#مصطفى عبدو#
يلعب المثقفون دوراً مهما في شرح وتوجيه دفة الحراك الاجتماعي والسياسي في شتى الميادين لكن تنظير حالة ومشكلات المجتمعات واقتراح بعض الحلول لا يلقى دائماً الترحيب، بل يؤدي في كثير من الأحيان إلى حالة من الصدام والاتهامات المتبادلة, وفي النهاية يبقى المثقفون روح المجتمعات لأنهم أولاً وأخيراً جزء من المجتمع ويستطيعون التأثير بشكل كبير في توجيه المجتمعات وإضاءة الحقيقة …
ابتعاد المثقف عن الأحداث
مفهوم المثقف نفسه لم يعد مفهوماً ثابتاً، فالمثقف على الرغم من تمتعه بقدرات فكرية ومعرفية، فهو أيضاً له استراتيجياته الخاصة. ربما أصبح سياسياً. أو ربما ظل على مسافة من التاريخ، ولا يتورط في اتجاهات معينة، ويحاول تجنب الأعاصير. في الأخير يتعين مراعاة المعطيات الملموسة للمثقف، وتفهم أسباب ابتعاده عن الحدث التاريخي الساخن، كون هناك فئات أخرى أقدر منه على مشاهدة ووصف ما يجري. من هنا يمكننا القول أن المثقف استخلص العبر من التاريخ، ومن الشعارات ومن الأيديولوجيات المثالية الطموحة، وبذلك، أصبح ربما أكثر واقعية وحذراً اليوم.
عندما يعود المثقف إلى هويته الطبيعية..
كانت العلاقة بين المثقف والعمل السياسي ضمن الأحزاب السياسية خصوصاً طويلة ومتشابكة، تغلب عليها الحماسة حيناً، والفتور والنفور حيناً آخر، يؤكد ذلك العديد من المثقفين، وأشار العديد منهم خلال كتاباتهم عن استغلال السياسي والحزبي للمثقف والتعامل معه باعتباره أداة تحشيد وتعبئة.
نتيجة لكل ذلك, يحاول المثقف اليوم العودة إلى هويته الطبيعية، كونه أولاً وأخيراً مواطن تعرض للابتزاز عقوداً خلال اندماجه في الأحزاب والمؤسسات المدنية وجمعياتها، كما يؤكد بعض المثقفين دوماً.
بينما يرى البعض أن العلاقة بين المثقف والأحزاب السياسية هي علاقة شائكة تحددها وتحكمها جملة محددات أو متغيرات، أهمها أن أغلب الأحزاب السياسية، حين تكون في مرحلة التأسيس تغلب عليها لغة الاحتجاج والنقد والثورية، فتظهر في ثوب ثوري مما يجعلها بحاجة إلى المثقفين. أما بعد مرحلة التأسيس ، ينتقل الحزب إلى مرحلة الوصول إلى السلطة. فيتحول تدريجياً إلى حزب آخر، ويحتاج بشكل أقل إلى المثقفين، لأن حاجاتها تتغير بدخول الحزب إلى “مرحلة الانحياز أو الموالاة”.
بالمختصر, هناك هوة تتسع بين المثقف ورجل السياسة، أو لنقل بين ممارسة السياسة بحسب رؤية المثقف. ولعل أبرز مظهر لهذه الهوة، هو أننا لا نرى مفكرين بارزين في قيادات الأحزاب. ففي أحيان كثيرة يتقمص السياسي وظيفة المثقف فيسيسها، وينساق المثقف لإغراء السياسة فيتخلّى عن دوره النقدي كمثقف. وقد بدا واضحاً وجود هيمنة ساحقة للسياسي الذي أصبح يصول ويجول على شتى المستويات. يحدث هذا على المستوى العالمي مثلما يحدث في مجتمعاتنا. وعليه فالظروف الحالية أصبحت تتطلب من الجميع إيلاء صوت الثقافة والمثقف المكانة الاعتبارية اللائقة بهما.
