حسين جمو
في العام 1907، توجه بديع الزمان سعيد #الكردي# (النورسي) إلى اسطنبول للمرة الأولى في حياته، مدشناً حملةً بين أصحاب القرار لتأسيس نظامٍ تعليمي حديث في #كردستان#، فانتهى به الأمر إلى وضعه في مصحٍ للأمراض العقلية. كان النورسي أتم التحدث باللغة التركية حديثاً. فاللغات التي أتقنها هي لغته الأم الكردية ثم العربية والفارسية. ومعظم استشهاداته الشعرية في مؤلفاته هي من الفارسية. وأغلب الشعر السماعي الذي كان يطلب من تلاميذه إلقاءه في حضرته، خلال فترة المنفى التي استمرت حتى وفاته عام 1960، قصائد ملا جزيري وأحمد خاني وفقي تيرا وجكرخوين. وبذلك، لم يبدأ عهده مع التركية حتى بلوغه سن العشرين، إذ أنه ولد في 1872 ومقيّد في السجل المدني في عام 1876. انشغل النورسي بهاجسٍ مبكّر استولى على حياته كلها حتى مماته، وهو التعليم في كردستان. وقد يظن المرء لوهلة أن مؤلفه الموسوعي «كليات رسائل النور» التي انشغل بها طيلة ثلاثين عاماً الأخيرة من سني حياته كان جوهر دعوته للإصلاح الاجتماعي والسياسي. غير أنه يمكن القول إن الرسائل هي ما تبقّى من رؤيته الأوسع، والوجه الآخر لحلمه الموؤود بتأسيس مدرسة الزهراء في كردستان.
في سيرته المتناثرة بين مجلدات «رسائل النور»، يسرد بديع الزمان، المعروف بإسم الشيخ سعيد الكردي (والنورسي في خريف حياته)، جوانب من محنته الكبرى وهو التغيير الاجتماعي الثوري. وهذا الجانب من فكر النورسي محجوبٌ إلى حدٍ كبير بسبب طغيان أشياء أخرى على سيرته. ففي الجانب التركي، يجري التركيز على تحريفات مكشوفة لمنهجه بالاستناد إلى حادثةٍ مثيرة للجدل وهي امتناعه عن المشاركة في قيادة ثورة كردستان عام 1925. فالتقطت السلطة، عبر أذرعها الأكاديمية، هذا الموقف لاحقاً لتفسّره بانقياد النورسي للدعوة الطورانية المتطرفة والتسليم بإخضاع كردستان للدعوة القومية التركية. وفي الجانب القومي الكردي، يتم الاستناد إلى هذه الواقعة نفسها لنبذ النورسي والتخلي عنه. على أن هذه السطور لا تناقش هذا الموقف المثير للجدل والإشكالي، إنما تختص بإضاءةٍ على جانبٍ من مشاغل «الأستاذ» الاجتماعية وما كلفته من أهوال، وكانت بدايتها تحويله إلى مشفى الأمراض العقلية في إسطنبول عام 1907.
تنقل سعيد بين عدة بلداتٍ مطلع شبابه، فلازم ضريح الشاعر الكبير أحمد خاني في بايزيد شهوراً في عزلةٍ فكرية على منهج الحكماء، حينما كان في الخامسة عشرة من عمره. ومن بايزيد، قرر الذهاب إلى بغداد وزيارة ضريح عبدالقادر الجيلاني، وسلك طريقاً من دون دليلٍ ولا رفيق. ويبدو أنه تاه في غابات ومسالك الجبال، فوصل إلى بدليس بعد رحلة ثلاثة شهور سيراً على الأقدام في منطقةٍ مليئة بالاضطرابات والخطف والقتل خلال فترة المواجهات الدامية التي شنتها الألوية الحميدية على الأرمن بين أعوام 1892–1896. يتخلى النورسي عن فكرة زيارة بغداد، ويقيم فترةً في بدليس للدراسة في حلقة الشيخ محمد أمين أفندي. ومن هناك، يتوجه إلى شيرون ثم سرت، حيث منحه الملا فتح الله أفندي لقب «بديع الزمان» تكريماً له على مناظرته كبار العلماء. وهناك، دخل في شجارٍ مع طلبةٍ يحسدونه على مكانته، فلزم من يومها حمل خنجرٍ صغير. ثم رحل من سرت إلى بلدة تلو وأقام تحت قبةٍ حجرية تتموضع اليوم وسط هذه البلدة العربية في قلب كردستان. وتحت هذه القبة، بدأ سعيد مشروعه الإصلاحي ميدانياً وهو في السادسة عشرة من عمره، إذ رأى في المنام الشيخ الجيلاني يخاطبه قائلاً: «ملا سعيد! اذهب إلى مصطفى باشا، رئيس عشائر ميران، وادعه إلى الهداية والرشاد والكف عن الظلم، وليقم الصلاة ويأمر بالمعروف. واقتله إن لم يستجب!». إن اقتحام سعيد الشاب خيمة أمير قبيلة ميران الكبيرة، وأكبر زعماء الألوية الحميدية، مصطفى باشا، كما رواه النورسي في ثنايا «رسائل النور» وتوسّع فيه تلامذته، لهي حادثةٌ جديرة بالتأمل والعِبر، وتكشف جانباً متهوراً في شخصية النورسي، وهو التهور الشجاع والبرهاني الذي سيوصله بعد أعوامٍ قليلة إلى مشفى الأمراض العقلية في إسطنبول.
