برزت المسألة الكردية خلال الأيام الأخيرة من يوليو/ تموز 2012 إلى صدارة تطورات الثورة السورية. لم يكن الأكراد غائبين عن الثورة وتطوراتها، بالطبع، ولكن أحداث يوليو/ تموز جعلت من مصير الأكراد السوريين، والأكراد في عموم المشرق، مسألة بالغة الخطورة، من جهة علاقتها بمصير سورية، من جهة، والصراع الإقليمي الناجم عن تعقيدات الأزمة السورية، من جهة أخرى.
منذ بدأ النظام السوري في فقدان السيطرة على بعض المدن والبلدات خلال العام ونصف العام الماضي، تواردت تقارير حول قيام مجموعات كردية سورية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حرب عصابات مؤلمة ضد الدولة التركية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، بدور مساند لقوات النظام ووحداته الأمنية، سيما في حلب وريفها، حيث يتواجد الأكراد بصورة صغيرة ومتفرقة. ولكن النصف الثاني من يوليو/ تموز، شهد انحساراً ملموساً وسريعاً لسلطة دمشق عن عدد كبير من المعابر الدولية مع العراق وتركيا، وعن مساحات حضرية وريفية واسعة في الشمال الغربي والشمال الشرقي، كما في محافظة دير الزور شرق البلاد. واللافت أن قوات النظام، التي تفادت منذ بداية الثورة التعامل بعنف مع مظاهرات المدن الكردية في محافظة الحسكة، الشمالية – الشرقية، انسحبت من عدد من مدن وبلدات المحافظة بلا قتال يذكر وسلمتها لمجموعات كردية منظمة.
هذه قراءة لخلفيات المسألة الكردية في بعدها السوري، وما يمكن أن ينجم عنها من تعقيدات.
$أكراد سورية وقواهم السياسية$
ليس هناك من أرقام قاطعة لعدد الأكراد في سورية. الرقم الأكثر تداولاً أنهم يشكلون زهاء عشر السكان، أو ما يقل أو يزيد قليلاً عن 2 مليون نسمة؛ تعيش أغلبيتهم في محافظة الحسكة، وينتمون جميعهم تقريباً للإسلام السني. ولكنَّ هناك تواجداً كردياً قديماً في مدينة دمشق، تعود جذوره إلى العهد العثماني، كما في محافظة حلب في شمال غرب سورية. تقول الأحزاب الكردية إن الأكراد يشكلون أغلبية سكان مدن محافظة الحسكة، ولكن مصادر سورية رسمية وغير رسمية أكدت على الدوام أن النسبة العالية للسكان الأكراد في مدن الحسكة لا تعني بالضرورة أنهم الأغلبية في أي من مدن المحافظة الرئيسة، ولا حتى مدينة القامشلي (قامشلو، باللفظ الكردي).
وبينما يعتبر أكراد دمشق وحلب الأكثر اندماجاً، فيما يعاني عدة مئات من ألوف الأكراد من سكان محافظة الحسكة من تنكر الدولة السورية لمواطنيتهم. وتعود مشكلة حقوق مواطنة الأخيرين إلى صعود البعث إلى السلطة في 1963 وما تراه الدولة السورية من التباس أصول بعضهم، وما إن كانوا لجأوا إلى سورية من العراق وتركيا، خلال فترات الصراع القومي في المناطق الكردية من البلدين، أو أنهم سوريون أصليون. مهما كان الأمر، فإن تجاهل الدولة السورية لحقوق هؤلاء طوال خمسين عاماً، ليس أكثر من مؤشر على تجاهل الحكم السوري الأكبر لحقوق الأكراد ككل. مؤخراً، وفي محاولة لرشوة الأكراد وإضعاف مشاركتهم في الحراك الاحتجاجي الشعبي، أصدر النظام قراراً بمنح ما يقارب مائتي ألف من الأكراد جنسيات سورية.
بخلاف أكراد العراق، حيث عملت الحركة القومية المسلحة طوال عقود على محاصرة نوازع التشظي السياسي، فإن هناك ما يزيد عن 15 منظمة حزبية كردية في سورية، تتفاوت رؤاها وبرامجها من المطلبية القومية – الثقافية والاجتماعية – الاقتصادية المحدودة، إلى السعي إلى كيانية كردية قومية. أحد أبرز هذه القوى هو حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي أسس في 2003، ويقوده صالح مسلم محمد، والذي يعرف بعلاقته الوثيقة بحزب العمال الكردستاني، أو أنه ليس أكثر من أمتداد له. والمعروف، على أية حال، أن ما يقارب من عشرين بالمائة من نشطي حزب العمال الكردستاني هم من الأكراد السوريين؛ وهذا ما صمت عنه النظام في سورية طوال الوقت، سواء عندما كان العمال الكردستاني يحظى بدعم دمشق، أو بعد ما تحسنت العلاقات السورية – التركية، أو بعد انطلاق الثورة السورية وعودة النظام السوري إلى تعزيز علاقاته بالحزب الكردي التركي الانفصالي.
