د. علاء الدين ال رشي - مدير المركز التعليمي لحقوق الانسان / ايزدينا
يعرَّف أفلاطون الإنسان بأنه حيوان سياسي ويفسر المفكر الإيراني علي شريعتي تعريف أفلاطون السياسي ب ( الرؤيا والميل الذي يربط الفرد بمصير المجتمع الذي يعيش فيه وهذه الصلة هي موضع تجلي الإرادة والوعي والاختيار عند الإنسان ).
وعلى الرغم من مقارنة أفلاطون بالواقع المعاش والمشهد المنظور إلا أن الواقع يعكس حشرية الإنسان سياسياً ونقصد بالحشرية التدخل المقصود على الرغم من عدم الدراية بهذا العلم مما يعني فقد الوعي السياسي والميل إلى تحويل السياسة إلى ثرثرة اجتماعية.
يتضح التباين الواسع بين الرؤية السياسية المتعمقة ومجالس الغيبة والنميمة والتخوين والسب والتشهير المشوقة بما حصل في كركوك نموذجاً.
إن حادثة كركوك ودخول قوات الحشد الشيعي إليها وتحالف بعض الأحزاب الكوردية مع خصوم الشعب الكوردي، هذا الحادث المؤلم أظهر المعالم الرئيسية لما احتفظت به خزائن الشعوب العربية والكوردية والإسلامية في غالبها من سذاجة وغفلة وتسطيح.
من الذي دفع بشعوب متباينة في قومياتها إلى إعانة خصمها عليها؟
وعلى الرغم من اختلاف المشروع العربي الإسلامي / الكوردي، إلا أنهما يتشابهان تشابه النظائر بمعنى أن كل جزء بأحد الطرفين يشير إلى جزء يقابله في الطرف الآخر.
وعلى الرغم من أن إعلان استقلال كوردستان كان فرصة مواتية لولادة دولة بعيدة عن الاحتواء المذهبي والتسييس الإيراني الذي أظهر عداوة واضحة للشعوب العربية وميولات استعمارية، إلا أن العرب والترك في غالبهم توافقوا على وأد هذا المشروع وبدعم أمريكي إيراني تركي حال دون نهوض قوةٍ واعدةٍ تنفض عن نفسها غبار الركود وبلادة الوخم.
لقد استطاع الموروث السياسي الذي بثته الأنظمة في جسد الشعوب من تسييد:
1- (العقل الكيدي).
2- (التناحر الطائفي).
3- (صراع القوميات).
بل إن الفعل المسيِّس لإرادة الشعوب قد أجهض صورة لم تكتمل لدولة في عمقها عربية إسلامية وإن كان صوتها كوردية غير عربية.
لم يكتشف العرب حتى هذه اللحظة أن السياسات التركية كانت وما زالت بعيدة عن مصالح العرب والكورد وأن العقل السياسي التركي تاريخاً وحاضراً يفكر في التسيد والتفرد والازدراء لسائر المكونات.
يقول الأستاذ محمد الغزالي (الخلافة عندما تولاها الجنس التركي أصبحت شبحاً عليلاً)
(الخلفاء الأتراك كانوا أقرب إلى السلاطين الجبابرة منهم إلى أمراء المؤمنين وحرّاس اليقين ودعاة الحق و هداة الخلق).
والأجدر بي قبل أن أمضي في الحديث عن مكائد الآخرين علينا أن نتحدث عن (الورطات الذاتية) التي من الممكن أن تكون نقطة الابتداء التي منها نسير، وقد تكون من الفروض التي ينبغي أن نتوضأ ونكون على طهارة نفسية ووجدانية عند تلاوتها، فما هي تلك النقاط التي علينا أن نتأمل فيها؟
وهذه النقاط هي الوراء في كتابتي هذا المقال مستعيراً وصفاً علمياً للإمام أبي حامد الغزالي وهو إلجام العوام عن علم الكلام.
إن عوام هذا الزمن هم كتبة الفيس بوك، وهم أيضاً كثرة من الذين يهرفون بما لا يعرفون، إنهم الرعاء غَوْغاءِ النَّاسِ، وهم من يتعلَّم منهم أسوأ الألفاظ لكنهم في زماننا عوام لهم شهادات ومنابر إعلامية ولهم صلات دولية وقنوات عديدة لتشكيل الرأي العام، ولكنهم لا يتحدثون بلغة الزعران والشوارع بل بلغة الإثارة ولغة التحريض والقتل والمناكفة والتحريض وتزييف الوعي وتأطيره في القتل والتعصب وذلك من خلال نقاط عديدة:
النقطة الأولى: العدو التاريخي لن يكون نصيرك يوماً ما...
كان لأسلافنا مبادئ معينة يحتكمون إليها (من جرّب المجرب عقله مخرّب).
والتجربة الإنسانية مرآة لمقدس نبوي قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين.