جلس سعيدٌ في الخيمة منتظراً مصطفى باشا الذي دخل مضافته، فقام الجميع إلا الشاب اليافع والشهير سعيد بديع الزمان. وكان الباشا تعرف عليه وحسب له حساباً على الرغم من تطاول سعيد عليه في مجلسه، إذ هدده بالقتل إن لم يصلح نفسه! وتردد الباشا في الرد على هذه الإهانة وصبر عليه، بل منحه فرصةً بأن عرض عليه مناظرةً مع علماء الجزيرة. فإن غلبوا سعيداً، سيرميه الباشا في نهر دجلة. وإن غلبهم سعيد، فإن الباشا ملزمٌ بإقامة بالصلاة والكف عن الإغارة على القرويين. فطلب منه سعيد بندقية «ماوزر» الألمانية، وهي أحدث طراز من البنادق في ذلك الوقت في كردستان، إذ كانت تحشى بعشر رصاصاتٍ ولم يمتلكها سوى علية القوم، أمثال قادة الألوية الحميدية، إذ امتلك سعيدٌ واحدةً وهو لم يتجاوز 16 عاماً. لاحقاً، فكّر الباشا مصطفى في قتل سعيد مرة أخرى حين عاد الأخير إلى تهديده بالقتل لعدم التزامه وعوده. فنصحه وجهاء ميران بتركه يرحل. وفعلاً، استجاب سعيد لرجاء نجل الباشا عبدالكريم وغادر إلى نصيبين ثم ماردين.
يحسب موقف الباشا له، وهو المعروف بعدم التردد في القتل الجماعي حين يرى ضرورة ذلك. فكانت هذه المواجهة بين زعيم الألوية الحميدية والشاب المندفع سعيد بداية انخراط الأخير في الشؤون العشائرية وتطوعه للعمل كمصلحٍ اجتماعي بين عشائر كردستان. و سريعاً ما اكتشف علة العلل لأمته، وهي الشجاعة المفتقدة للعلم. وعليه، كرّس حياته لتأسيس تغييرٍ ثوري مزدوج ضد منهج تعليم التكايا الصوفية من جهة، وضد الإهمال المقصود للتعليم من قبل السلطة من جهةٍ أخرى. وخارجياً، كان لزاماً عليه التنبه إلى الفجوة الفكرية بين أطفال الأرمن المتعلمين في مدارس البعثات الأجنبية المسيحية وبين أطفال الكرد المحرومين من أي تعليمٍ لائق، فضلاً عن التهديد الدولي الذي تواجهه الدولة العثمانية.
ومن أجل هذه الثورة، كان عليه تأسيس مدرسة الزهراء. ووجد الدعم من مصدرٍ وحيد هو حاكم بدليس طاهر باشا الذي كتب رسالة توصيةٍ إلى السلطان عبدالحميد الثاني لرعاية سعيد النورسي في إسطنبول، وهي محفوظة ضمن أوراق قصر يلدز. وبدأت علامات السقم تظهر عليه نتيجة دراسته المكثّفة للمسائل الرياضية في بدليس، ما أرهق ذهنه. ومن الواضح أن مسألة العلاج كانت تخريجةً لفتح الباب أمام سعيد من أجل الدخول إلى قصر السلطان، إذ أن القرارات التي لا ترد تصدر من هناك. كما أن القصر هو أفضل مكانٍ يبدأ فيه حشد الدعم لثورته الاجتماعية! قال له طاهر باشا كنوعٍ من التحفيز: «يمكنك أن تهزم كل علماء كردستان، ولكن لا يمكنك أن تذهب إلى إسطنبول وتتحدى كل الأسماك الكبيرة في ذلك البحر». وبالفعل، اكتشف سعيد في إسطنبول، عام 1907، ذلك الخيط الرفيع الذي يمكن أن يودي بالمتنور إلى مصح الأمراض العقلية. وبدلاً من أن تخلق الجرأة الفضول لدى أرباب السلطة لمعرفة ما يرميه الشخص الفلاني بجرأته، فإنهم يحيلونه على الفور إلى طبيب الأمراض العقلية. وكانت المرة الأولى التي وجد سعيد نفسه في هذا الامتحان أثناء تجوله ليلاً في حديقةٍ تابعة للقصر. وحين أراد أحد الحراس منعه وتنبيهه لملكية السلطان للمكان، علق بالقول إن له الحق في التجول كونه من مواطني هذه البلاد، فأحيل إلى طبيبٍ يوناني فحصه وأعجب بذكائه.
