بدرخان علي
قبل أيام، وكما في كلّ عام منذ سبعة أعوام متّصلة، أحيا أهالي قرية “#روبوسكي#”، الواقعة في كردستان تركيا، على الحدود مع إقليم كردستان العراق، ومتضامنين معهم وحزب الشعوب الديمقراطية “#HDP# ” المعارض، ذكرى مجزرة “روبوسكي”، التي ارتكبها الجيش التركي بحقّ أبناء هذه القرية، ليلاً، في 28 -12- 2011، وأسفرت عن مقتل 34 مدنياً كردياً، كانوا جميعاً في رحلة تهريب “اعتيادية”، عبر الحدود التركية العراقية، أمام أنظار الجيش التركي الذي يغضّ النظر عن التهريب ويسهّله، إلّا أنّ الجيش التركي كان له موقف آخر في تلك الليلة، التي أمست كابوساً دائماً لأهالي تلك المنطقة الحدودية، لا يبارحهم حتى اليوم؛ فقد قصفت الطائرات التركية قافلة التهريب تلك الليلة، وأسفرت عن مذبحة كبيرة: 34 رجلاً وولداً، 19 منهم في سنّ أقل من 18 عاماً، 16 منهم من عائلة واحدة (عائلة إنجو)، فقدوا حياتهم في تلك الليلة الرهيبة، التي تخيّم بوقعها القاسي على أهالي الضحايا في المنطقة؛ حيث عاد الضحايا إلى ذويهم نعوشاً ملفوفة ببطانيات على ظهور البغال، وسيلة النقل الوحيدة في دروب كردستان الوعرة، المَثْلُوجَةِ في مثل هذه الأيام.
ينحدر تسع من الضحايا من قرية “روبوسكي”، التي وقع القصف بالقرب منها، وهو الاسم الكردي لقرية “أورتاسو” في السجلات التركية الرسمية، وينحدر 25 ضحية من أصل 34 من قرية كول يازي (بالكردية باجوه) القريبة منها. في السجلات الرسمية؛ عُرفت المجزرة باسم “واقعة أولوديري”، وهو الاسم التركي للمنطقة التي تضمّ قريتَي باجوه (كول يازي) وروبوسكي (أورتاسو)، التي تتبع محافظة “شرناخ” الحدودية.
ومنذ تلك الفاجعة الأليمة يقوم أهالي الضحايا بزيارة أضرحة أبنائهم وإحياء تجمعات جماهيرية، وبمظاهر تحدّي السلطة الحاكمة وتذكيرها بعدم نسيان الحادثة وعدم الغفران، وضرورة تحقيق شفاف، وإعلان المسؤولين عن الجريمة، وتقديمهم للمحاكمة وتحقيق العدالة، في الوقت الذي أغلقت السلطات الحاكمة ملف المجزرة قضائياً عبر الالتفاف والتلفيقات والتهرّب، والضغط على ذوي الضحايا واعتقال بعضهم في مسعى لثنيهم عن المطالبة بإعلان أسماء المسؤولين عن المذبحة، ونيل جزائهم، كما يصرّ ذوو الضحايا، الذين رفضوا، منذ الأيام الأولى للمجزرة العرض الذي قدّمته السلطات بقبول تعويض مادي عن كلّ ضحية، وهم قرويون فقراء يكابدون لتأمين قوت يومهم، ولسان حالهم يقول : لا بديل عن الكشف عن المسؤولين عن مقتل أولادنا ونيل جزائهم العادل واعتذار رسمي من الدولة ووعود بعدم تكرارها.
