داريوس الدرويش
يتطوّر العالم من حولنا، فيما تبقى الأحزاب الكُردية تراوح في مكانها، فلا هي تغيّرت وطوّرت آليات عملها، ولا أفسحت المجال لغيرها من أجل تقديم البديل، والنتيجة هي ابتعاد المجتمع عن السياسة، وبالذات فئة الشباب التي وصل فيها عدم الاهتمام بالشأن السياسي، ذاك الحد الذي يجعل من استحضار ذكرياتٍ قرأناها عن ثورة 1968 في فرنسا، وأخرى عشناها إبّان ثورة 2011 في سوريا، وتطبيقها على الواقع الحالي، ضرباً من الخيال.
لا شكّ أنه لا يمكن دراسة أسباب هذه الظاهرة، إلا بأخذ الكثير من العوامل بعين الاعتبار، منها تلك الناشئة بسبب البيئة السياسية المحيطة، وأخرى بسبب أنماط وآليات العمل الحزبي الكردي في سوريا.
إلا أن العامل الذي أطلق هذه الظاهرة، هو “اختفاء الثورة” السورية ومبررات المشاركة فيها، إضافةً إلى غياب البديل الحزبي المناسب الذي يستطيع تقديم برنامج سياسي مواكب للتطورات، ضمن ظروفٍ سياسية يستطيع العمل فيها، وفق آلياتٍ جديدة تختلف عما اعتادت عليها الأحزاب الكردية التقليدية، سواء في الحكم أم في المعارضة.
“اختفاء الثورة” السورية بعد أقلّ من عامٍ على انطلاقها، دفع الكثير من الشباب الكُرد المشاركين والمنظّمين للمظاهرات السلمية إلى التوقّف عن نشاطهم السياسي، وما استمرار الكثير منهم في هذا النشاط حتى منتصف عام 2012، إلا نتيجة للزخم الذي ولّدته الثورة السورية في أيامها الأولى.
وكان لمجيء الإسلام السياسي والعسكري محل الثورة السلمية من جهة، وتحرّر المناطق الكُردية من سيطرة النظام من جهةٍ أخرى، دور رئيس في نزع المبررات للاستمرار بتلك المظاهرات، والتي ترجمت إلى تحوّل في طريقة تنظيم الشباب لأنفسهم، ليس نحو التنظيمات السياسية التي لم تستطع استقطاب أيّ عدد يذكر منهم؛ بل نحو منظمات المجتمع المدني التي لا يمكن اعتبارها أكثر من “تحضيرٍ للسياسة” بدل السياسة نفسها.
مع نهاية عام 2012، وبعد اختفاء الثورة السورية، واجه الكُرد عدة مخاطر هدّدت حريتهم، وشكّلت مواجهة هذه المخاطر بالنسبة لفئةٍ كبيرة من الشباب، فرصةً للمشاركة في ثورةٍ أخرى تمكّنوا بالمحصلة من تشكيل الرد المناسب عليها عسكرياً.
إلا أن مشاركة هذه الفئة في الحياة السياسية الداخلية (على اعتبار أن الفعل الكُردي العسكري كان موجهاً للخارج)، بقيت دون تأثير يذكر، وذلك نتيجة لجمود البرامج الحزبية وعدم تقديمها أيّ حافز جديد يشجّع الشباب على الانخراط في صفوفها.
فرغم سيطرة “الكلام الكبير” على برامج جميع الأحزاب الكُردية في سوريا، إلا أن حديثها المتكرر عن تحقيق الفيدرالية والإدارة الذاتية؛ لم يعد مقنعاً لشبابٍ يعيشون فعلاً في منطقة تتمتّع بنوعٍ من الحكم الذاتي، وكذلك لم يعد مقنعاً حديثها المتكرر عن مواجهة الممارسات والمشاريع العنصرية للأنظمة السورية، في حين أن الكُرد باتوا يحكمون أنفسهم منذ نحو عقد من الزمن.
لذا، فإن كان ثمّة مكان لهذه القضايا في البرامج السياسية للأحزاب الكردية، فهي قضايا تُحلّ عن طريق عمليةٍ بطيئة وطويلة من المفاوضات مع السوريين من جهة، لتثبيت الحكم الذاتي قانوناً، ومع مكونات المنطقة من جهة أخرى، لضمان مشاركتهم في الحكم وعدم تعرّضهم لممارساتٍ ومشاريع عنصرية مماثلة، وبكلماتٍ أخرى: هي عملية “مملّة” لا جاذبية لها.