مع حلول عام 1908، قدّم سعيد عريضةً إلى قصر يلدز لفت فيها إلى بداية التتريك في التعليم، حتى قبل تسلم الاتحاد والترقي السلطة. وكانت هذه من بين المثالب الكبيرة للسلطان عبدالحميد الثاني وجلبت له نقمة في البلاد غير الناطقة بالتركية، وهي بلاد العرب والكرد والبوشناق. فكتب سعيد:
«من أجل مواكبة حركة التقدم مع الدول الأخرى الشقيقة في عالم المدنية وعصر التقدم والمنافسة، تم إنشاء المدارس كخدمةٍ تقدّمها الحكومة في مدن كردستان وقراها، وقد لاقى ذلك امتناناً كبيراً، إلا أن الأطفال الذين يتحدثون التركية هم من يستفيد من هذه المدارس فحسب. وحيث أن الأطفال الكرد الذين لم يتعلموا اللغة التركية يعتبرون أن المدارس هي منبع العلم، ولأن المدرسين في المدارس (من أصحاب المدارس العلمانية الجديدة) لا يعرفون اللغة المحلية، فإن هؤلاء الأطفال لا يزالون محرومين من التعليم، مما يترتب عليهم أن يبقى سلوكهم غير متمدن، كما ستكون الفوضى التي تسيطر عليهم محل سخرية وشماتة الغرب. وبما أن الناس ستظل على تلك الحالة البدائية، والتقليد المتخلف والأعمى، فسيظلون فريسةً للشكوك والارتياب. وهذه الأمور الثلاثة ستكون بمثابة صفعة مدوية للكرد في المستقبل، وهو ما يعد مصدراً لقلق ذوي البصائر والعقول. ومن أجل معالجة ذلك: يجب إنشاء ثلاث مؤسسات تعليمية في مناطق مختلفة من كردستان كنموذج يحتذى به وكتشجيعٍ ودافع لالآخرين، وعلى أن تقام إحدى هذه المؤسسات في (منطقة) بيت الشباب وهي مركز عشائر الأتروش، وأخرى في وسط عشائر موتكان وبليكان وساسون، وواحدة في وسط (منطقة) وان نفسها والتي تقع وسط عشائر حيدران وسبكان. ويجب أن يطلق عليها اسم المدارس الدينية، ويجب أن تُدرس كلاً من العلوم الدينية والعلوم الحديثة. كما يجب أن تضم هذه المدارس 50 طالباً على الأقل، وتتولى الحكومة الإنفاق عليها. كما ستكون إعادة إحياء عدد من المدارس الأخرى عاملاً فعالاً في تأمين الحياة المستقبلية في كردستان على شتى أوجهها المادية والروحية والأخلاقية. وبهذه الطريقة، يمكن وضع أسس التعليم، بل ويمكن أن يؤدي ذلك إلى نشر هذا الأمر خارجياً، إذا ما نُقلت هذه القوة الهائلة إلى الحكومة والتي تنغمس حالياً في الصراع الداخلي. كما يظهر ذلك، إلى حدٍ كبير، مدى أحقية الكرد في التمتع بالعدل وقدرتهم على التحضر والتمدن، بالإضافة إلى جدارتهم في إظهار ما مُنحوا من قدرات».