من جهته، يَحمل حزب الشعوب الديمقراطية المناصر للقضية الكردية ملف المجزرة على عاتقه، عبر نوابه في البرلمان وإعلامه ومنظماته، محاولاً تسليط الضوء عليها ومطالباً بفتح تحقيق قضائي شفاف بشأنها ومحاسبة المسؤولين عنها. ومن اللافت أيضاً حضور أمهات الضحايا وشقيقاتهم في إحياء ذكرى ضحايا المذبحة والمطالبة بالعدالة؛ ففي كلّ يوم خميس، ودون انقطاع منذ دفن الضحايا، يتجمعن في المقبرة التي تحتضن رفات أبنائهم، ويحيون ذكراهم. في الذكرى السنوية الثامنة للمجزرة، قبل أيام، أكّد الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي، سزائي تمالي؛ أنّ “الآلام الناتجة عن الحادث ما تزال حية في قلوبهم”، مشيراً إلى أنّهم شاركوا في الفاعلية للتضامن معهم، ومؤكداً أنّ حزبه سيواصل المقاومة من أجل تحقيق العدالة، قائلاً: “نحن نواصل تجرّع هذا الواقع الأليم، لأنّنا لم نواجههم بمجزرة روبوسكي، ولم نحاسبهم عليها، لو كنا حاسبناهم على مجزرة روبوسكي/ أولودره، ربما لم تكن تلك المجازر الأخرى لتحدث” وأضاف: “سنواصل المقاومة والكفاح من أجل تحقيق العدالة على هذه الأرض؛ لأننا نعرف أنّ هذه المنطقة هي منطقة مجازر” (صحيفة الزمان التركية-الإلكترونية- 29/12/2019).
“فريدا”: صحفية هولنديّة تروي حكاية المذبحة
لعلّ كتاب “مات الأولاد – مجزرة روبوسكي والمسألة الكردية في تركيا”؛ هو أوسع وأشمل ما كُتب عن الحادثة وتفصيلاتها وسياقها وتوثيقها وطريقة استجابة السلطات التركية لتداعياتها. مؤلفة الكتاب هي فريدريكا خيردينك (Fréderike Geerdink)؛ صحفية هولندية بدأت حياتها المهنية بالكتابة في مجال حقوق الإنسان، أقامت في تركيا بين أعوام 2006 وحتى مطلع 2015؛ حين طردت من تركيا ومُنعت من دخول البلاد، وأتقنت اللغة التركية، إلى جانب الهولندية والإنكليزية، والكردية إلى حدّ ما، وعُرفَت كصحفية متخصصة بالشأن التركي والمسألة الكردية في تركيا، تمّ تصنيف الكتاب، عام 2014، ضمن قائمة أفضل الكتب الصحفية من قبل مؤسسة “Bruss Prize”، تُرجم الكتاب إلى العربية في لغة سلسة وجميلة من قبل المترجم السوري الأرمني (كيفورك خاتون وانيس)، وصدر عن دار الفارابي عام 2018.
أهمية الكتاب تكمن في ملاحقة الحدث منذ لحظة وقوعه، عبر التحقيق الصحفي الميداني، والعيش بين ذوي الضحايا، وطريقة تعامل الإعلام التركي مع المجزرة وآلية تشكيل وعمل اللجنة القضائية المنبثقة من البرلمان التركي، وتقليب حجج الحكومة التركية على وجوهها، ونظرتها المحايدة للأحداث. بعد أيام من وقوع المذبحة، التي حاول الإعلام التركي تصويرها بداية كعملية ضدّ “الإرهابيين”، تطيرُ “فريدا”، كما ستناديها النساء الكرديات القرويات اللواتي يصعبن عليهن نطق اسمها كما هو، من إسطنبول إلى موقع الحادثة، لتتحقّق بنفسها من الواقعة ومجرياتها على لسان ذوي الضحايا أولاً.
