كوباني القديمة هي حفنة من البيوت الترابية رمت بها الأقدار ذات يوم، بلدة بسيطة ليس فيها إلا ما هو ضروري لاستمرار الحياة، لكنها على بساطتها أشبه بقصيدة رعوية سهلة ممتنعة، في كثافة اللغة وكثافة التجربة الإنسانية، هي نسيجُ وحدِها، كل المدن تشبهها لربما، ولكنها هي لا تشبه أي واحدة .
في جغرافية المكان إلى الشرق منها ( كاني عربان ) الموصولة بها بحبل سري من الماء والاخضرار، تشاركها أيضاً ( مقتلة ) سليلة مجد غابر . وإلى الجنوب قرية ( ترميك بيجان ) الموصولة بأوردة وشرايين كرم العنب . وإلى الغرب ( كاني مشديه ) مُلوِّحةً للبحيرة وللشمس الغاربة كل يوم، هذه القرى قد أُدمجت كرهاً إلى قوام المدينة، وانمحت الحدود الفاصلة بينها اليوم .
وككل مدن هذا العالم ثمة -دائماً- نسيج عمراني عتيق مهترىء بفعل الزمن، عابق بنكهة الحزن السري والفرح المتدرّج كألوان الطيف، ولم تكن كوباني استثناء في هذا القانون العمراني ، بيوت من الطين تبدو كأنها هاربة من جيوش الخوف، فهي متلاصقة متعانقة تتقاسم الملامح نفسها والتراب نفسه، والشوارع الضيقة نفسها، حتّى لا تسمح كثيراً بدخول عربة إليها .
هذا النسيج ما زالت بقاياه صامدة، تموضعت البيوت في المنطقة المتاخمة للمحطة، حدودها من شارع السراي وإلى الشمال، المساكن تداخلت إلى حد كبير مع حركة السوق القديم، كان الطين والخشب مادتين رئيسيتين في البناء مع قليل من الحجارة، وحدها بيوت الأثرياء كانت من الحجر المنحوت عليه علائم الترف من الأرمن والأكراد؛ كبيت ( حج كره بيت ) وقصر ( بوزنجكي) المهيب بشرفته الخشبية الملونة ، كان يقف في كبرياء من بعيد ، وقد صمّمه النجّار الماهر “ ستراك “ ، وصمم كذلك قهوة ( كارمين) . ومن البيوت الحجرية حوش ( صالح خانو وحج بركل ) ، هذه البيوت كانت استفزازاً وسط دور من الصلصال الحنون بمزاريبها المغنية في هطول الشتاءات الماطرة .
ما أذكره أنّ أربعة أو خمسة بيوت كانت باذخة في تلك الأيام عكست غنى ووجاهة أصحابها، فكانت مبنيّة بطابقين من اللبُن الطيني، وكانت مثار إعجاب . من تلك البيوت بيت ( سركيس عربو ) المطل على النهر برومانسيته الكئيبة ، وبيت ( أوسي قركوز) إلى الجنوب منه ، وبيت ( بوزانجكي ) ، وفيما بعد بيت ( حج بركل وحبش زينة ومصطفى عباس) .
أما خارج النسيج القديم فالمخطط التنظيمي للبلدة قام على نظام شطرنجي من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب حيث الشوارع مفتوحة إلى النهاية وكل 40 متراً ينتهي إلى تقاطع لشارع .
البناء كان يراعي القواعد الصحّيّة البيئية والاعتبارات الاجتماعية كذلك، فكانت الشبابيك كبيرة وواطئة داخل الحوش، وكذا تلك المطلّة على الشارع متّجهة في أغلبها للجنوب لاستقبال الشمس ، ولم يخلُ أيّ بيت من فسحة ( أرض حوش)، إذ كانت الأرض أريحية سمحاء.
ومن مستلزمات الحوش بئر غزيرة المياه تمنح العذب الزلال بحبل من المرس وبدلو من مطاط أو سواه، أعماق الآبار لم تكن تتجاوز العشرة أمتار، فالأرض كانت طافحة، في كل حوش عريشة عنب ظليلة أيام الصيف.
