الجناس الأدبية قدرة على التعبير عن عالم متغير، يحفل بالكثير من التناقضات، والقضايا التي تهمّ الجميع، وتستخدم كافة الأجناس الأدبية، وتتكئ عليها، من مسرح، وشعر، وخاطرة، إضافة إلى لجوئها إلى استخدام أساليب كثيرة في الروي، والحوارات الخارجية والداخلية، واستخدامها عتبات نصّية ملفتة جداً، وتجري في زمان ومكان محدد، وواسع نوعاً ما بالنسبة إلى الأجناس الأدبية الأخرى، ولأسماء شخصياتها الرئيسة والثانوية دلالات ترتبط بالبيئة الزمكانية، والواقع الاجتماعي التي تجري فيها أحداثها، تلك الأحداث التي تكون فيها للعلامة المكانية أهمية كبرى، إذ يشغل المكان جزءاً كبيراً من بنيته السردية، وهو الذي يشكّل مع بقية العناصر فضائي الرواية (المفتوح والمغلق)، والعلامات الزمانية مهما كانت قوية أيضاً، ولها دور كبير في النص الروائي، إلا أنها لا تمنح دلالتها إلا في المكان، والمكان لا يدرك مفهومه إلا في سياق الزمان، وبينهما ومعهما يتنامى الخطاب الروائي.
– ترى الظاهراتية – كما ورد في كتاب الظاهراتية والنقد الأدبي، للدكتور (يادكار لطيف الشهرزوري) “أن هناك ترابطاً حميمياً بين المكان والوجود الإنساني، فالحالة البشرية ليست حالة لفاعل طليق متحرّر عقلاني؛ فهو ليس فاعل ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود)، فالفاعل البشري يصبح قادراً على التفكير والفعل فقط، من خلال كينونة في العالم، فكما لا نستطيع القول إن الأرض المقطوعة الأشجار توجد في استقلال عن الغابة – كما يقول هيدجر – فكذلك لا نستطيع أن نفكر في البشر من دون التفكير فيهم بوصفهم جزءاً لا يتجزّأ من العالم، فالوعي هو دائماً وعي بالشيء، ليس طليقاً متحرراً، ويبدأ من موقعنا من العالم”. ما دور الرواية في التأثير في القضايا المجتمعية والحقوقية للشعوب، وفي الثورات التحررية للشعوب الساعية لتحقيق حريتها؟
لا يستطيع الإنسان مهما فعل أن يتجرّد من المجتمع، والواقع الذي يعيش فيه، لأنه أولاً وأخيراً فرد من هذا المجتمع، وهو ابن شروطه التاريخية التي أوجدته، لذلك تتأثّر الرواية بالواقع، وتسعى لأن تكون لسان حاله، ناقلة الأثر الذي تحدثه إلينا بطريقة فنية وإبداعية، وتحاول الإحاطة به من جميع الجوانب، بل وحتى أن تقرأ التاريخ، وتعيد صياغته عن طريق السرد لتكون رواية تاريخية، وتحاول أن تستشرف المستقبل، كما قدمت ذلك في روايتي الصوت المخنوق التي عبرت عن المآسي التي حدثت في المنطقة عندنا فيما بعد، كرؤية مستقبلية لما جرى من أحداث، فالوعي الإنساني هو وعي بالشيء، وكثيرة هي الأشياء التي تحيط بنا، وتترك آثارها العميقة في ذواتنا وأرواحنا، وتدفعنا إلى أن نحقق شيئاً في الحياة التي نعيشها، وأن نعبّر بالتدوين والقول عن القضايا المصيرية للمجتمع الذي نعيش فيه، حتى يتخلص هذا المجتمع من الظروف الصعبة التي تحول دون انطلاقته، وتحرّره، وتمعن في استلابه وتغرّبه عن ذاته ووجوده، ولا تسمح له بالتعبير في جوّ من الحرية المطلقة عما يشعر به تجاه الوجود والآخرين.
– يسهم التوافق الزمني بين القصة والخطاب في الحوار – كما يقول الكاتب (حسين مجيد حسين)؛ في كتابه (البناء الزمني للخطاب السردي) – بدور فعّال في خلق الوهم لدى المتلقي بواقعية الحوار الروائي، ومن ثم واقعية السرد الروائي عموماً، لأن شعوره بتوافق الزمن الذي استغرقه الحوار بين الشخصيتين في القصة، مع زمن قراءة الحوار، يخلق لديه إحساساً قوياً بأن زمن الرواية المتخيلة هو الزمن نفسه الذي يعيش فيه في العالم الواقعي، والتشابه بين الزمنين يجرّه إلى الإحساس بالتشابه بين عالم الرواية والواقع المعيش.