التهريب بمعرفة الجيش تماماً
القضية الأولى التي تحسمها المؤلفة في تحقيقها الميداني؛ أنّ جميع الضحايا كانوا مدنييّن، ومعظمهم أولاد غير بالغين يعملون في التهريب؛ “ففي الوقت الذي يقوم الأولاد في هولندا بتوزيع الجرائد، يعمل الأولاد في هذا الجزء من تركيا في التهريب، إنّه عمل شاقّ وخطر وغير قانوني، لكنّه الوحيد المتوافر، أضف إلى ذلك أنّ الأولاد هنا يتحولون إلى بالغين بسرعة غير عادية: فبالنسبة إليهم تنتهي مرحلة الطفولة عند وصولهم إلى سنّ ال 12″، لقد كانوا في رحلة تهريب روتينية عبر الحدود، فالتهريب هو مصدر عيش أهالي تلك القرى الحدودية، الذين يعترضون على استخدام كلمة “تهريب”؛ لأنّ الأرض على جانبي الحدود “كلّها كردستان” في تعبيرهم، وأنّ التهريب يجري تحت أنظار الجيش التركي وبمعرفة وموافقة منه، وكذلك عدم إخبار المخافر العسكرية الحدودية المهربين، عبر المخاتير و”حُرّاس القرى” المُعيّنين من قبل السلطات التركية، بأية عمليات عسكرية في تلك الليلة، كما تجري العادة عندما يكون هناك عمليات عسكرية للجيش التركي ضدّ مقاتلي حزب العمال الكردستاني.
تُقرر المؤلفة أثناء تواجدها في المنطقة أن تخوض تجربة التهريب بنفسها مع المهرّبين والأدلّاء، بدءاً من قرية “أورتاسو”، لتكتشف بنفسها أنّ عملية التهريب تتمّ بتنسيق كامل مع النقاط العسكرية، وتقول: “تلاشت آخر شكوكي فيما إذا كانت الدولة تسمح بالتهريب أم لا، ليس فقط بسبب مشاهدتي للجنود الذين بدورهم شاهدوني في رحلتي مع الدليل، أو بسبب النقاط العسكرية في قمم التلال على مرمى حجر من مسار المهربين اليومي، ومكان وقوع المذبحة، بل أيضاً بسبب الحياة اليومية التي عاينتها في قرية “أورتاسو””.
وتضيف المؤلفة: “المنطقة مليئة بالعسكر؛ حيث تصعب مزاولة التهريب دون علم الجيش، فهناك مخافر الشرطة فوق الجبال، إضافة إلى أنّ طائرات الدرون تحوم بشكل دائم فوق منطقة الحدود، سواء من جهة العراق أو تركيا (أمريكية فوق الجبال على الجانب العراقي، وأخرى تركية، إسرائيلية المصدر، على الجانب التركي من الحدود)، يتشارك الأمريكيون المعلومات التي تجمعها طائرات “الدرون” مع تركيا؛ حيث يقوم خبراء من الجيش التركي بتحليل الصور وتقويمها بشكل مستمر، فلا يعقل أن لا تكون السلطات التركية قد لاحظت طوال هذه السنين، قيام مجموعة مكونة من 20 إلى 50 مهرباً، والعدد نفسه من البغال تقريباً، وبمعدل 8 إلى 12 مرة في الشهر، وفي التوقيت نفسه تقريباً، وعلى المسار نفسه من تركيا إلى العراق بالدخول إلى العراق والعودة بعد قليل، هذا يعني أنّ ثروت محقّ فيما ذكره: المهربون مكشوفون دائماً ولا يتم التعرض لهم.
أما لماذا تسمح الدولة بالتهريب، فتقول المؤلفة: “إنّه أسلوب آخر لمحاربة حزب العمال الكردستاني “pkk”؛ فانشغال الناس والشباب بشكل خاص بالتهريب وتحصيل دخل مادي يقلل كثيراً من احتمالات انضمامهم إلى المتمردين، كما أنّها تمنح سلطة معينة؛ كلّ من يعمل في التهريب، ولا يوالي الدولة، ولا يخدم حارس قرية، يكون أول من تتم محاسبته في حال تمّ القبض على المهربين، هكذا لا تضع الدولة محاربة التهريب ضمن أولوياتها، لكن للمحافظة على التوازن؛ يتم فتح المجال أمام الناس للحصول على دخل عبر نشاطات شبه قانونية، ويتم في الوقت نفسه تعزيز الولاء؛ للمحافظة على هذا التوازن، الحاجة لا تدعو فقط إلى السماح بعمليات التهريب عبر الحدود؛ بل أيضاً تسهيل ذلك عن طريق المحافظة على الممرات مفتوحة أمام أغلب مواد التهريب، لا يتم التعرض لعمليات التهريب وتوقيفها إلا في أوقات محددة تحكمها دوافع معينة، منها، على سبيل المثال: تقديم إثبات للشعب بأنّ الدولة تتصدى للنشاطات غير القانونية.
