دلبرين فارس
تُعدُّ #الرواية# من أكثر المجالات الأدبية وفنونها تعبيراً عن الواقع الاجتماعي والثقافي وحتى السياسي والاقتصادي لمجتمعِ أو شعبٍ ما. الرواية ليست فناً من فنون الأدب النثري فقط أو قصة تُسرد أحداثها بطريقة مُحبكة لغوية وقصصية، بل تعتبر من الأبواب الواسعة للعلوم والآداب الإنسانية ومن خلالها يمكن الولوج إلى التاريخ والجغرافية بكل مكوناتها، كون الاسلوب الروائي لسرد الأحداث يتسم بالعفوية والتسلسل إضافة إلى النسج التاريخي لمرحلة زمنيةٍ ما، أي إن الرواية ليست حدثاً تاريخياً أو إنسانياً منوطاً بفترة قصيرة أو تخص شخصية بطل الرواية بحد ذاته، إنما التشعبات الشاسعة والمتقنة في سردها اللفظي والمعنوي هي التي تعطي للرواية ميّزة بأنها أكثر فنون الأدب على علاقة بالتاريخ والجغرافيا والتطورات التي حدثت في الماضي والحاضر، وما ستؤول إليه كون الروائي يبحث عن الخلاص أو النتائج المستقبلية كما القارئ الذي يلج بين طيات وانعطافات الرواية باحثاً عن النهاية.
منذ بدايات القرن العشرين أصبحت الرواية أكثر فنون الكتابة الأدبية انتشاراً في الشرق الأوسط، وأصبحت لها جمهورها الخاص من القُراء، وبالرغم من التأثير الكبير للرواية العالمية خاصة الفرنسية والروسية وحتى روايات أمريكا اللاتينية في المراحل المتقدمة على الرواية الشرقية إلا إن أوجه التمايز والاختلاف ظهرت بينهما ولو بنسب بسيطة، ويمكن القول بأن من بين الروايات العربية تميزت الرواية المصرية والسورية والعراقية واللبنانية عن غيرها، ولا شك بأن عوامل عديدة ساهمت في تطور الرواية العربية في هذه البلدان وأولها اللغة العربية التي كانت لغة القرآن الكريم ولغة العديد من الشعوب التي كانت تحكمها السلطنات الاسلامية والعربية، كذلك السيطرة الاستعمارية الفرنسية والبريطانية والروسية على هذه المناطق ومن ضمنها كردستان لفترة طويلة ومدى التأثير والتأثر الذي حصل خلال تلك الفترة الزمنية، لكن العامل التاريخي لعِب الدور الأكبر خاصةً وإن ميزوبوتاميا ومصر وسوريا كانت مهداً لحضارات إنسانية عديدة. أرض الأساطير والأديان والروايات والملاحم، هذا العامل ساهم أيضاً في أن يتأثر الغرب ليس فقط بالثقافة اليونانية والرومانية إنما تأثر أيضاً بالثقافة الشرق أوسطية، تلك الثقافة التي امتدت بجذورها غائرة في عمق التاريخ الإنساني عموماً.
يقول الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ عن هذا الجنس من الأدب القادر على الإفادة في حاضرنا: ” الفنّ الذي يوفق ما بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال… وما بين غنى الحقيقة وجموح الخيال”.
الرواية العربية تطورت على يد العديد من رواد الأدب العربي الحديث الذين أبدعوا في نسج الجملة العربية في توصيف الأحداث والحقائق والآمال بكل إتقانٍ أمثال ناصيف اليازجي، أحمد الشدياق، طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، جبران خليل جبران، جرجي زيدان، أمين الريحاني، ميخائيل نعيمة، رفاعة الطهطاوي والعشرات من الأسماء البارزة في الرواية العربية، هؤلاء الذين قدموا إسهامات كبيرة في تطوير الرواية العربية، ولا يمكن إغفال تأثر غالبيتهم بالرواية الغربية الحديثة أولاً وبالقامات الأدبية الشرقية أمثال الهمذاني وخاني والجزري والحريري ثانياً في غالبية نتاجاتهم الأدبية.
