دينا حلمي
لا أصدقاء لنا سوى الجبال.
كانت هذه إحدى المقولات الشائعة لدى الأكراد، التي ثبت صحتها تاريخيًا وعادت اليوم لتؤكد ذلك مرة أخرى. فعلى مدار سنوات طويلة، كافح الأكراد الذين يتراوح عددهم بين 25 و35 مليون نسمة، للحصول على دولة كردستان المستقلة، لكن الصراع القديم بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية، والصدام بينهما في معركة جالديران عام 1514 كان سببًا في ظهور المشكلة الكردية وخروجها إلى العلن.
تسببت تلك المعركة في تقسيم كردستان عمليًا بين الدولتين، حرصت الدولة العثمانية بعدها على تشجيع الأكراد على الانقلاب على الدولة الصفوية، مستغلة تدهور أحوالهم وسوء معاملتهم بداخلها. نجحت في ذلك عام 1515، حيث عقدت اتفاقية مع الأكراد تعترف فيها بالسيادة الكردية على كردستان، مقابل تبعيته للدولة العثمانية.
لم تكن الاتفاقية تصريحًا بإقامة الدولة الكردية، لكن خطوة هامة حصلوا من خلالها على ما يشبه الحكم الذاتي، وشجعتهم على توسيع آفاق طموحاتهم نحو الانفصال. هذا الطموح، سريعًا ما تلاشى مع انتكاسة الأكراد عقب تخلي الدولة العثمانية عنهم وعقدها اتفاق مع الدولة الصفوية لتعيين الحدود بينهما عام 1555. بموجب هذا الاتفاق، تم تقسيم كردستان رسميًا بين الدولتين ما شكَّل صفعة للطموح الكردي بالاستقلال.
أصدقاء الجبال وتجدد الطموح
جاءت الحرب العالمية الأولى سنة 1914، لتشكل صفعة أخرى لكن للدولة العثمانية هذه المرة، فبنهاية الحرب وهزيمة العثمانيين، تم توقيع معاهدة سيفر عام 1920، وتعززت معها تطلعات الأكراد في إقامة دولتهم، إذ نصت المعاهدة على حصول كردستان على الاستقلال والسماح لولاية الموصل بالانضمام إليها، مشيرة إلى أنه بعد التأكد من أهلية الأكراد لإقامة دولة مستقلة، واعتراف عصبة الأمم بها، فإن تركيا تتعهد بقبول الاستقلال وتتخلى عن حقها بهذه المنطقة.
كان ذلك أول اعتراف رسمي دولي بالمشكلة الكردية وبحقوق الأكراد في تقرير المصير. وبالطبع لم يكن يروق لأنقرة التي وصفت المعاهدة على لسان رئيسها آنذاك كمال أتاتورك بأنها بمثابة حكم الإعدام على تركيا، وحاولت بمختلف الطرق منع تطبيقها.
بالفعل نجحت مرة أخرى في إبقائها حبرًا على ورق، وتخطت الأمر لتقضي على التطلعات الكردية بالانفصال بمعاهدة لوزان عام 1923. فالمعاهدة على عكس معاهدة سيفر، لم تنص على أي حق للأكراد في الحكم الذاتي، كل ما نصت عليه تعهد أنقرة بمنح سكان تركيا الحماية والحريات الكاملة، دون أي إشارة للأكراد، ما ساهم في تبدد آمالهم، خاصة بعد أن وجدوا أنفسهم موزعين عمليًا وقانونيًا بين 4 دول (تركيا، إيران، العراق، سوريا)، بدلاً من دولتين.
لم تكن المعاهدة تأتي بتلك النصوص لولا الانتصارات الكبيرة التي حققتها تركيا الجديدة على الجيش اليوناني، لتظهر من خلالها كدولة قوية، ولتزداد معها معاناة الأكراد في الدول الأربعة، فيواجهون بالقوة أو الاضطهاد والتهميش ما دفعهم إلى التراجع والاحتماء بالجبال كملاذ يسمح لهم بالقتال ضد حكومتهم.
تركيا: الأتاتوركية بمواجهة الكردية
وبعد إعلان الجمهوريّة عام 1923، تنصل أتاتورك مما جاء بمعاهدة لوزان من وعود بمنح الحريات، أنكر التنوع القومي، أطلق عليهم أكراد الجبال، وأقصى كل من دافع عنهم تحت شعار العلمانية والتحديث.
لم يستسلم الأكراد لهذه السياسات، شنوا ثورات عدة ضدها، كان أولها عام 1925، لكن أنقرة قمعتها سريعًا. تلا ذلك ثورة أخرى عام 1926، لم يختلف مصيرها عن سابقتها، إذ حاصرها الجيش في المناطق الجبلية وقطع عنها الإمدادات. بعد ذلك اندلعت ثورة ديرسيم، استمرت حتى عام 1938 واستخدم بها الجيش التركي الطيران الحربي والدبابات بكثافة ما تسبب بمقتل أكثر من 70 ألف كردي.