لجنة “تحقيق” برلمانية
تحت ضغط هول الحادثة ومع انتشار الصور والفيديوهات المُفزعة، التي حاول الإعلام التركي تصويرها بداية كعملية ضدّ “الإرهابيين”، قام البرلمان التركي بتشكيل لجنة تحقيق في الحادث ل “التحقق من الادّعاء بمقتل 34 مدنياً”، مكونة من ثمانية أعضاء: 5 من حزب العدالة والتنمية “Akp” الحاكم، وبرئاسة واحد منهم، وواحد من الحزب الجمهوري المعارض “Chp”، وواحد من حزب الحركة القومية “Mhp” المتطرف، وواحد من حزب السلام والديمقراطية “Bdp” المناصر للكرد، وتتخذ اللجنة مبدأ الأكثرية في عملها والتقرير النهائي، وتمّ ختم العديد من الوثائق الحاسمة ب “سري”، ما يعني أنّ اللجنة لن تتمكن من الاطلاع عليها، كما تمّ استثناء صنّاع القرار السياسي والعسكري في المراتب العليا من مقابلة اللجنة، تقول المؤلفة: “كلّ هذه الإجراءات تشير إلى أنّ مهمة اللجنة هي إخراج رئيس الوزراء، آنذاك، أردوغان، والقادة العسكريين من دائرة الحدث أكثر من سعيها إلى كشف الحقيقة، بالمقابل قامت منظمتان مستقلتان في مجال حقوق الإنسان ( “IHD” و”MazlumDER” ) بإعداد تقرير مشترك بعد زيارة ميدانية، واستكشاف مكان القصف بعد يوم من وقوع المجزرة، وطرحت المنظمتان أسئلة مثل: لماذا لم يتم إخبار أهل القرية بالعملية الوشيكة ضدّ ال “Pkk” كما يحدث عادة؟ هل قدمت طائرات الاستطلاع بدون طيار “درون” معلومات عن نوع الحمولة التي تقوم المجموعة بنقلها وفيما إذا كان بين أفرادها مدنيون أم لا؟ لماذا لم يتم، بشهادة العديد من الشهود، تقديم المساعدة الطبية مباشرة بعد القصف حيث يكون ممكناً تقليل عدد الضحايا؟
بحسب عضو لجنة التحقيق، ممثل حزب السلام والديمقراطية، أرطغرل كوكجو، الذي تمكّن من الاطلاع على فيديو العملية الملتقط بطائرات الاستطلاع التركية مع أعضاء اللجنة الآخرين بمساعدة خبراء لتحليل الصور الملتقطة؛ فإنّ هذه الصور تُضعف رواية الحكومة بأنّ العملية حادث غير مقصود، لسبب أولي؛ وهو ذهاب وعودة المجموعة مع بغالهم من تركيا إلى العراق في المسار نفسه، ما يعني أنّها ليست مناورة منطقية تقوم بها عادة مجموعة تمرد مقاتلة، ولو كانت المجموعة من المقاتلين لكانوا انتشروا في المكان، وبحثوا عن مخابئ، للتقليل من الخسائر البشرية، أما ما قامت به هذه المجموعة فهو العكس؛ إذ زحفوا باتجاه بعضهم، وأمسكوا بعضهم بقوة، ولم يختبئوا، كانوا خائفين. كان أغلبهم أولاداً” .
لاحقاً، سوف تضيف وزارة الداخلية في تقريرها اسم القيادي في حزب العمال الكردستاني، فهمان حسين (الاسم الحركي باهوز أردال)، على الحدود، لإيجاد مبرر للقصف، رغم أنّ التقرير نفسه تضمن، وفق ضباط عسكريين؛ أنّ المنطقة كانت هادئة نسبياً، وليست منطقة نشاطات إرهابية، وأنّها منطقة تهريب.
