لم يَرُق لنخب عربية واسعة قرار أكراد العراق إجراء استفتاء حول استقلال إقليم كردستان العراق. والحال أن المرء قد يشهر في وجه الأكراد عشرات الحجج والوقائع التي تطرح تساؤلات حول الخطوة المزمع أن يُقدموا عليها، وهي في عدد منها محق وصلب، لكن النخب العربية التي صدر جزء من هذه الحجج عنها، لم تكتم أن تحفظها ورفضها صادران عن شعورها بأن ذلك جزء من مخطط ل «تقسيم العراق»، وربما «تقسيم المنطقة» بأجمعها. والتقسيم يعيدنا إلى «الوحدة»، والأخيرة تعيدنا إلى أحد أضلاع المثلث البعثي الأثير، وهو في كل حال، الضلع الذي يشترك فيه البعث مع أشقائه، أحزاب العروبة التي جثمت وتجثم منذ أكثر من نصف قرنٍ على صدور مجتمعاتنا.
والحال أن العرب بنخبهم وأحزابهم وجماعاتهم، يقرون بأن نتائج الاستفتاء محسومة، ذاك أن الرأي العام الكردي منجذب على نحو حاسم إلى فكرة الاستقلال. فكيف لنخب وأحزاب وجماعات تُقر برغبة جماعة في الاستقلال، لكنها لا تقر بحق هذه الجماعة فيه؟ ألا يطرح ذلك تساؤلات حول حقوق الجماعات العربية في الاستقلال؟ وماذا عن حقوقنا بفلسطين؟ أليس حق الأكراد بدولة يوازي الحق الفلسطيني بدولة؟ مع تفصيل إضافي هنا، يتمثل في أن العرب كانوا جزءاً من منظومة منعت الأكراد من إقامة دولتهم واضطهدتهم، في حين لم تكن للأكراد ناقة ولا جمل في المأساة الفلسطينية.
ليس تفصيلاً بسيطاً أن نبدأ فكرتنا حول الدولة الكردية العتيدة بأننا «نعلم أن الأكراد سيصوتون لمصلحة الاستقلال»، وأن ننهي الفكرة بأننا ضد هذا الاستقلال! هذا يعني أننا ضد حق المجتمعات في تقرير مصيرها، وهذا يطرح تساؤلات موازية حول حقوقنا وقضايانا.
لا حساسية عربية ناضجة وكاملة حيال ظلامة الجماعة الكردية. في العراق، اعتراف بظلامة جماعية شملت الأكراد وضمتهم إلى الضحية العراقية بصفتها «الضحية الأمة»، وهي بذلك أنكرت عليهم حقيقة «الظلامة القومية» واعترفت بظلامتهم الوطنية. والأمر ذاته تكرر في سورية مع اختلافات في الشكل وفي الظروف. فصحيح أن البعث في البلدين ظلم الجميع، لكنه ظلم الأكراد لأنهم عراقيون أو سوريون، ولأنهم أيضاً أكراد. الظلم هنا مضاعف.
لم تصدر مراجعة يُعتدّ بها عن مسؤولية عربية ثقافية واجتماعية عن المأساة الكردية، فالعرب ضد «سايكس بيكو» وضد معاهدات ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها لأنها قسمت لبنان وسورية، أو لأنها ضمت لواء الإسكندرون إلى تركيا، لكنهم معها في أنها حرمت أكراد العراق من حقهم في دولة مستقلة. هذه الحساسية الانتقائية حيال «المؤامرات الدولية» لها جذورها الثقافية والاجتماعية، والانحياز اليوم إلى حق الأكراد في تقرير مصيرهم كان فرصة للقول أن مراجعة بدأت، أو يجب أن تبدأ، لهذه الممارسة.
