زیزي شوشة: شاعرة وصحفية مصرية، درست الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة.
على تخوم الماضي الزاخر بالثورات والانتفاضات الشعبية، ووسط حاضر، يخطو بعشم إلى مستقبل بلا آلام جديدة، تقف مدينة السُليمانية الكردية، بشموخ يُضاهي جبالها التي تطوقها من جميع الجهات، تقف، وهي قابضة على شيء متوهج، يلتمع في فضاء المدينة، له صوت فَرِح وأسيان في آن، إنها الهوية الكُردية؛ تقع في موضع القلب من الإنسان الكُردي، الذي يبدو أنه نُذر للإبادة طوال حياته، عبر سلسلة سيئة السمعة من عمليات الإبادة الجماعية، أشهرها عملية “#الأنفال#”، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشعب الكُردي.
لوحة الأنفال للفنان عثمان أحمد
ذلك فقط لأنه يريد أن يكون كُردياً؛ أن يتحدث باللغة الكردية، ويغني بالكُردية؛ أن يمتص هذه الهوية حدّ الموت، لأنه لا يريد أن يكون شيئاً آخر، مستنسخاً، ذائباً وسط القوميات الأخرى، لكن حسابات السياسة والمصالح، دفعت بهذه الهوية إلى مرمى الصراعات، فجاء التاريخ الكُردي مصنوعاً من الدّم والتراب، ولأنه شعب نُذر أيضاً للحياة، فلم يكن تاريخه قاتماً للنهاية؛ فأزهار النوروز، والمروج الخضراء في الجبال، وكذلك أغاني الحب والفرح، والانتصارات البطولية حتى وإن كانت صغيرة، كل ذلك يحدّ من قتامة المأساة الكردية، لتكون حياتهم بين فرح حَذِر وأسى يصعب التخلص منه أو إنكاره، لأنه راسخ ومتجذر في مدونة التاريخ الكُردي.
للوهلة الأولى تُباغتني السُليمانية بحريتها. أقول: “إنها المدينة الحرة”، فهي سريعاً ما تنفض عن روحها عباءةَ الماضي، وما يحويه من تاريخ قاتم وثقيل؛ إنها تُجرد ذاتها من كل ما يُعكر صفو هويتها الكُردية، تدفعنا طرقها الواسعة إلى المشي، والانطلاق، ومع كل مسافة نقطعها، نشعر وكأننا سنُمسك الأفق بأيدينا. جغرافيا عجيبة حررت المدينة، وأسرتها في الوقت نفسه؛ فهي تقع في قبضة الجبال، التي ربما كانت سبباً في عزلتها، لكنها قريبة من السماء، والأفق مضاء دائماً بشعلة الحرية. أقول مرة أخرى: إنها المدينة الحائرة، المتأرجحة، أشعر بأنها تود الانسحاب بعيداً عن هذه الأرض.
جغرافيا عجيبة حررت المدينة، وأسرتها في الوقت نفسه؛ فهي تقع في قبضة الجبال، التي ربما كانت سبباً في عزلتها، لكنها قريبة من السماء، والأفق مضاء دائماً بشعلة الحرية. أقول مرة أخرى: إنها المدينة الحائرة، المتأرجحة
تقاطعني صديقتي الكاتبة والمترجمة الكُردية خيرية شوانو، وتقول: إنها المدينة المتمردة. كل ثورات الكُرد انطلقت من هنا. تأخذني إلى متحف الأمن الأحمر، الذي يقع في مركز المدينة، وتحكي لي قصته: “هذا المتحف هو أحد الشهود الصارخة على جرائم نظام صدام حسين البائد، كان في السابق مقراً لمديرية الأمن العراقية، وقد سُمي بالأحمر كناية عن لون جدرانه، وتعبيراً عن دمويته، حيث كان مقراً لتعذيب وإعدامات الناشطين والمناضلين الكُرد. وأثناء الانتفاضات الشعبية التي انطلقت في جميع أنحاء كردستان في عام 1991، انتفضت السليمانية، وقامت قوات البيشمركة بمهاجمة المبنى لتحرير الأكراد المعتقلين. وفي ما بعد تحول هذا المكان الموحش، إلى متحف يُوثق جرائم نظام البعث، وكذلك بطولات البيشمركة والأكراد، الذين دفعوا حياتهم ثمناً للحرية”.