في التقرير النهائي للجنة، في آذار (مارس) 2013، يظهر فجأة ادّعاء جديد حول مخبر مجهول، قام بمراجعة السلطات بعد 5 أيام من القصف، وإفادته بالتقائه في شمال العراق بمقاتلَين اثنين من ال “Pkk” قالا له إنّهما كانا ينويان الدخول مع المهربين إلى داخل الأراضي التركية، لكن لا يوجد أيّ دليل أو إثبات على ذلك، وبقي هؤلاء الثلاثة مجهولين. سوف يطالب مندوب حزب السلام والديمقراطية بصور تثبت ذلك، ويطالب بالصور الملتقطة من قبل الطائرات الأمريكية على الجانب العراقي، لكنّ طلبه جوبه بالرفض، وفي المحصلة؛ سوف يصدر التقرير النهائي بخلاف ما جرى من استنتاجات من قبل اللجنة، وتقرير خبراء تحليل الصور في شركة “Aselsan” ، وهي أكبر شركة تركية متخصصة في شؤون الدفاع، تابعة للجيش التركي، الذي لا يظهر أيّة مؤشرات على حركة غير اعتيادية للمجموعة، وسيقوم أعضاء اللجنة من الحزب الحاكم بتعديل النتائج التي توصّل إليها تقرير الشركة، كلّ ذلك من أجل تبرير القصف.
وبحسب كوركجو نفسه: “كانت مذبحة “أولوديري” عملية مقصودة وموجّهة، أخذت في الحسبان احتمال سقوط ضحايا مدنيين، هدفها القضاء على أحد قياديي ال “Pkk”، لو تحقق ما كانوا قد خططوا له، لما تم ذكر الضحايا المدنيين، بل وربما كانوا سيعتبرون أعواناً لل “Pkk”، وكان سيتم الاحتفال بالقصف كنصر”، وتضيف المؤلفة: “المسؤولون الأتراك كانوا في حاجة ماسة إلى نصرٍ كهذا؛ فالسياسيون كانوا قد أقسموا على الانتقام لمقتل 24 جندياً وجرح 22 آخرين، سقطوا في هجوم قام به ال “Pkk” في محافظة حكاري، في مساء 18-19 تشرين الأول (أكتوبر)”.
يجدر بالذكر، رغم استحالة التحقق؛ أنّ بعض الصحف المقربة من الجيش التركي سرّبت بعد الحادثة تقارير تُحمّل جهاز المخابرات الوطنية التركية “Mit”، وتحديداً رئيسه، هاكان فيدان، اليد اليمنى لأردوغان حتى اليوم، مسؤولية “توريط” الجيش بمعلومة خاطئة قصداً عن تواجد قيادي من حزب العمال الكردستاني، باهوز أردال، على الحدود في ليلة “القصف الخاطئ”، وكذلك أيضاً تشيع الأوساط الموالية لفتح الله غولن، رفيق أردوغان السابق، وعدّوه اللدود حالياً، (وهذا ما لم تتطرق له المؤلفة لأنّ نشر الكتاب سبق العداوة بين أردوغان وغولن التي ساهمت بنشر الملفات السرية والفضح المتبادل).
الحكومة تعرض تعويضاً دون اعتذار والأهالي يرفضون
الأهالي، الذين لم يكونوا يثقون في أيةّ لجنة تحقيق تركية، وطالبوا بأن تقوم لجنة حقوق الإنسان التابعة للاتحاد الأوروبي بتولي التحقيق، تفسيرهم للجريمة بسيط: “قتلونا لأننا كُرد”؛ هذا التفسير الشعبي البسيط، المبني على المعايشة المديدة، وعلى تاريخ حافل بحملات الإبادة والتدمير، يريد القول ببساطة متناهية في الدقة: “لو لم نكن أكراداً، ولو لم نكن مُستضعَفين وبلا حماية قانونية وإنسانية، لما تجرأوا على استباحتنا وقتل أولادنا بهذه البساطة”، ومن هذا الشعور أتى رفضهم للتعويض المادي.
