كانت تُعرف قبل مائتي عام بأنها دار العلم، ثم اشتهرت بأنهّا مدينة الثقافة، وهي ألقاب لها وجاهة في الواقع، إذ لا يحتاج الزائر أن يقرأ عنها في الكتب والصحف والمجلات. فبمجرد أن تطأ قدماه على تراب مدينة سنندج، مركز محافظة كردستان بإيران، يلمس ما يُرمِّز إلى تلك التسميات في أزقتها وشوارعها.
إذ إنَّها تحتضن أكبر سينما مفتوحة بالشرق الأوسط على سهل جبلها المعروف بآبيدر ئاويهر، وها هي اليوم تدخل قائمة شبكة منظمة اليونسكو للمدن المبدعة في مجال الموسيقى، ليضاف إلى قائمة ألقابها الزاخرة لقب مدينة الموسيقى، وهي في طريقها لتكتسب أيضاً منزلة عاصمة الموسيقى بإيران، بالإضافة إلى أنها معروفة أيضاً بمدينة المساجد والمآذن، إذْ تحلُّ في المرتبة الأولى في البلاد من حيث عدد المساجد مقارنة بالسكان. وفي 31 من أكتوبر/ تشرين الأول، عندما نشرت منظمة اليونسكو بمناسبة اليوم العالمي للمدن، قائمة شبكتها للمدن المبدعة، التي تضم اليوم 246 مدينة، عمّ الفرح بمدينتين كرديتين بالمنطقة، الأولى سنندج (سِنَه بالكردية) بإيران لدخولها القائمة كمدينة مبدعة في مجال الموسيقى، وأخرى السليمانية بإقليم كردستان العراق، كمدينة مبدعة في مجال الأدب. سنندج، الواقعة على بعد 450 كيلومتراً من العاصمة طهران، لم تكن المدينة الإيرانية الوحيدة التي دخلت قائمة شبكة اليونسكو للمدن المبدعة. إذ انضمت إليها 3 مدن إيرانية أخرى، رشت كمدينة مبدعة في الطهي، وبندر عباس في الصناعات اليدوية والفنون الشعبية، وأصفهان في الصناعات اليدوية.
وفي تغريدة له تعليقاً على انضمام هذه المدن إلى قائمة اليونسكو، اعتبر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، أن ذلك يفتح مجالاً جديداً في المدن الإيرانية للاستفادة من التجارب العالمية، وعرض ميزاتها الخاصة للعالم. من جهتها، وصفت السلطات المحلية بمحافظة كردستان وضع مدينة سنندج على قائمة شبكة اليونسكو للمدن المبدعة بأنه حدث تاريخي، معتبرة أن المدينة أصبحت عالمية، مطالبة وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي بتأسيس متحف الموسيقى بالمدينة لتوسيع الإنجاز المكتسب. كما أعلنت المحافظة أنَّها بصدد تنظيم احتفال كبير بمشاركة سلطات إقليم كردستان العراق لانضمام سنندج والسليمانية إلى قائمة المدن المبدعة.
لم يأت انتقاء سنندج بين المدن المرشحة في العالم للمنصب، من فراغ. إذ تعدّ موسيقى كردستان من أغنى الموسيقات بإيران، وهي في أجساد سكانها الأكراد دافئة كالدم في عروقهم، تُضخ فيها منذ الولادة بترانيم لالايي، ترنّمها الأم عند المهد لطفلها، ثم تلازم حياتهم اليومية حتى اللحد في السراء والضراء والمراثي والأفراح. ملامح الموسيقى السنندجية هي ما تتميز به الموسيقى الكردية بشكل عام في المنطقة، باعتبارها من أكثر الموسيقات الشرقية إثارة، بألحانها ومقاماتها الخاصة بها، ومضامينها الغنية والمتنوعة بين الحب والملحمية والطبيعة والعرفانيات والروحانيات.
وتنقسم هذه الموسيقى إلى الفلكلورية والتقليدية الكلاسيكية والمعاصرة الأكاديمية، تركت بصمات كبيرة على الموسيقى الإيرانية. ليعتبرها المعلم الموسيقي الإيراني، حسين عليزاده، ملهمة له في الكثير من أعماله الفنية، في مقابلة له مع صحيفة الشرق الإيرانية، في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2014. ما ساهم في تطوير الموسيقى الكردية بسنندج، هو حب سكانها لممارسة الدبكة الكردية المعروفة بهلبركي باللغة الكردية، كما هو الحال في بقية المناطق الكردية، والتي تعتبر بإيقاعاتها المختلفة وأشكالها المتنوعة ونغماتها المتعددة موروثاً شعبياً مُتجذراً في المجتمع الكردي.
والموسيقى في مدينة سنندج متجذرة وقديمة قدم ظهور حضارتها وإقامة الإنسان الكردي فيها، والتي لا يوجد تاريخ محدد لبدايتها، إلا أن الاكتشافات الأثرية فيها تروي أن الإنسان يعيش فيها منذ 6 آلاف عام تقريباً، وفقاً لما أورده موقع بلدية المدينة التي شهدت إعماراً كبيراً قبل 400 عام بسنة 1046 هجرية إبان حكم سليمان خان أردلان للمدينة، قبل أن تتحول سنندج في عهد أمان الله خان أردلان قبل مائتي عام إلى أيقونة للفن والثقافة والأدب.
وفي عهده، شهدت المدينة قفزة نوعية في معماريتها وتطورت الموسيقى الكردية إلى أن عرفت لاحقا بالمدرسة الكردستانية. واحتلت موقعاً متميزاً في الموسيقى الإيرانية إلى جانب المدراس الموسيقية بطهران وأصفهان.
ومع مرور الوقت، واصلت الموسيقى بسنندج مسيرة التألق، فتطوَّرت الألحان وأبدعت موشحات وتعرَّفت على الأدوات الموسيقية الحديثة منذ 150 عاماً، فأصبح يستخدمها الفنانون الأكراد في أعمالهم إلى جانب الأدوات الموسيقية القديمة الكردية، مثل ديوان (قريبة من طنبور) وسرنا والطبل وشمشال (آلة الناي)، والدف، وسرنا (مزمار).
ومع مطلع القرن العشرين، وانتشار أدوات التسجيل في المنطقة الكردية، مثل الغرامافون، توسعت الموسيقى الكردية الكلاسيكية بسنندج أكثر فأكثر، وظهر بالعقود الأولى للقرن الماضي فنانون كبار في المدينة، في مقدمتهم علي أصغر كردستاني. وشهدت انتشاراً واسعاً مع ظهور الإذاعة في إيران في أربعينيات القرن الماضي. إذْ تحوَّلت إلى منصة لنشر أعمال الفنانين الكرد من الملحنين والمغنين على أوسع نطاق. وفي الأربعينيات والخمسينيات، ازدهرت المدراس الموسيقية في المدينة، إلى أن أسس الفنان الكردي حسن كامكار أول أكاديمية للموسيقى فيها عام 1961.
وبعدها في عام 1965، شكّل كامكار فرقة كامكارها الموسيقية من أبناء العائلة، وهو يعتبر اليوم أكبر فريق موسيقي عائلي على مستوى إيران، كما أنه أشهر فريق موسيقي وغنائي في البلاد، حافظ على موقعه منذ 55 عاماً، وينظِّم اليوم حفلات غنائية وموسيقية في أنحاء العالم.[1]