في حفل زفاف كرديّ
أنظر إلى جبل سراييفو متذكراً لبنان
واجهة المتحف، تحمل آثار القذائف والطلقات التي لا زالت محفورة فيها، وقد أصر القائمون على المتحف على الاحتفاظ بها، توثيقاً وتخليداً لقوة البيشمركة. أما ساحته فتضم عدداً من الدبابات والآلات العسكرية التي غطاها الصدأ. وفي الجنبات، تنتشر مجسمات واقعية مستوحاة من عمليات التعذيب، ومجسمات عديدة لضحايا عمليات الأنفال، وتوثق هذه المجسمات الخاصة بالأنفال، للضحايا بالأسماء والصور، وبعض حاجاتهم الشخصية، بالإضافة إلى خريطة تعرض بالتفصيل للأماكن المؤنفلة التي تمّت فيها عمليات الإبادة، وكذلك القرى التي تم تهجيرها، وبالمتحف ركن خاص يوثق لبطولات قوات البيشمركة، وكذلك يُوثق لأضرار الألغام التي كان يزرعها جيش صدام حسين في جميع أنحاء كُردستان، وتعبيراً عن الرغبة في الحياة، قام العاملون بالمتحف، بحشو فوارغ الصواريخ والقذائف بالأزهار والورود، في مفارقة مدهشة بين الحياة والموت.
قرّرت السّفر إلى محافظة “كردستان” الإيرانية لمعرفة كلمات أغنية
حملات الأنفال…المجزرة التي راح ضحيتها آلاف الأكراد على يد صدام حسين
رقص كردي
هذه المفارقة تُعبر عن روح السُليمانية، مدينة التناقضات؛ فهي حرة وأسيرة، تنساب الرقة في أنحائها، وكذلك الحدة والصرامة، التي تتجسد في الإمساك بكل ما هو كُردي، فسكان هذه المدينة لا يتحدثون لغة أخرى سوى الكُردية، مع استثناءات قليلة مع الآخر الأجنبي، سواءً كان عربياً أم أوروبياً، غير أن هذا التمسك بالهوية، المتمثل في اللغة، كأعلى تجليات الهوية، لا يعني الانغلاق، والعيش في جيتوهات منعزلة عن العالم، فثمة انفتاح مذهل من جانب الأكراد على الآخر المختلف، وهو ما بدا واضحاً في فعاليات مهرجان “گلاويژ” الثقافي، أهم فعالية ثقافية كُردية، تُقام سنوياً بمدينة السُليمانية، على مدار أكثر من عقدين، دون انقطاع.
هذه هي السليمانية بحريتها وآلامها، وصمتها المطبق، وصوتها الدافئ، وهذه أنا شاعرة مصرية، جئت إلى هنا، بدعوة من مهرجان گلاويژ لألقي قصائدي، وسط كاتبات وكتاب، عرب وفرس، وأكراد، وأوروبيين. وكانت ثمة حيرة، تسيطر علي؛ أي القصائد سأقرأها وسط هذا الحضور الذي ينتمي إلى قوميات مختلفة؟ وكانت هناك إجابة صريحة في الكلمة الافتتاحية لرئيسة مركز “گلاويژ” الثقافي الدكتورة ابتسام إسماعيل قادر: “في فترة الحرب الأهلية القذرة، والكلام البذيء، والمقالات الملتهبة النارية، في اللحظة نفسها جاء مهرجان گلاويژ، ليبني منبراً إنسانياً حراً، ليخلق للأدباء والفنانين اتجاهاً ثقافياً مرناً. إن الاتجاه السائد لصراعاتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية في تاريخنا القديم والقريب، كان صراعاً محتدماً خشناً، لكن أصبح الاتجاه السائد والمعروف في مهرجان گلاويژ، خطاباً منفتحاً وحوارياً، اتجه صوب السلام والتعايش. وقف هذا السلام وهذا التعايش، فوق المناطقية والجندرية والأيديولوجية والتشرذم، بل وقف كذلك فوق النزعة القومية، جاهد كثيراً من أجل إيجاد روح كونية ليكون باستطاعته الحوار مع الجميع من أجل الجميع”.