هل من الضروري أن تتطابق أحداث الرواية مع الواقع، وإلى أي مدى يستطيع الروائي الاتكاء على الخيال في كتابة أعماله الروائية؟
ليس من الضروري أن يكتب الروائي أحداثاً وقعت بالفعل، بل لا بدّ أن يترك العنان لنفسه وخياله في ابتكار عوالم شخصياته، الزمانية والمكانية، واعتماد عنصري الإثارة والتشويق من أجل أن تكون جديدة كل الجدة، قد يسمع الروائي بأية قصة جرت في الواقع، ولكن لا يجوز له أن ينقل أحداث تلك القصة كما حدثت بالفعل، أو لنقل حرفياً، كما يصح التعبير، من دون أن يضيف إليها شيئاً من ذاته وروحه، ويمزجها بتجاربه الخاصة، وينقل لنا وجهة نظره على لسان شخصياته بالطبع، أو حتى عندما يترك لنفسه هامشاً في السرد أفكاره ومعتقداته، فهناك تشابه كبير بين أحداث الرواية والأحداث التي تجري في الواقع، حتى يظن المتلقي بأن تلك الأحداث قد وقعت بالفعل، أو أنها تروي حياة أشخاص معينين؛ يعرفهم الروائي، أو عاش، ويعيش معهم، ولكن الأمر بطبيعة الحال ليس كذلك، فالروائي كما أسلفنا هو ابن بيئته، ويختار من تلك البيئة الأحداث التي سيكتب عنها، ومن المفترض أن يجنح بخياله إلى آفاق بعيدة، ويستحضر مشاهد من الماضي، وشخصيات مرت به، وتركت لديه انطباعاً في حالات معينة، يريد أن يجعلها نموذجاً لكتابته، ويجمع كل ذلك في قالب واحد، هو قالب الرواية، وليس أن ينقل لنا تفاصيل حياة تلك الشخصيات الجزئية، وكما هي في الواقع، ويظهر كل ذلك بالطبع في نصّه الروائي، ومن خلال الحوارات التي تجري بين الأشخاص التي يروي عنها الروائي.
هناك ضعف في مجال السرديات المعاصرة بشكل عام، من جانب كتّاب شمال وشرق سوريا، وفي مجال الرواية بشكل خاص، ما الأسباب التي تقف خلف ذلك برأيك؟
معك حق، فنحن نشهد إقبالاً كبيراً على الشعر في المنطقة عندنا، وذلك لأسباب كثيرة، تكمن بعضها في استسهال عملية الكتابة؛ بالنسبة للشعر؛ أو حتى الخاطرة، وعدم وجود نقد أدبي جاد وموضوعي، يعالج المسألة بشكل دقيق، ولأن السرديات تحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، ودقّة في عملية الكتابة، فقد يستغرق أي عمل من الكاتب مدة لا تقل عن عام، إن لم نقل أكثر، وهذا ما لا يمكن للبعض تحمّله، أو حتى التفكير في خوض تجربة سردية، ويكتفي بكتابة الشعر فقط، إضافة إلى عدم الوقوف على أهمية السرد وقيمته الكبيرة في نقل الأحداث التي يعيشها المجتمع، وعدم وجود الدراية والمعرفة الكافية أيضاً بأساليب السرد وطرائقه، والتمييز بين الأجناس الأدبية ككل، ما يستدعي، ويدفع بطبيعة الحال إلى مجافاة السرد، والابتعاد عنه، وعدم التكفير حتى في سبر أغواره، خوفاً من الإخفاق والفشل، وتحمّل نقد الآخرين، من أبناء المجتمع.
لديكم مؤلفات أخرى إلى جانب نتاجاتكم الروائية، هل يمكنكم تعريف القراء بها؟
صدر لي حتى الآن رواية (الصوت المخنوق)، وكتاب آخر بعنوان (بين جامع قاسمو ودوّار الهلالية)، وهو عبارة عن كتاب يروي يوميّات المنطقة عندنا، إضافة إلى رواية بعنوان (رسائل لا صدى لكلماتها)، وهي قيد الطبع عن دار الزمان، ورواية بعنوان (تمنيت) قيد الطبع، وكتاب في النقد الأدبي، بعنوان (رؤى في السرد)، وهو كتاب جمعت فيه دراسات عن مجموعة من الأعمال الأدبية تناولتها بالنقد والتحليل، وكتاب نقدي آخر بعنوان (رؤى في الشعر).
هل من نصائح يمكنك تقديمها للكتاب المقبلين على كتابة الرواية؟
الرواية تحتاج إلى الكثير من الجهد، ولا بدّ للكاتب الذي يريد أن يقبل على كتابة الرواية أن يقرأ الروايات كثيراً، ويقف على تجارب الروائيين الذين سبقوه في هذا المجال، سواء أكانوا محليين أم عالميين، إضافة إلى قراءة النقد الأدبي، كي يعرف شروط كتابة الرواية، ويقف على أساليب كتابتها، وطرائقها، من أجل أن يبتعد قدر الإمكان، ويتحاشى الوقوع في الخطأ عند كتابة أي نصّ روائي، ونحن في المنطقة عندنا أحوج إلى الرواية في هذا الوقت أكثر منه في أي وقت مضى، وذلك لكثرة الأحداث التي شهدتها، وما تزال تشهدها المنطقة، بسبب ظروف الحرب القاسية التي مرّت علينا خلال أكثر من تسع سنوات، لتكون هذه الأعمال الروائية مرآة صادقة عما جرى، وتوثّق لمرحلة مهمة جداً من تاريخ المنطقة عندنا، وتنقلها إلى الأجيال القادمة ليتعرّفوا إلى كل هذه الأحداث عن طريقها مستقبلاً.
شكراً لكم على قبول الحوار، والتكرم بالإجابة عن أسئلتنا.
كل الشكر والتقدير لكم؛ على ما تبذلونه من جهد في سبيل خدمة الثقافة والأدب، ورفد المجتمع بكل نتاج ثقافي وأدبي جديد، والتشجيع من خلال مجلتكم على القراءة، ومشاركة المتلقي واقعه، بكل ما فيه، وأتمنى لكم دوام التقدّم والنجاح لكم، ولمجلة – #شرمولا#- الموقّرة.
*نُشرت هذه المادة في العدد السابع من مجلة شرمولا / صيف 2020
[1]