لا نكتشف شيئاً جديداً للقارئ عندما نذكر هذا ولكنه للأسف يغيب في الواقع عن الكثيرين، فالعرب والترك والكورد والإيرانيون مازالوا يرون أن الحضن الدافئ ليس في إقامة جسور تواصل فيما بينهم، وإنما في تعميق الخلافات ورفع جدران العزلة بينهم، وبالطبع لا أشير هنا إلى السياسات الخاطئة لهذه الدول، وإنما من أحكام الشعوب التي بنيت على سلوك يلتزم الرذيلة وينبذ الفضيلة، فالعقل التصغيري بين الشعوب فيما بينها هو المسيطر وتصغير كل قوم لقوم هو السائد، وتخوين كل قيادة لقيادة معروف، والمشكلة الحقيقية أنهم يقومون على تعيير بعضهم البعض والكلّ في الهوا سوا، فلا تكاد شعوب المنطقة ولا سياسيوها يفلتون من قبضة الإعجاب بالخصوم وتحويل الأعداء إلى أصدقاء نكاية بالطرف الآخر.
ومع أن هذا الأمر سياسياً وتاريخياً يمكن أن يفهمه الكثيرون، فالتاريخ القديم يذكر مثلاً تبادل السفارات بين شارلومن وهارون الرشيد وعلاقاتهما الودية كمحور إسلامي مسيحي، موجه ضد محور إسلامي مسيحي آخر مكون من الإمبراطورية البيزنطية والحكم الأموي في الأندلس، فالتحالفات السياسية والسياسات الخاطئة والخيانات المتبادلة لم تسلم منه أمة ولا زعامة ولا قوم، ومن شذّ فحبل المشنقة والتشريد مصيره.
النقطة الثانية: التخوين والسبّ والتشهير
وهذه النقطة تُعَد مكمّلة للنقطة السابقة، فظواهر العصبية والتمذهب والتطرف واللهجة الشديدة التي تبدي السطوة ونبذ الهويات الأخرى والاستئثار بها، كلها سهامٌ استحقارية تداولها العرب والكورد ضد بعضهم البعض وكان المستثمر إيرانياً تركياً.
رفع بعض الكورد أعلاماً لخصوم العرب والكورد التاريخيين، وبدأ العوام من الطرفين في تلفيق التهم والقصص المصغرة لكل طرف والتي تقدح بكل تلك الشعوب، وعمل على توسيع ذلك أعلام ومشهورين وفي مقدمتهم فيصل القاسم الذي استثمر كل صغيرة لزج الكورد في حالة اختناق أخلاقي.
إن رفع العلم تصرف غير مقبول لدولة مستعمرة، ولكن هل يمكن أن نأخذ تصرفات فردية كحالة عامة، والغريب أن العرب روجوها على الكورد، وقام الكورد أيضاً بتبرير ما لا يبرر وكان سيد القوم هم الجهال من الطرفين.
رفع بعض الكورد علَم خصوم العرب وتنصل الكورد من عداوتهم المشتركة مع العرب لهذا العدو، ولم يتساءل الكوردي هل حقاً سيصدق العدو التاريخي في وعوده له؟
وهل حقاً سيعينه على مشروعه؟
وفي طرف آخر لم يتساءل العربي لماذا أقدم الكوردي على ذلك؟
وبكل صفاقة وجرأة وبكل وقاحة وتفاخر، عمد الكثير من الفريقين إلى نبذ خطاب التسامح والتعايش السلمي، بل سيّدوا عقلية التخوين والاستحقار والاستهتار بدين وقومية كل شعب لشعب.
وفي جانب آخر قد يتبادر إلى الذهن سؤال:
كيف يجتمع التركي مع الإيراني رغم اختلاف المذهب على خصومة الكوردي رغم توافقه المذهبي مع التركي؟ وكيف صفق العرب- الكثير منهم – للإنجاز التركي الإيراني وهو يقف في وجه المدّ الكوردي؟
وهنا لا بد من التنويه إلى سقوط الرابطة الدينية بين الشعوب وسيادة الفعل السياسي على العقل الجمعي المجتمعي، فالسياسة تأخذ من دم شعوبها ثمن نفاق مواقفها وتستعين بأموال الناس لشراء أدوات التعذيب وأساليب الإهانة، وتدفع الشعوب أجور جلّاديها.
النقطة الثالثة: تديين الخلاف السياسي
إن الرموز الدينية سقطت أمام المافيا السياسية التي حوّلت القومية إلى دين وجعلت من القومية سكيناً ينحر الدين، وجهّلت أتباع الديانات والقوميات فأفقدتهم الوعي السليم والمنهج العقلاني في التعامل مع الواقع، بل أسرتهم إلى أغلال كابحة من التراث الماضي وأطلقت سلبياته المدمرة، كلُّ جاهلٍ بما لديه فَرِح.
إن الحركة العربية الكوردية مطالبة اليوم بالارتفاع عن مستوى العوام المتناحر إلى مستوى أخلاقي وتكوين ذائقة نفسية ومستوى فكري عال.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) ﴾ ( سورة الحجرات)
هل سيقر العرب والكورد باستعادة علاقاتهم التاريخية على مبادئ معاصرة تحفظ الحقوق وتحول دون اعتداء طرف على آخر ودون المساس بقيم وقومية ودين الآخر، وكذلك عدم تحويل الدين إلى قومية والقومية إلى دين ينكل بالأديان، هذا هو المأمول من النخبة وعلينا أن نكف العوام عن أي تحريض على الدم، التجاهل لا يحل الأمر، وإلباس الإسلام عباءة القومية لا يحل الأمر، وكذلك تديين السياسة، فالإسلام دين القيم وليس إلغاء القوميات، وكذلك السياسة لا دين لها فارتفعوا.[1]