نتيجة هذا العنف، توقفت الثورات الكردية، ازداد القمع التركي للأكراد، طُمست هويتهم وثقافتهم، حُظرت أسماؤهم ولغتهم، أصبح مصير كل من يتحدث عن الهوية الكردية أو يطالب بها القتل أو الاعتقال. وفي المقابل، بدأ الأكراد الصراع المسلح، فتم تأسيس حزب العمال الكردستاني عام 1978 على يد عبد الله أوجلان الذي نادى بتأسيس دولة مستقلة في تركيا، بدأ الحزب الكفاح المسلح في 1984.
عام 2012، بدأت أنقرة محادثات سلام مع الحزب، تم الاتفاق على وقف إطلاق النار لمدة سنة، وتراجع مقاتلي الحزب إلى شمالي العراق، حدث ذلك عمليًا عام 2013، لكنه لم يستمر كثيرًا إذ انهار وقف إطلاق النار في يوليو 2015 بعد عملية انتحارية اعتبر تنظيم «داعش» مسؤولاً عنها وأسفرت عن مقتل عدد من النشطاء الأكراد في مدينة سروج ذات الأغلبية الكردية قرب الحدود السورية، واتهم حزب العمال السلطات بالتورط في الهجوم.
مع تمدد التنظيم بسوريا وانخراط الأكراد في مواجهته، ازدادت المخاوف التركية من زيادة نفوذهم، واحتمالية تأسيس دولة كردية، فتدخلت ببعض المناطق السورية على حدودها الجنوبية مثل مدن الباب وجرابلس، إدلب، فضلاً عن شن عمليات عسكرية من قبيل عفرين وغصن الزيتون وأخيرًا نبع السلام.
الأكراد بسوريا: مشكلة خلقتها الحكومات
لم تتضح معالم القومية الكردية بسوريا، انتشر الأكراد بالمدن عفرين، الحسكة، عين العرب بشكل طبيعي دون أية تفرقة. لم تظهر المشكلة، إلا نتيجة الحكومات غير الديمقراطية التي اتخذت من التعصب القومي مصدرًا لمشروعيتها.
اتخذت تلك الحكومات إجراءات تميزية ضد الأكراد جاء في مقدمتها «إحصاء الحسكة» عام 1962 الذي حرم أكثر من 70 ألف كردي من الجنسية. قسم الإحصاء الأكراد إلى من يتمتعون بالجنسية السورية، ومن يتجردون منها ومسجلون في السجلات الرسمية على أنهم أجانب، ومن هم مجردون من الجنسية وغير مقيدين في السجلات. تلا ذلك مشروع الحزام العربي مطلع السبعينيات الذي استهدف تهجير الأكراد في الحسكة على الحدود السورية التركية، واستبدالهم بالعرب، لقطع امتداداتهم القومية خارج سوريا.
رافق هذا سياسات لطمس الهوية الكردية من قبيل حرمان الأكراد من التحدث بلغتهم الخاصة، تغيير الأسماء الكردية التاريخية للقرى واستبدالها بأسماء عربية، وحرمانهم من تعلم لغتهم. وجاءت الضربة الأقوى في مارس/ آذار 2004 مع انتفاضة المناطق الكردية.
منحت الانتفاضة الأكراد ثقة كبيرة للمطالبة بحقوقهم السياسية والثقافية، ما ردت السلطات عليه بحملة قمع للمعارضة السياسية، ومختلف أنواع التنكيل حتى عام 2011، حيث شارك الأكراد بالاحتجاجات. وبادروا بالسيطرة على مناطقهم بعدما انسحبت القوات السورية لتركز على قتال المعارضة في مناطق أخرى.
العراق: امتيازات لا تنفي القمع
حصل الأكراد بالعراق على العديد من الامتيازات، لكن ذلك لا ينفي القمع الذي تعرضوا له. فعام 1946 أسسوا الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مصطفى البارزاني بهدف الحصول على الحكم الذاتي في كردستان. تمكنوا بعد ثورتهم عام 1958، من الحصول على اعتراف الدستور بالكردية كقومية، لكن ذلك لم يلب تطلعاتهم نحو الحكم الذاتي، فأعلنوا القتال المسلح عام 1961، وبعد ثلاث سنوات وقعوا مع الحكومة العراقية اتفاقية منحتهم حكمًا ذاتيًا واعترفت بحقوقهم الثقافية.
علاقاتهم بالحكومة تأزمت مرة أخرى عام 1974 بعد مطالبة البارزاني بالحصول على آبار نفط كركوك. وبنهاية السبعينيات، شنت الحكومة حملة تعريب بالمناطق الكردية خاصة كركوك الغنية بالنفط. قامت بتوطين العرب وإخراج الأكراد، لتغيير التركيبة السكانية. ازداد التصعيد بنهاية الثمانينيات (1988)، إذ شن الرئيس الراحل صدام حسين هجومًا بالأسلحة الكيماوية راح ضحيته نحو 5 آلاف كردي.