ومن هنا ومن خلال مطالعة وقراءة العديد من الروايات العربية والعالمية، استطيع القول بأن الرواية كجانب أدبي بحد ذاته لها انسجامها مع واقع الإنسان وهي متعلقة بتطور الوعي العام. ولها القدرة على ربط الوقائع والأحداث المتنافرة والمجزأة والمتغايرة في الخواص، كذلك لها خاصية رصد التحولات المتسارعة، فالرواية لا يمكن أن تحدث إلا في خضم التطورات والتشابكات والاحتكاكات الكبيرة والتي تؤثر على واقع التجمعات والمجتمعات والشعوب الإنسانية، هنا يلتقط المثقف أو الكاتب والمختص في الشأن الأدبي تلك التحولات وينسجها بأسلوبه الأدبي لتصبح مادة ونتاج وفن ثقافي تعبر عن مرحلة زمنية أو منعطفاً تاريخياً يُستقى منه الدروس والتجارب الإنسانية على مرّ التاريخ.
لست كاتباً روائياً لكني وجدت في قراءتها ” الرواية” عالماً آخر كان ملتبساً في الجوانب الأخرى من الأدب والعلوم الإنسانية.
$#الرواية الكردية# في سطور$
تأثرت الكتابات الكردية عموماً بواقعها مثلها مثل باقي الكتابات، لكن الفارق هو إن النتاج #الأدبي الكردي# بقي في دائرة اللغات الأخرى كالعربية والفارسية والتركية، حيث نجد #المكتبة الكردية# تكاد تكون خالية من النتاج الأدبي المكتوب باللغة الكردية اللاتينية، خاصة مجال الرواية، فالكتاب والروائيون الكرد كتبوا عن واقعهم وطموحاتهم بلغات الآخرين ولها أسبابها- هنا لسنا بوارد سردها الآن- لكن نكتفي بالقول هنا بأن الرواية الكردية الحديثة والمعاصرة لازلت في طور النمو والصعود لتجد لها موطئ قدم بين الروايات العالمية. لا شك إن الاحتكاك الشبه دائم، وحركة الترجمة التي بدأت تظهر شيئاً فشيئاً، وتشبع المثقفين والكتاب الكرد بالعلوم الأدبية للثقافات الأخرى المتعايشة في الجغرافية التي تجمع معها تلك الثقافات، سيكون لها دور كبير في تسارع وتيرة صعود الرواية الكردية بالكتابة اللاتينية مستقبلاً، كما إن ظروف المرحلة الراهنة بشكلٍ عام وما تمخضت حتى الآن من ثورة #روج آفا# ساهمت وتساهم بشكلٍ فعال في النضوج لظهور رواية كردية بشكلٍ عام.
بالطبع بدايات الرواية الكردية كغيرها ظهرت متأثرة بالرواية الفرنسية والروسية والعربية فيما بعد. وعلى اعتبار إن روسيا كانت راعية الاتحاد السوفياتي ونواتها الناشئة فقد تأثر المثقفون الكرد بالأدب الروسي عموماً وبمبادئ الاشتراكية، وظهرت بدايات الرواية الكردية التي اتخذت من الحكاية والسرد والقصة التي كانت تتناول الحالة الاجتماعية وبعض جوانب قضاياها في المجتمع الكردي باحثة عن طريقة لعلاج تلك القضايا، كما أنها تناولت بعض القضايا التاريخية والدينية الكردية ضمن الإطار الاجتماعي العام التي كانت تتناولها القصة والشعر الكردي أيضاً، لكن لم تصبح الرواية أداة من أداوت المعرفة الثقافية؛ لأنها لم تكن قادرة على تناول البعد الزمني؛ ربما كانت الأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية خاصة خلال الفترة التي تلت انهيار السلطنة العثمانية غير مناسبة لظهور رواية كردية ناضجة؛ بمعنى آخر كان إثبات الهوية الكردية القومية تعتمد على صعود النضال السياسي، الحالة العامة التي كانت سائدة في تلك الفترة والتي كانت تتسابق فيها دعاة القومية لإثبات كياناتهم وهوياتهم القومية، أكثر من اهتماهم بالجانب الأدبي، بالطبع الحالة الكردية كانت مختلفة كونها جوبهت بالعسكرة والتعسف من قبل السلطات التركية وفيما بعد العربية والفارسية.