تقول المؤلفة: “رفض أهالي الضحايا قبول أيّ تعويض هو أمر له علاقة بطريقة العرض، فقد اعتبروه ثمناً للسكوت أكثر من كونه تعويضاً عن ضرر، ولا شكّ في أنّ التعويض المادي المتعارف عليه يشمل هذا النوع من الأحداث، لكن يجب أن يترافق مع بعض الشروط؛ مثل أن يظهر الجاني الأسف العميق عن الفعل ويقدم الاعتذار، وبعدها يمكن الحديث عن التعويض المادي، وهذا ما لم يتحقق في هذه الحادثة، ما هو مهم بالنسبة إلى أهالي قريتي كول يازي وأورتاسو، كشف ملابسات القصف، بحيث يتم تجنب تكراره ، وما يريدونه في نهاية المطاف هو معرفة من الذي أعطى أمر القصف!”.
تقول إحدى السيّدات: ” تعلم الحكومة بأنّ الناس هنا فقراء؛ لذلك تعتقد بأنّها بالتعويض المالي تستطيع تسوية كلّ شيء، أفضّل أكل العشب على أن أقبل هذا التعويض من الحكومة”. سيدة أخرى اسمها زاهدة (45 عاماً)، أم لستة أولاد، اثنان منهم ذكور، الأكبر يبلغ من العمر 26 عاماً، انفجر به لغم أرضي قبل ثمانية أعوام، عندما كان ذاهباً لجمع الحطب، ومنذ ذلك الوقت لم يعد قادراً على إعالة العائلة، أما الابن الأصغر، أصلان، فقد قتل أثناء القصف. تقول زاهدة: “من أين نستطيع العيش؟ لا أدري. لكن لا، لم أتوانَ ثانية واحدة عن رفض عرض أردوغان بشأن التعويض، أنا أثق بأنّ الله سيساعدنا”.
آنذاك؛ كان رجب طيب أردوغان رئيساً للوزراء، أعلى سلطة تنفيذية في البلاد، وبأسلوبه الشعبوي المعهود والهروب إلى الأمام الذي يجيده، أشار ذات مرة إلى الحادثة بالقول؛ كلّ عملية إجهاض هي “أولوديري”؛ أي استغلال الحادثة في سياقات أخرى (المناقشات حول عمليات الإجهاض).
تُذكّر المؤلفة ب “اعتذار” أردوغان في البرلمان التركي، في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، عن مجازر “ديرسم” في ثلاثينيات القرن الماضي، حين قام الجيش التركي بعمليات قتل وحرق وتدمير وإعدامات جماعية بحقّ سكان منطقة ديرسم الكردية طالت الآلاف من المدنيين ونجم عنها تفريغ المنطقة، جاء ذلك الاعتذار غير الرسمي في سياق المزايدة على منافسه، كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، حين فُتح نقاش بمبادرة من عضو في الحزب نفسه، يندّد بتلك المجازر التي طالت آنذاك أقرباء من عائلته. التقط أردوغان هذا الموضوع ورأى فيه مادة جيدة للنيل من منافسه، قائلاً: “من يجب أن يعتذر ليس حزبنا، بل هو حزب الشعب الجمهوري، لأنّ أتاتورك هو مؤسس هذا الحزب، وهو كان وقتها رئيساً للبلاد “، هذا كلّ ما جاء في “اعتذار” أردوغان! تبدي المؤلفة اشمئزازها من هذه الطريقة الاستعراضية غير الصادقة، وتراها “طريقة مخجلة في كسب النقاط السياسية على حساب آلام آلاف الناس، الاعتذار الذي يحمل حسن النية يتطلب قبل كلّ شيء البدء بنقاش هادئ وصادق ومفتوح، حول ما حدث بالضبط؛ لماذا حدث؟ ولماذا يجب الاعتذار؟”.