أغلب الأحزاب الكردية الأخرى، والتي تمثل 11 منظمة سياسية، انضوت منذ أكتوبر/ تشرين أول 2011 في الإطار المعروف بالمجلس الوطني الكردي. ويعتبر المجلس، الذي تشكل بضغط من مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، ائتلافاً سياسياً غير وثيق؛ وبخلاف حزب الاتحاد الديمقراطي، فإن المجلس الوطني غير مسلح، وإن كان ثمة مؤشرات على أن عناصر تتبع المجلس تلقت وتتلقى تدريباً عسكرياً في إربيل، بمساعدة من حكومة الإقليم.
في 11 يوليو/ تموز 2012، ضغط البارزاني على الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني لتوقيع اتفاق بمدينة إربيل، أسس لإقامة إدارة مشتركة من الطرفين للمعابر الحدودية الشمالية بين سورية والعراق، وللمناطق التي انسحب منها الجيش السوري في محافظة الحسكة. ولكن، وإضافة إلى أن الاتفاق لم يزل هشاً، فإن الاتحاد الديمقراطي يبدو الطرف الأقوى، وأن الإدارة الكردية المشتركة التي تسلمت المعابر والمدن والبلدات الكردية في الحسكة تميل في الواقع لصالح الأخير.
حتى اللحظة، ومهما كانت الدوافع الحقيقة للاتحاد الكردستاني وأحزاب المجلس الوطني، فإن من الصعب تصور قيام وضع في شمالي شرق سورية شبيه بالحكم الذاتي الذي يتمتع به إقليم كردستان العراق. فإلى جانب الحجم الأصغر نسبياً لأكراد سورية، والتداخل الديمغرافي بينهم وبين السوريين العرب، والتفاوت الواسع في برامج قواهم السياسية وفي توجهات التجمعات الكردية ذاتها، فإن هناك معارضة إقليمية ودولية واسعة النطاق لكيان كردي سوري.
الولايات المتحدة أعربت عن موقفها المعارض لهذا الكيان بصورة واضحة وقاطعة. أما تركيا، فلا يوجد ثمة شك في استعدادها لاستخدام القوة، إن تطورت الأوضاع باتجاه تحول محافظة الحسكة إلى كيان شبه مستقل، تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يراه الأتراك مجرد منظمة تابعة لحزب العمال الكردستاني. ونظراً للتقارب المتزايد بين أنقرة وإربيل، سواء على الصعيد السياسي أو على صعيد أنابيب النفط المستخرج في كردستان العراق، فمن الصعب تصور قيام حكومة البارزاني بتشجيع الأكراد السوريين على الانفصال، بصورة أو أخرى، عن سورية.
ولكن المشكلة لا تتعلق بوضع سورية الداخلي وحسب، بل وفي الأبعاد الإقليمية للملف الكردي السوري، الذي يضيف تعقيدات جديدة للتعقيدات الإقليمية المتفاقمة للأزمة السورية.
$أبعاد سورية وإقليمية$
يتلخص المنطق الذي أسس لمقاربة النظام السوري للحركة الشعبية منذ بدايتها في أنا أو الطوفان. بمعنى أن على السوريين، والعالم من حولهم، أن يقبلوا باستمرار النظام وبتصوره للإصلاح، أو أن سورية، ومعها الإقليم ككل، ستنفجر في صراعات لا آخر لها. المخطط الأخير الذي تم الكشف عنه في لبنان (10 – 11 أغسطس/ آب)، وأدى إلى اعتقال وتقديم الوزير السابق ميشال سماحة للقضاء، والذي يستبطن سعياً لتفجير الوضع اللبناني طائفياً، ليس إلا مؤشراً واحداً على الكيفية التي يفكر فيها أركان النظام السوري لإدارة الأزمة. المؤشر الثاني أقدم قليلاً، وتجلى في سلسلة مذابح في ريفي حمص وحماة، استهدفت تطهير السهل الفاصل بين جبل العلويين ومنطقة الثقل السني الوسطى من السكان العرب السنة، وتمهيد الطريق لولادة جيب علوي قادر على الدفاع عن نفسه، إن اضطرت المجموعة الحاكمة في دمشق لمثل هذا الخيار.
ما حدث في محافظة الحسكة، وقبلها في مواقع معدودة في حلب وريفها، من تسليم المنطقة لعناصر مسلحة من الاتحاد الكردستاني، يقدم مثالاً نموذجياً لسياسة النظام في مواجهة الثورة. فمن جهة، يشير هذا التطور إلى عزم النظام على زرع عوامل الانقسام والتشظي في الجغرافية – السياسية السورية في حال أجبر على التنحي عن الحكم. إقليم كردي لن يخلق عبئا كبيراً على كاهل أي حكم سوري جديد وحسب، بل وسيوفر غطاءً لمخطط الدويلة العلوية أيضاً. من جهة أخرى، فإن التوجه السوري الرسمي الواضح لتعزيز قوة ونفوذ حزب العمال الكردستاني والجماعات السورية المرتبطة به، يشير إلى تمحور إقليمي جديد، تستخدم فيه الورقة الكردية، كما استخدمت مراراً من قبل، بصورة ذرائعية وغير أخلاقية من حكام دمشق.