كل هذا لا ينفي حقنا بمساءلة الدولة الكردية العتيدة عن الكثير من إخفاقات التجربة التي باشرها الأكراد منذ 1991. والحال أن مراقباً لا يمكن أن يخفى عليه حين يزور أربيل شطط التجربة، وتحولها إلى مشهد منسجم مع مشاهد التجارب العربية لجهة فساد النخب الحاكمة ومظاهر الاستبداد، والاندراج في تحالفات إقليمية لا تمت إلى الحقوق والطموحات الكردية بصلة.
زائر أربيل سيشعر بخيبة من دون شك، ذاك أنه كان يؤمل أن يستفيد الأكراد من تجارب المحيط، لا أن تستحضرها قيادتهم ودولتهم بصفتها نموذجاً. لكن خيبة الأمل هذه لا علاقة لها بحق أصلي سابق على كل شيء، وهو حق الأكراد في تقرير مصيرهم. وأن تُقدم نخب عربية على التمسك بهذا الحق، فهذا يُعزز حقها في مساءلة القيادة الكردية عن اندراجها في ثقافة السلطة العربية. المسألة تبدأ من هنا، أي من أن الأكراد، أو معظمهم، يريدون الاستقلال، وهنا نكون أيضاً قد أعفينا العرب من اعتذارٍ على ثقافتهم أن تتسع له، فهم من بين أقوام أخرى، كانوا وراء المأساة الكردية. وبعد هذا الاعتراف، وهذا الاعتذار، سيكون في إمكاننا أن نواجه الحزبين الكرديين الرئيسين الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني عن أسباب تحالف الأول مع تركيا والثاني مع إيران، وعن استدراج حرب إقليمية إلى الإقليم (الدولة) بسبب نزاع على حصص وعلى مناطق وعلى نفوذ. يصير في وسعنا مساءلتهم عن الفساد وعن التضييق على الحريات وعن التحول إلى نموذج الحزب الحاكم والحزب القائد. أما استحضار هذه الآفات للقول أن لا حق للأكراد بدولة مستقلة، فهو يستدرج قولاً موازياً من أن لا حق للعراقيين بدولة، ذاك أن فساد الحكومة المركزية في بغداد مضاعف، وانقساماتها أعنف، والأمر ذاته يصح على حق اللبنانيين والسوريين بدولتيهم.
أن ننطلق في نقاشنا التجربة الكردية من مسلمة حق الأكراد، اليوم قبل الغد، في دولة مستقلة، وأن نقف معهم في مسعاهم هذا، يجعل من كل تحفظاتنا عن تجربتهم أمراً منطقياً وأخلاقياً. لا بل أن الحقوق العربية في المناطق المتنازع عليها في الموصل وكركوك تصبح أكثر جلاء طالما أن وراءها مُطَالِبٌ أجرى مراجعة لدوره في ظلامة صار عمرها أكثر من قرن.
الأسلحة المستعملة في السجال العربي - الكردي حول استقلال كردستان العراق، كاشفة حقيقة أخرى، وهي وعي الجماعات والنخب المساجلة لحقيقة الظلامة، لكن وعي الظلامة لا يُفضي إلى رفضها، وهذا ينطوي على كارثة أكبر. ذاك أن الظلم هنا صادر عن ثقافة لا تُنكره، وهي في أحسن الأحوال تقبله وتحيله إلى واقع أوسع. ف «الأكراد كانوا جزءاً من مأساة الأرمن ولم يُشيطنوا على دورهم فيها»، وهذا أحد الأجوبة العربية، وهو بدوره دعوة للأرمن إلى أن لا يطالبوا الأكراد بمراجعة.
لو كنت عراقياً عربياً، أو سورياً عربياً، لما تجرأت على الوقوف في وجه حق الأكراد في تقرير مصيرهم. أما لو كنت فلسطينياً، فأجدني محارباً إلى جانب الأكراد، ذاك أن حقي بفلسطين لا يزيد عن حقهم بكردستان، وإسرائيل لم تكن أشد ظلماً من البعثين، ومن سلطتي الاحتلال في طهران وفي أنقرة.
المصدر | الحياة.[1]