لا شك إن السياسات التي هدفت إلى طمس اللغة الكردية والثقافة الكردية والتي لاتزال مستمرة بكل تعسفها لم تسمح بظهور مناخ مناسب لتطوير الثقافة والأدب الكردي بشكلٍ عام. لكن بعد ثلاثينيات القرن الماضي ظهرت بوادر لإنتاج رواية كردية في بغداد لكن بقيت ضمن إطار المكتبة العربية كذلك الأمر بالنسبة للكرد في تركيا وفي سوريا وفي إيران، أما العمل “الروائي” الكردي المعاصر (الراهن) فهو قيد التطور بعد أن بدأ الأدباء الكرد بنهضة ثقافية وأدبية عامة وإن كانت في مراحلها الأولى وهي نتيجة طبيعية لجملة التطورات والأحداث التي تمر بها القضية الكردية والحركة التحررية الكردية بشكلٍ عام، والدور الذي قامت به حركة النوادي الكردية من انفتاح ثقافي وأدبي وفكري. حيث شَرَعَ الأدباء الكرد في الدخول إلى البناء العضوي للأدب عموماً والروائي خصوصاً وما يحتويه من روح وحياة وصراعات درامية وتراجيدية وفكاهية في بعض الأحيان خلال هذه المرحلة المتسارعة.
رويداً رويداً بدأت الرواية الكردية تأخذ شكلاً إهليلجياً وتكتسب ملامحها في روج آفا وسوريا وفي بلاد المهجر، حيث وفّرت التطورات الحاصلة والتحولات الكبيرة التي شهدتها المنطقة عموماً والكردية منها خصوصاً في سوريا مناخاً ايجابياً لهذا المنحى مع الاهتمام الواضح من قبل الإدارة الذاتية الديمقراطية بالجانب الثقافي والأدبي وما شهدته روج آفا خلال الأربع سنوات الماضية من تطورات كبيرة على الصعيد الثقافي والأدبي والفكري عموماً(مراكز ومهرجانات ثقافية، وندوات أدبية ومكتبات وأدوار أدبية وفكرية).
الرواية وثورة روج آفا … وجهة نظر
لقد حازت الثورة الفرنسية على نسبة لا تقل عن 75 % من الموضوعات التي تناولتها الأعمال الروائية والأدبية بشكلٍ عام ومنها انتقلت إلى باقي أصقاع أوروبا، كذلك الأمر بالنسبة للثورة الروسية، ولا ننسى بأن أعمال أدبية مهدت لتلك الأعمال الضخمة قبل الثورة وخلالها.
لكن في ثورة روج آفا قلما نجد كُتاباً بارعين قد استخدموا الثورة بطريقة روائية أدبية عالية على مستوى الإبداع في النص وانتاج المعنى، بالرغم من إن ثورة كثورة روج آفا حافلة بالصور والمعاني والتضحيات والبطولات ناهيك عن التحولات التاريخية التي شهدتها المنطقة على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ففي كل بقعة على هذه الجغرافية يمكن كتابة رواية قيّمة كاملة بكل جوانبها. وهذا مأخذ على الكُتاب الذين أهملوا هذا الجانب أو أنهم ربما غير قادرين على الخوض في هذا المضمار الصعب للغاية من ناحية التوظيف الدلالي والحسي والجمالي للثورة وعدم تمكنهم من المزاوجة بين المعاني والصور والخيال. الأمر الآخر هو عدم وجود تجربة لغوية حقيقية يمكن الاستناد عليها وهنا أتحدث عن الرواية باللغة الكردية ولها اسبابها كما ذكرنا سابقاً. ربما القادم سيكون له تأثيره في هذا المنحى الأدبي وسنرى روائيين وأعمال روائية تشكل قاعدة لمستقبل الرواية الكردية.