وليست دمشق وحسب هي من يستخدم حزب العمال الكردستاني لإرسال رسالة تهديد لتركيا. ففي الأسابيع القليلة التالية على انسحاب قوات النظام من أغلب مدن وبلدات محافظة الحسكة، توفرت لدى السلطات التركية (صحيفة زمان التركية، 9 أغسطس/ آب 2012) تقارير تفيد بأن حزب العمال الكردستاني، وتحت الضغط العسكري التركي المتصاعد، يتخلى الآن تدريجياً عن قواعده التقليدية في جبال قنديل، ليتمركز قرب منطقة شمدينلي بمحافظة هكاري، على الحدود التركية – الإيرانية. بمعنى أن تفاقم الأزمة السورية، وتفاقم الصراع الإقليمي حول مستقبل سورية، لم يؤد إلى تجدد الدعم السوري لحزب العمال الكردستاني فقط، بل أن الحزب بات يجد رعاية من إيران أيضاً.
إلى أي مدى يمكن لإيران أن تذهب في علاقتها بحزب العمال الكردستاني، بكل ما تعنيه هذه العلاقة من موقف عدائي صريح من تركيا والشعب التركي، هو أمر يصعب تقديره الآن. تواجه الدول دائماً صعوبات جمة في معالجة الإخفاقات الاستراتيجية؛ وما تستشعره إيران في سورية هو إخفاق استراتيجي بامتياز، وليس من المستبعد أن تذهب القيادة الإيرانية إلى مآلات وخيارات بالغة الخطورة، على الصعيد الإقليمي، للتعامل مع هذا الإخفاق. ولكن المؤكد، على أية حال، أن العلاقة الإيرانية مع الحزب الانفصالي المسلح، الذي تسببت أعماله في أكثر من 45 ألف إصابة في تركيا منذ منتصف الثمانينات، لن ينظر إليها بأي درجة من التساهل في أنقرة.
$الأكراد ومصير سورية$
بتزايد الانشقاقات عن جسم النظام ومؤسستيه العسكرية والأمنية، سيما من العناصر والقيادات السنية، لم يعد من الممكن تجاهل حقيقة أن الحكم السوري أصبح أكثر علوية، حتى مقارنة بما كان يتهم به من طائفية قبل اندلاع الثورة. مثل هذا الانحدار في بنية النظام، يفتح سورية على عدد من الاحتمالات:
الأول، أن تستطيع قوى الثورة، والقوى الإقليمية المعنية، التوصل إلى تسوية سياسية سريعة، تساعد على ولادة حكم جديد والمحافظة على ما تبقى من الدولة المركزية، التي تنجح في استعادة قوتها بمرور الوقت، وتقوم بالمحافظة على وحدة سورية واستقرارها، وإن بصورة نسبية ومطردة.
الثاني، أن ينجم عن انهيار متأخر للنظام، انهيار في وحدة سورية السياسية.
والثالث، أن تدخل البلاد في حرب أهلية طويلة، تؤدي إلى انهيار كامل للدولة وتشظ واسع النطاق للسلطة على الأرض والشعب.
الخلافات بين المجلس الوطني الكردي والمجلس الوطني السوري، أبرز قوى المعارضة السورية، والمتوقع أن يلعب دوراً هاماً في سورية الجديدة، لم تحل بعد. وكان المجلس الوطني الكردي قد انسحب من لقاء المعارضة السورية في القاهرة، الذي عقد برعاية من الجامعة العربية، نظراً للخلاف حول الصياغة المتعلقة بوضع الأكراد في البيان الخاص بمستقبل سورية. ولكن، إن حدث انتقال سريع للحكم في سورية، ونجح السوريون في الحفاظ على هيكل الدولة وعلى بعض من القوة العسكرية، فلن يعدم السوريون في النهاية طريقة للحفاظ على وحدة البلاد مع الاستجابة للمطالب الأساسية للأكراد. ثمة أعداد ملموسة من الشخصيات الكردية العامة، سياسيين ومثقفين وعلماءَ، هم جزء لا يتجزأ من الحياة السورية العامة، وسيلعب هؤلاء دوراً هاماً في نزع عوامل التفجير من المسألة الكردية في سورية.
بيد أن إطالة أمد الصراع على مستقبل البلاد، سيفتح المسألة الكردية على الاحتمالات، بما ذلك المزيد من التورط الإيراني في الشأنين السوري والكردي، وتصاعد في عوامل التوتر بين تركيا وإيران. عندها، لن ينعكس التوتر الإيراني – التركي على العلاقات المباشرة بين البلدين فقط، ولكن أيضاً على وضع العراق كذلك، الذي سيجر هو الآخر، بإرادة بعض قواه وبغير إرادتهم، إلى ساحة الصراع. هذا، إلى جانب الآثار الإقليمية الأخرى للأزمة في سورية، سواء فيما يتعلق بالأردن، أو السعودية، أو الإقليم الكردي في شمال العراق. [1]