تحتل عمليات الأنفال، الجزء الأهم، وبالأحرى الأكثر مرارة وحزناً في ذاكرة كل كُردي، فلكلمة “الأنفال” وقعها المؤلم على نفوس الكرد، وتحديداً على سكان مدينة حلابجة، وهي حاضرة في كل حوار مع الأكراد، وفي كل شارع، وبيت.
إذاً نحن مشاركون في فعالية ذات أفق إنساني، متجاوز للنزعات القومية، والأيديولوجية، فضلاً عن أن مشاركتي كانت في أمسية شعرية، أي أنني سأقرأ شعراً، هذا الفن الذي يصبو إلى المشترك الإنساني بين البشر. أما گلاويژ الذي انطلقت دورته الأولى عام 1996، فيحمل اسم مجلة “گلاويژ” التي أصدرها الروائي الكردي الشهير إبراهيم أحمد في مدينة بغداد خلال أعوام 1939-1949، ويُعقد سنوياً كأول مهرجان ثقافي كردي متواصل دون انقطاع على مدى أكثر من عقدين، يتصل بأدباء وكتاب كرد وعرب وفرس وترك وعراقيين داخل وخارج العراق للحضور والمشاركة، وقد لبى دعواته أدباء كبار وأصوات بارزة من سوريا مثل الشاعر أدونيس، وإيران، وتركيا وأرمينيا، وأوروبا.
وجاء المهرجان في دورته الخامسة والعشرين (25- 28 أيار/مايو)، تحت شعار “25 عاماً… الموهبة والحرية تعانقان گلاويژ”، وكان الافتتاح باذخاً، ومنوعاً ما بين الفقرات الغنائية والموسيقية، التي جاءت تجسيداً لرسالة المهرجان في تأكيده على أهمية الحوار الإنساني المتجاوز للنزاعات، والطامح إلى التعايش، فكانت ثمة فرقة موسيقية من مختلف الجنسيات، وكان للشعر حضور كبير، وقد ألقت قصيدة الافتتاح الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت، وفي الأمسية الشعرية كان ثمة تنوع هائل بين شاعرات وشعراء: عراقيين وفرس، وأكراد، وفلسطينيين. وفي الندوات الثقافية كان سؤال الهوية محوراً أساسياً، بالأحرى منطلقاً لأي حوار، وحوله احتدم الجدل، خاصة في الندوة التي استضافت الكاتبة الروائية السورية الكردية مها حسن.
تحتل عمليات الأنفال، الجزء الأهم، وبالأحرى الأكثر مرارة وحزناً في ذاكرة كل كُردي، فلكلمة “الأنفال” وقعها المؤلم على نفوس الكرد، وتحديداً على سكان مدينة حلابجة، وهي حاضرة في كل حوار مع الأكراد، وفي كل شارع، وبيت، بل هي ذاكرة الكُرد المنذورة للألم.
لوحة الأنفال للفنان عثمان أحمد
والأنفال حسبما يُعرِفها الفنان التشكيلي عثمان أحمد في الكتالوغ الذي يضم لوحاته التشكيلية “هي سلسلة من الحملات العسكرية شُنت من قبل النظام البعثي البائد ضد شعب كردستان عام 1988. قُتل أكثر من 100000 مدني، ومنهم من دُفن حياً. دُمرت آلاف القرى وعدد من القصبات والأقضية والنواحي تدميراً تاماً”.
والفنان التشكيلي الكردي عثمان أحمد، كان أحد الشهود الناجين من عمليات الأنفال، على إثرها، فقد عينيه لفترة من الزمن، قبل أن يسترده بعد عملية جراحية في لندن. وقد كرس حياته وفنه، لتوثيق هذه العمليات الإجرامية، في لوحات تشكيلية، رسمها بالرصاص والفحم فقط. فهو يقول: “إن الرصاص هو الأكثر تعبيراً عن المجازر التي حدثت في عمليات الأنفال، فمن المخزي، بل من العار أن أستخدم الألوان. كنت مصراً على الرصاص والفحم، لأننا ضُربنا بالأسلحة الكيميائية، فكان لا بد أن أرسم بمادة قاتمة، وقريبة من السلاح الذي استخدمه نظام الدكتاتور صدام حسين للقضاء علينا”.