هذا ملخص رؤية الملا سعيد الإصلاحية. ووجّه هذه العريضة إلى السلطان عبدالحميد الثاني، لكنه لم يتمكن من مقابلته بسبب حواجز الحاشية الفاسدة، إذ أمام إصراره مقابلة السلطان، وهو ذلك الشاب رث الثياب الذي يتحدث بلغةٍ لا تنتمي إلى السائد، قام مسؤولون ومنافسون لسعيد في قصر يلدز بالتحريض عليه وعرضه على طبيب، فأحاله الأخير إلى مستشفى طوب طاش للأمراض العقلية بعد موافقة السلطان. من غير المعلوم المدة التي قضاها سعيد في المشفى، إذ أنه سرعان ما دخل في حوارٍ مع الطبيب داخل المصح نشره في مجلد «الشعاعات» من رسائل النور، ليقر الطبيب خطأ التشخيص الأول ويمنحه إذن الخروج. لكن المحنة لا تنتهي هنا، إذ لاحقه متنفذو القصر، الذين لم يكشف سعيد عن هوياتهم، وزجوا به في السجن. وهناك، عرض عليه وزير الأمن شفيق بك راتباً شهرياً ضخماً على أن يعود إلى كردستان ويترك إسطنبول، فيرفض سعيد هذه «الرشوة» ويستغرب هذا الفساد في حواره مع الوزير، إذ كيف يمنحون رواتب المعلمين قبل تأسيس المدارس؟ وقد يكون الوزير شفيق بك هو شفيق بك العظم، الوجيه العثماني الكبير في عائلة العظم في بلاد الشام، إذ كان يخدم حينها في قصر يلدز، لكن ليس في سيرته ما يشير إلى أنه كان وزيراً للأمن العام.
بادر شفيق باشا بالحديث كمبعوثٍ للسلطان إلى الملا سعيد، وأبلغه بتخصيص السلطان راتباً له، ليجيبه: «لم آت إلى إسطنبول لحاجةٍ لي، بل جئت إليها من أجل أمتي، وتلك الرشوة التي تريد أن تعطيني إياها هي رشوة للسكوت عن الحق».
أظهر سعيد صلابةً في رفض مرسوم السلطان بالإسم، قائلاً «نعم أرفض»، إلى أن بادره الوزير بالقول: «يناقش مجلس الوزراء ما تسعى إليه بنشر التعليم في كردستان»، ثم صبّ جام غضبه على الملا سعيد الذي استمع إليه ثم رد: «نشأتُ حراً، ترعرعت في جبال كردستان، معقل الحرية المطلقة.. أرسلوني إلى المنفى إن شئتم في فزان أو اليمن».
بقي سعيد في الحبس، أو قيد الإقامة الجبرية في إسطنبول، حتى استولى الاتحاد والترقي على مفاصل الحكم في يوليو/تموز 1908. فظهر سعيد سريعاً وهو يخطب في سالونيك مبشّراً بعصرٍ جديد، عصر الحرية، قبل أن يستنتج أن رموز الاتحاد والترقي انجرفوا إلى ما وصفه ب«مستنقعٍ آسن»، قاصداً بذلك النزعة العنصرية التركية. لكنه استثنى أنور باشا من صفة الانحراف!
في تلك الأيام، قبل الحرب العالمية الأولى، امتلأت إسطنبول بأشراف الكرد وزعمائهم. لكن أحداً لم يحمل هاجس العمل على التغيير الاجتماعي وسد الفجوة التعليمية– الثقافية– السياسية الخطيرة في كردستان. كافح النورسي وحيداً في مسألة التعليم واللغة الأم الكردية. ومن الأشياء التي قد لا يعرفها عنه الكرد أنه شرع في العمل على وضع أبجديةٍ للغة الكردية عهدها إلى المثقف اللغوي خليل خيالي، في حين بشّر بهذا المشروع في مقالٍ نشره عام 1908.
حلت الحرب العالمية الأولى وعصفت بكردستان بشكلٍ أهوج حين دخلت جحافل روسيا القيصرية إلى عددٍ من المدن التي يقيم فيها الأرمن والكرد. فانخرط سعيد في المقاومة الميدانية في بدليس ووقع في الأسر وقضى عامين في سيبيريا، لينجح أخيراً في الهروب والوصول إلى إسطنبول كفاتحٍ! ومن هناك، تبدأ المرحلة الثانية من حياته، المسماة حقبة «سعيد الجديد»، ذاك الذي فقد الأمل بنهضة كردستان وتأسيس مدارسٍ وجامعات، واختتم كفاحه التعليمي الذي جعله يحصل على لقب «الأسد المجنون» من صديقه الصحافي أشرف أديب. فظهر سعيد صاحب «رسائل النور» الذي يكره ما تمثله إسطنبول من فسادٍ ومؤامرات وضيق أفق مسؤوليها واغترابهم عن الأمة.[1]