أين يقف المثقف اليوم؟
كما سبق ذكره فالشأن العام في المنطقة، كما في العالم ، أصبح جزءاً من حياة المثقف بالقوة؛ بحيث كل شيء يتنفس الإشكالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. فقد عرفت المنطقة مساراً طويلا من الصراع الشرس والعنيف والذي جعل المثقف يقف في الصف الساخن، ولم تتغير هذه المعادلة إلا في العقد الأخير، حيث دب الفتور في حماس المثقفين وفي مواقفهم. وبات المثقفون يشعرون بخيبة أمل وبمرارة ثقيلة، لأنه أصبح بين فكي كماشة. فلم يعد ممكناً إقناع الناس بالتغيير كونهم استسلموا لمجريات الأحداث، فمنهم من ساير اللعب واندمج فيه، ومنهم من انزوى صامتاً…
فيشعر المثقف اليوم أن مسؤوليته أصبحت الخوض في واجهات متعددة، الأولى هي خوض صراع مع ذاته أولاً، والثانية مع الأنظمة التي تلغي الصبغة الثقافية وبالتالي الإنسانية عن المجتمعات. وأهم شيء بالنسبة لهذا المثقف هو منح المزيد من الأمل لذاته ولقارئه ومجتمعه عبر صورة عودته إلى المساهمة في المعارك اليومية داخل المجتمع. ونرى بالمقابل زعماء بمستويات دراسية بسيطة وضحالة فكرية تجعلهم لا يخجلون من قول الشيء ونقيضه والقيام بعمل والتنكر له في الغد، ويستخلص أنه حين تغيب الثقافة تصبح الكلمات جوفاء، وتصبح السياسة في المجمل هراء.
من هذه الزاوية، لا يمكن للمثقف وهو يرى من يتصدر الواجهة وينظر للبلاد والعباد إلا أن يحزن ويضع يده على قلبه مخافة الآتي. لأنه يرى اللوحة مظلمة حقّاً.
المثقف ما له وما عليه!!!
كانت مشاركة المثقف في غاية الضعف خلال الأزمات التي عصفت بالمنطقة مؤخراً, محزن حقاً غياب المثقف, نعم محزن أن يغيب مفكرونا ومثقفونا عن خارطة الكلمات المفتاحية في مخاض المرحلة الحالية. لم يعد بالوسع السكوت واغتيال التفكير وبكل صراحة ووضوح نقول: أن حياة الشعوب تشهد حالة من اللامبالاة ولم يعد هناك خيار إلا بالمشاركة القوية من قبل الجميع وخاصة المثقفين في بذل الجهود وتحمل عبء المخاض العسير، واتخاذ المواقف الصعبة إزاء التغيرات الحاصلة وما تحويه من تهديدات. فالمثقف ملزم بابتكار أدوات ملائمة لخوض المرحلة, فقد مات وقت الادعاءات… فلنتقدم في مسار ينبئ عن استيعاب الأزمات وانعكاساتها بالبحث عن خطط لحياة تتسع للجميع في وقت أصبح الكل منشغل بالسعي خلف احتياجاته ومتطلباته ومصالحه.
تلك هي المهمة التي سيتولاها المثقف اليوم وغداً.. أن يتولى قيادة الدفة ويصدر التوصيات والمقترحات وهو الذي يجب أن يكون بمثابة البوصلة الأخلاقية التي ستوجه المجتمعات نحو عالم أكثر عدلاً وإنصافاً وأمناً أننا ننتظر منه أن يلعب دوراً بمثل هذه الأهمية وأكثر.
في النهاية, المثقف مبدع وفنان في تصوير الأحداث ورسم الخطط وله قدرة فائقة على إثارة الأحاسيس.
فمن غير المثقف يستطيع رفع صوت قيمنا المشتركة ؟
ومن يطلق الصافرات غير المثقف؟[1]