لنعد إلى العلاقة بين الرواية والثورة فكما الرواية عمل صعب وبحاجة إلى قاعدة فكرية ومخزون ثقافي ولغوي كبير، وإلى روح متمردة، الثورة أيضاً تحتاج إلى أسس بنيوية تستند عليها وهي بحاجة إلى ثوار وقيادات واعية قادرة على تطويرها وإنجاحها، الرواية بحاجة إلى خيال وآمال تَدرس الواقع بكل جوانبه وتُعبر عنه بكل ابداع، الرواية كما الثورة ليست قصة محددة بزمن قصير أو بحادثة معينة أو بشخصية بحد ذاتها إنما تعبر عن واقع وجغرافيا وتاريخ وتحولات على كل المستويات وبالتالي فالنتائج تكون كبيرة ولها قيمتها التاريخية وتؤثر على الفكر والتفّكر المحلي والعالمي أيضاً. فكما الرواية تنبئ بظهور مجتمع جديد كذلك الثورة. ففي روج آفا على سبيل المثال لعبت المرأة دوراً محورياً هاماً وبدأت تظهر وتكون شخصيتها الخاصة خاصة على الصعيد العسكري والتحول الاجتماعي في بيئة كانت السيادة والبطولة والقوة والثقافة .. للرجل، في روج آفا برزت روح المجتمع الإنساني الحقيقي الذي يعبر عن التنوع الغني في هذه البقعة الجغرافية من الأرض بكل ممكناته في الوقت ذاته بدأت النمطيات المعروفة لمنطقة عاشت غالبية مراحلها التاريخية في الحروب والصراعات السلطوية بالتقهقر والزوال، مراحل صعبة ومخاضات عسيرة عاشتها الثورة كما يعيشها الروائي خلال كتابته لروايته، الرواية ليست قصة قصيرة تبدأ وتنتهي ضمن أطر مرسومة ومحددة كذلك الثورة فلا الحاضر يتسع لها ولا المستقبل، التخيلات جامحة كسيرورة تكرر نفسها بصورة جديدة تمهد لتغييرٍ بنَّاءٍ آخر تضاف إلى منجزات ومكتسبات الثورة.[1]
الرواية الحقيقية التي تكتمل فيها الجوانب كلها تكون لها وقعاً خاصاً ومميزاً على المجتمع وترصد وتحرك تفاصيل مهمشة، الثورة أيضاً لها الوقعة ذاتها، في روج آفا كل الثقافات تحركت من جديد، كل اللغات والتيارات الفكرية والسياسية والمبعدون عن التيار العام جميعهم تأثروا وبدأوا بالتفكير من جديد أين كنا ومن نحن الآن… وبها تنبعث الآمال وتحفز العقول على التفكير والتحول.
بهذه الصورة المختصرة يمكن القول بأن أرضية الرواية باتت خصبة في روج آفا وسوريا عموماً لتشق لنفسها طريقاً نحو انتاج رواية خاصة بها ولتضيف على الرواية العالمية بعداً فنياً أدبياً جديداً، ولتفتح أمام عشرات لا بل مئات الكتاب الطموحين إلى إنتاج رواية قلّت نظيرها في عصرنا الراهن، وهذا ما تحتاجه روح العصر على صعيد الفكر والثقافة الإنسانية في مرحلة حصدت الرأسمالية بكل جوانبها وركائزها الكثير من الأرواح، وأخذت الطبيعة نحو حافة الدمار لتشبع رغباتها وغريزتها العطشة للمال.
*نُشرت هذه المادة في العدد السابع من مجلة شرمولا / صيف 2020