في صيف 2013؛ التقى 6 من أهالي ضحايا مجزرة روبوسكي بأردوغان، بمبادرة وضغط من حزب السلام والديمقراطية، وزعيمه الشاب صلاح الدين ديمرتاش، الذين قبلوا مبادرة ديمرتاش على مضض، وتأسف المؤلفة بدورها على هذه المبادرة من ديمرتاش، الذي حمّل قبلها، مراراً، أردوغان شخصياً مسؤولية المجزرة، ووصفها بأنّها “تحمل توقيع أردوغان”، ووصف لقاء ذوي الضحايا بأردوغان بإيجابية، على عكس انطباعات أهالي الضحايا الذين قابلتهم المؤلفة؛ ” كانوا مصابين بخيبة أمل لأنّ أردوغان لم يقدم لهم أيّ شيء، حتى أنّ أحد المدعوين كان قد ترك الجلسة وخرج غاضباً ومحبطاً”.
ترى المؤلفة أنّ هذا تلاعب من الحركة السياسية الكردية، لكنّها تشرح أيضاً أنّ المبادرة جاءت في مناخات التفاوض بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية، ورسالة أوجلان المفتوحة في نيروز 2013، الداعية للسلام.
في كانون الثاني (يناير) 2014؛ قرّر المدعي العام العسكري أنّ الجيش لا يتحمّل أيّ ذنب عن القصف؛ لذلك لم تجرِ محاكمات، وهكذا تمّ طيّ القضية قانونياً، وبأمر من رئيس الوزراء “أردوغان”.
فضلاً عن التفاصيل الواردة عن المجزرة، وطريقة تعامل الدولة مع ملفها القانوني، وكذلك التقاط حيوات القرويين وأطفالهم خلال معايشة الكاتبة لسكان المنطقة الكردية، يشكّل الكتاب نافذة معرفيّة مهمة للغاية عن المسألة الكردية في تركيا والسياسات التركية المتعاقبة إزاء الكرد في البلاد؛ حيث لا تستكين للرواية التركية الرسمية في أيّ موضوع متعلّق بالكرد، وبحسّ إنساني مُرهف يُعلي من قضية حقوق الإنسان والشعوب قبل أيّ اعتبار آخر.
” ماتَ الأولاد”!
تعبير “خرافة النظام القضائي التركي” الذي جاء في العنوان هنا، يعود لمؤلفة الكتاب، بيدَ أنّها استعملته في سياق تحليلها لجانب محدد، يتعلق ببعض أوجه السماح للغة الكردية، و أَجِدهُ مناسباً تماماً للموضوع المحوري للكتاب، أي مجزرة روبوسكي؛ فهو خير تعبير عن آلية عمل القضاء التركي والقوانين التركية حين يتعلق الأمر بالأكراد والمسألة الكردية، رغم استقلالية القانون الموجودة فعلاً في تركيا (نزاهة الانتخابات على سبيل المثال)، إذا ما قورن الأمر بمحيطها (سوريا مثلاً)، إلّا أنّ هذا الهامش القانوني يتلاشى في حال تعلق الأمر بجرائم الجيش التركي، أو المنظمات السريّة، بحقّ الكرد، أو ضرورة فتح مجال شفاف لتناول القضية الكردية والاعتراف الصريح بوجود شعب غير تركي، يبلغ قوامه ما يقارب ال 20 ميلون نسمة، وما ينبغي أن يترتب على هذا الإقرار في المجال العام، سياسياً وثقافياً وقانونياً، فاستقلالية القانون تتحول هنا إلى خرافة.
أمّا عنوان الكتاب “ماتَ الأولاد”، فبَدت العبارة لي ضعيفة أدبياً، وتعبيراً إنشائياً غير مناسب في هذا الكتاب، الرشيق لغةً وتعبيراً ومهارة سردية، إلى أن وصلتُ إلى حديث المؤلفة مع سميرة: “إنه خريف 2012، وقد بلغت (سميرة) تواً سنّ الثامنة عشرة، توقّفتْ سميرة منذ بضع سنوات عن الذهاب إلى المدرسة، ومن المرجَّح أنه لن يطول الوقت حتى تتزوج، أحاول ألّا أكلّمها عن القصف الذي أودى بحياة شقيقها بدران، أي مجرد دردشة عادية، فسألتها: “هل تفكرين في الزواج؟” نظَرت إليّ بشراسة وقالت: “لن أتزوج أبداً”، فسألتها: “لم لا؟”، فأجابت: “ماتَ الأولاد”![1]