دفع التصعيد الأكراد نحو الانتفاضة مستغلين هزيمة العراق بحرب الخليج 1991، نجحوا في الحصول على الحكم الذاتي، إلا أنه لم يكن النهاية. فقد لعب التناحر الداخلي بينهم دورًا كبيرًا في تدهور أوضاعهم. وكان ذلك التناحر بدأ عام 1971، حينما انقسم الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة البارزاني وتم تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني.
منذ ذلك الحين شهد الطرفان صراعات دموية احتدمت عام 1994، مع الحرب بين الحزبين التي تقدمت فيها قوات الاتحاد الوطني وانتزعت أربيل عاصمة الإقليم من بارزاني، فما كان من الأخير إلا أن ذهب إلى بغداد طالبًا العون من صدام حسين، الذي تدخل لينتزع السيطرة على العاصمة.
بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، اتفق الحزبان على تقاسم السلطة. تعاونا في إدارة الإقليم، فسيطرت قوات الاتحاد الوطني على السليمانية، وتحكمت قوات الديمقراطي في أربيل ودهوك. تولى البارزاني رئاسة الإقليم، فيما أصبح الطالباني أول رئيس للجمهورية من الأكراد.
بهذا استقر وضع الأكراد، كان الإقليم يتمتع برئيس وحكومة وبرلمان مستقل عن الحكومة المركزية في بغداد، ثم عادا لتوتر من جديد حينما أبدى الأكراد رغبتهم في استقلال كردستان ونظموا استفتاء للاستقلال عام 2017، حينها رفضت الحكومة المركزية الاستفتاء واعتبره غير قانوني، ثم تنحى البارزاني عن موقعه كرئيس للإقليم.
إيران: إجهاض دولة الأكراد الوليدة
كاد الأكراد بإيران أن يحققوا حلم الدولة عام 1946، إذ أعلنوا في يناير من ذلك العام تأسيس جمهورية مهاباد، لكن السلطات الإيرانية في عهد الشاه محمد رضا بهلوي نجحت، في ديسمبر من العام ذاته، في القضاء على الدويلة الوليدة.
استمرت علاقة المد والجز مع نظام الشاه. تعرض الأكراد للاضطهاد، شاركوا في الثورة الإسلامية عام 1979، بعدها رفضوا الدستور الإيراني الجديد، اعتبروه تكريسًا للعنصرية، مما دفع المرشد آية الله الخميني إلى إعلان الجهاد ضدهم، فقصفت الطائرات الإيرانية عدة مناطق كردية، وشنت قوات الحرس الثوري هجومًا أوسع عام 1983 أدى إلى سقوط آلاف الضحايا من الأكراد.
استمرت الاحتجاجات الكردية في إيران دون أن تحقق نتائج ملموسة، ما دفعها عام 2004 إلى تأسيس حزب الحياة الحرة الكردستاني، كحزب مسلح، تابع لحزب العمال الكردستاني في تركيا. أطلق الحزب تمردًا مسلحًا، قُتل على إثره مئات من الأكراد والقوات الإيرانية. انتهى التمرد عام 2011، حيث انتهت أنشطة الحزب بعد حملة شنتها طهران على قواعده.
تاريخ من الاستغلال: أحدثه الولايات المتحدة
تخللت المحطات السابقة بتاريخ الأكراد مواقف عدة بينت مدى تخاذل الدول الكبرى وتراجعها عن وعودها لهم بالاستقلال تفضيلاً لمصالحهم السياسية والاقتصادية. كانت أبرز المواقف الاتفاق بين تركيا وبريطانيا بمعاهدة لوزان، التي تخلت فيها الدولتان عن وعودهما للأكراد بالاستقلال الذاتي، خشية من ارتماء أنقرة بأحضان الاتحاد السوفييتي، وحفاظًا على مصالحها بالداخل التركي.
على النهج البريطاني والفرنسي سارت الولايات المتحدة، فلم يكن قرارها مؤخرًا بعدم الوقوف منذ البداية في طريق الغزو التركي، الأول إذ سبقه في ذلك مرات عديدة كان أبرزها في الثمانينيات، حينما سمحت واشنطن بالهجوم الكيماوي الذي شنه نظام صدام حسين ضدهم، خشية من تعاونه مع طهران إذا وقفت لجانب الأكراد.
وفي التسعينيات عقب إخراج الجيش العراقي من الكويت، تمت دعوة الأكراد والشيعة العراقيين إلى الثورة ضد صدام حسين. وعندما فعلا ذلك، عزفت عن دعمهما عسكريًا، فارتكب النظام مجازر بحقهما تسببت بمقتل الآلاف منهم وهجرتهم إلى الجبال.[1]
والسؤال هنا يبقى قائمًا: لماذا تعرض الأكراد لكل محاولات الاستغلال السياسي هذه؟ هل هو عدم قدرة على الإدارة السياسية والمناورة، أم أنه قلة حيلة ومحاولات للتمسك بأي بأمل يساعد في إقامة دولتهم المنتظرة، أم أن للأمر أسبابًا أخرى؟