وعدا عن أن هذه القضايا التي تُصرُّ الأحزاب الكُردية على الاستمرار في طرحها وتبنّيها، لم تعد من الأمور الملحّة التي يمكنها تحفيز الشباب على الانخراط في العمل السياسي، فإن برامجها تفتقر كذلك إلى الكثير من القضايا الأكثر إلحاحاً في الوضع الراهن، كالديمقراطية وشكل نظام الحكم في شمال شرقي سوريا ومحاربة الفساد والبطالة والقوانين الناظمة للحقوق والحريات العامة، كقانون الأحزاب وقانون الإعلام وقانون العمل… إلخ.
تلك القضايا، ما كانت لتبرز أهميتها لو لم يكن الشعب الكُردي قد نال حريته عملياً، ولكنه بانتظار أن “تسمح” له الأحزاب الكُردية بممارستها، فما معنى الدعوة للديمقراطية في سوريا، في حين أن الحزب الحاكم ومعارضته في المنطقة الكُردية، لا يتحدثان سوى عن تقاسم السلطة؟ وما معنى الحديث عن إلغاء الممارسات العنصرية للحكومات السورية المتعاقبة ضد الشعب الكردي، في حين يستمر التمييز في الوظائف ضمن الحكومة المحلية على أساس الانتماء الحزبي؟.
في حالٍّ كهذه، كان من الممكن توقّع نشوء أحزاب جديدة تستطيع إعادة تسييس المجتمع بشكلٍ عام، وفئة الشباب بشكلٍ خاص، وعندها؛ ما كان لنمط الأحزاب الحالية القدرة على الاستمرار في فرض سيطرتها على الساحة السياسية، وذلك لولا توفر عاملين مُضرّين بالبيئة السياسية بشكلٍ عام: غياب الانتخابات من جهة، وكثرة الأحزاب من جهة أخرى.
فغياب الانتخابات، يجعل من أيِّ مطالب للتغيير مجرد كلمات ليس لها أيّ تأثير فعلي، ما لم يكن التغيير المنشود يتحقّق عن طريق العنف، ورغم ما يشكّله العنف من حافز لمشاركة الشباب، بدليل أن أعضاء المنظمات العنفية بمعظمهم من الشباب، إلا أنه ليس حافزاً عاماً، إذ أن معظم الشباب ليسوا أعضاءً في المنظمات العنفية، لذا يعتقد الكثيرون أنه من الأفضل لهم الالتفات إلى شؤونهم الخاصة، بدل الحديث الذي لا يمكنه إنتاج شيء.
إضافةً إلى ذلك، فإن المانع الأكبر أمام المجتمع والشباب للانخراط في الأحزاب وممارسة العمل السياسي، هو كثرة الأحزاب الكُردية إلى الحدّ الذي جعل منها مثار السخرية والتهكّم في الأوساط الشعبية.
إذ تكبح هذه الكثرة، كل من يريد تحريك المياه السياسية الراكدة وتدفعهم للتفكير عشرات المرات قبل الإقدام على تشكيل حزبٍ جديد في مجتمعٍ لم يعد يرى في الأحزاب، إلا أدوات ل “البروظة” الاجتماعية، ومجرد تشكيلات مجهرية تستخدمها الأحزاب الكبرى، سواء كانت من تلك التي تدور في فلك ال#حزب الديمقراطي الكردستاني# أو حزب الاتحاد الديمقراطي، وذلك لإضفاء شرعية غريبة على خطها السياسي، تعتمد على عدد الأحزاب التابعة لها.
“يعاني” الكُرد في سوريا من غياب الانتخابات وكثرة أحزابهم السياسية، كما أنهم ليسوا في وارد تدمير حكمهم الذاتي الذي نالوه بالكثير من الدماء والتضحيات من أجل تحقيق مطالب حياتية محلية، لذا يلجأ الكثير من الشباب إلى أدوات التعبير السياسي الفردية، مستغلين انتشار منصات التواصل الاجتماعي وتعدد وسائل الإعلام المحلية.
ورغم تأثير هذه الأدوات في قضايا تفصيلية معينة، إلا أنه لم يسبق لها في أيّ مكانٍ في العالم أن حلّت محل الأحزاب السياسية وأدوات التعبير السياسي الجماعية، لذلك لا يمكن اعتبارها أكثر من متنفَّس مؤقّت، إلى حين تغلّب المجتمع على المعيقات التي تواجهها فكرة التنظيم الحزبي.[1]