عاش عثمان أحمد لسنوات طويلة في السجن، وبعد خروجه من السجن عاش مشرداً في العديد من البلدان مثل إيران وأوروبا، وقبل نهاية حديثنا، كان لا بد أن يعود للأنفال مرة أخرى، وهو هذه المرة يستدعي إحدى مقولات الشاعر السوري أدونيس الذي يحظى بشعبيه وجماهيرية كبيرة هنا في السليمانية وسط الشعراء والمثقفين؛ يقول عثمان وهو يبكي ويضحك في آن واحد: “أدونيس يقول: كنت أتمنى من الله ألا يُطالب الكرد بقراءة القرآن، لأنهم عندما يصلون إلى سورة الأنفال، سيموتون جميعاً”.
السليمانية التي رأيتها مدينة الحرية، قد وصفها صدام حسين بالمدينة الصعبة، و”رأس الحيّة” هكذا قال أدونيس عن عمليات الأنفال، أما السليمانية التي رأيتها مدينة الحرية، فقد وصفها صدام حسين بالمدينة الصعبة، وفي رواية أخرى ب”رأس الحية”، وهو وصف يفتخر به أهل السُليمانية، لما يعكسه من قوة المدينة وصلابتها. لكنها بالنسبة إليهم “مدينة الشعراء والفنانين”، بل هي العاصمة الثقافية والفنية لكردستان، وقد بدا ذلك واضحاً في أسماء الشوارع، التي تُخلد أسماء الشعراء والكتاب والمؤرخين: نالي، محوي، كردي، وبيرميرد، كوران، وفائق بيكس، وشيركو بيكس، كما أن صورهم تحتل واجهة وسط المدينة، وتزين جدران مقهى “الشعب”، وهو مركز تجمع الأدباء والمثقفين، وهو شبيه بمقهى “الحرية” بوسط القاهرة، بصخبه وازدحامه وحيويته.
مقهى “الشعب” في السليمانية
والسُليمانية هي مدينة حديثة النشأة، تأسست في عام 1784 على يد الأمير الكُردي إبراهيم باشا بابان، وسمى المدينة بالسليمانية نسبة إلى اسم والده سليمان باشا، أحد أمراء سلالة بابان التي كانت لها إمارة خلال تلك الفترة في منطقة السليمانية، وفي القرنين التاسع عشر والعشرين الميلادي، كانت السليمانية مركزاً للحركات السياسية الكردية، ومنها أعلن الشيخ محمود الحفيد، ثورته ضد الاحتلال البريطاني عام 191.
المدينة محاطة بسلسلة من الجبال: أزمر وكويزه شمالي شرق المدينة، ويقع جبل “به رانان” في جنوبها، وبها سهلان من أخصب السهول في الشرق الأوسط، هما: شهرزور وبيتوين، بالإضافة لبعض المقاصد السياحية مثل: شلالات أحمد آوي، وبحيرتا دوكان ودربندخان.
تدفعنا جبال السليمانية الخضراء، ومروجها البديعة، وأشجارها الباسقة، إلى الدخول إلى هذا العالم؛ تجذبنا من أيدينا، لنتحرر من كل القيود ومن كل ما يُعذب النفس، وقبل أن أضيع وسط هذا الجمال الصامت، جئت إلى القاهرة، وشيئاً مني هناك في السليمانية؛ هذه المدينة السخية التي احتضنتنا لأسبوع بحبٍ جارف، حيث تركت قصائدي مترجمة إلى اللغة الكردية، ترجمها الشاعر والروائي هيوا قادر، ودققتها الكاتبة والمترجمة خيرية شوانو، ووزعت النسخة الكردية لمختارات من قصائدي في المهرجان. وهكذا جئت إلى القاهرة، تاركة جزءاً مني هناك، حيث شِعري يعيش حياة أخرى في مدينة الشعر والثورة.[1]