وعُرف عن الأرمن تعلّقُهم بأشجار التوت، حيث وُجدت شجرة أو أكثر من أشجار التوت الباسقة تمنح الظل والثمر والحطب في كل بيت، في الخريف ترتدي حلّة من الذهب الأصفر، وفي كل شجرة توت أرجوحة للأطفال ، لطالما صعدت بنا إلى سماوات الفرح ، الأبواب كانت من الخشب والباب الخارجي ملبّس بالصاج غالباً، مزيّن بمسامير ناتئة على شكل زهرة أضاليا، وعلى كلّ باب دقّاقة على شكل قبضة نحاسية أو حلقة من الحديد .
بعض الأبواب كانت كبيرة مقنطرة، في داخلها باب صغير لدخول الأفراد . أمّا الباب المقنطر فكان يفتح أحياناً لإدخال الدواب والعربات والأرزاق .
في خريف كلّ عام كنت تجد الناس في سباق محموم، لترميم البيوت بالطين المجبول بالتبن وإصلاح ما تلف وتقحّط من حيطان وبخاصة السقوف، حيث يجب صقلها بشكل جيد استعداداً لأمطار الشتاء وثلوجه، فوكف السقوف كانت ظاهرة مزعجة، ولطالما ذقنا طعمها، وأهدرت منا لذة النوم في ليالي الشتاء الطويلة .ولأعمال الترميم والتلبيس معلّمون مهرة، أشهرهم ( شهانو وبوزو عل تومو وآل صوفيان وخشمان البدين ) وآخرون .
أما الغرف من الداخل فقد كانت تُطلى بطبقة من ماءات الكلس برائحتها العبقة، فتغدو الحيطان مشعّة بالبياض المشوب بزرقة خفيفة من مادة ( كولا ) الزرقاء.
ومن المشاﮪد التي كانت مألوفة في تلك الأيام مشهد المداحل
( لُوْق )، وهي من الحجر المرمري أو من البازلت الأسود على شكل اسطواني فوق الأسطح يتمّ دحرجتها بذراعين من حديد لصقل السطح جيداً درءاً للوكف في الشتاء.
شوارع البلدة كانت نظيفة بالرغم من قلة عمال النظافة والأزقة، كانت ترش بالماء عصراً من قبل العائلات، ففي المغارب كانت للنسوة الجالسات على كراسي الحصير الصغيرة بأجسادهن البدينة المترهلة طقس يومي في الصيف، كنّ يتجاذبن أطراف الأحاديث، ويرتشفنَ القهوة ويبصِّرن بخطوط بقايا البن الراسب في قعر الفناجين بما قد تحمله الأيام لهن من حظوظ وأقدار بكثير من القناعة والإيمان، كانت الألفة الإنسانية تلفّ تلك الجلسات البسيطة التلقائية والنفوس منفتحة على احتفالية الحياة الغامرة .
ونحن – الأطفال- كنا نقف مبهورين بما نرى، نقتحم ضفاف الروح الواثبة على حافات الطفولة وبراعمها الواعدة في مقابل شغف الأرمنيات باحتساء القهوة وقلب الفناجين وحياكة الصوف في طقس إيماني بهيج لم نكن نعرفه نحن الأكراد .
المجتمع الأرمني كانت له منظومته المعيشية الخاصة في كل شيء، في المسكن والمأكل والملبس والعلاقات الأسرية ونمط التفكير والتعاطي مع الأمور.
بالإجمال كانوا يتقدّمون علينا – الكرد - في مظاهر التقدُّم الاجتماعي، اللمسة الأرمنية كانت واضحة في كل أمر، مساكنهم كانت أنيقة مرتبة رغم أنها لم تكن مترفة، الحيطان والنوافذ مشتملة على الستائر، وهو ما افتقدناه إلا ما ندر، وللبيت تقسيماته المعيشية ومساحات غالبة من الإسمنت وحمام وبيت للمونة، ومعظم البيوت كانت بزنزانات وأقبية وبخاصة بيوت الأثرياء، والكنبة شيء لا غنى عنها في بيوت الأرمن، حيث تجلس الجدة بشعرها الأبيض بكثير من الوقار تحيك كنزات الصوف والجوارب، تراقب حركة الأولاد من فوق نظاراتها السميكة مع تكشيرة مؤنبة وأوامر صارمة، والقطة المدللة تداعب قدميها أو تستسلم للنوم الكسول بشخيرها الناعس .[1]