صادق الطائي
في حضن الطريقة #النقشبندية# الصوفية في وديان وجبال شهرزور في محافظة السليمانية في كردستان العراق، في عشرينيات القرن العشرين ولدت حركة اجتماعية إصلاحية أطلق عليها اسم «حه قه»، ولم يتم تسليط الضوء، أو التعريف بهذه الحركة المهمة في تاريخ كردستان وتاريخ العراق المعاصر بشكل كاف، إذ مرّ ذكرها بشكل مقتضب هنا وهناك، كما تمت مهاجمتها وتشويهها واتهام أتباعها بالإباحية مرة، وبالعمالة للمستعمر مرة أخرى، وبعلاقات مع مختلف الحركات والأديان مثل اليهودية والبهائية والحركات الباطنية، وحتى مع الأحزاب مثل الحزب البارتي والحزب الشيوعي.
أشارت الدراسات التي تناولت الحركة إلى أن مصدرها هو الطريقة النقشبندية وتحديدا خانقاه مولانا خالد الجاف النقشبندي، مجدد الطريقة في القرن التاسع عشر، وفي ناحية سورداش تتابع الشيوخ على رئاسة الطريقة النقشبندية حتى وصلت إلى الشيخ عبد الكريم العسكري، الذي تغير اسمه وارتبط باسم قريته شدله، فاصبح اسمه الشيخ عبد الكريم شدله، وهو مؤسس حركة «حه قه» عام 1920. سيرته تشير إلى أنه عبد الكريم ابن الشيخ مصطفى ابن الشيخ رضا العسكري، من قرية شدله التي لم تكن قديمة أو معروفة، إذ شيد والده الشيخ مصطفى العسكري بيته وتكيته على سفح جبل بيرمكرون قرب ناحية سورداش التابعة لقضاء دوكان في محافظة السليمانية، فتجمع حوله الأتباع والمريدون فتأسست قرية شدله.
ويذكر رشيد الخيون في كتابه «أديان ومذاهب العراق ج 3» أن الشيخ المؤسس عبد الكريم شدله ولد عام 1893، وكان يشهد له بالثقافة ورجاحة العقل والتدبير ومحبة الناس ومساعدتهم، بتواضع وإنكار ذات، وقد نال إجازة الدراسة الدينية من مشايخ كويسنجق، وكان يجيد العربية والتركية والفارسية، فضلا عن لغته الأم الكردية. أما اسم الحركة، فقد ولد نتيجة ترديد اتباع الشيخ عبد الكريم في قيامهم وقعودهم وترانيمهم ووجدهم كلمة (يا حق.. يا حق) حتى عرفوا بال»حه قه» وهو اسم راق لهم، لأن الحق من أسماء الله، و»أهل الحق» اسم ورد كثيرا في تسميات الحركات الدينية. ويشير الباحثون إلى أن الشيخ عبد الكريم شدله، اجترح طريقه الخاص في التعاطي الصوفي مع الحياة، واختلف مع أسلافه من أقطاب النقشبندية، إذ لم يتوقف عند التعليم الديني الطقسي، ولكنه انطلق من الالتزام الصوفي إلى محاولة تثوير الدين وإخراج حقيقته في التعاون الاجتماعي والإنساني التي كان يعتقد أنها طمست وتحول التصوف إلى مجرد طقوس ودروشة ابتعدت عن حاجات المجتمع الحقيقية، وقد نادى إلى إخراج التصوف من التكية أو الخانقاه إلى رحابة المجتمع. لذلك شهدت سلوكيات أتباع الحركة تعاضدا اجتماعيا، وحصلت المرأة على مكانة لم تكن تحظى بها في المجتمع الكردي التقليدي، وتنعمت بمساواتها مع الرجل، كما أن الشيخ شدله كان تقدميا في صياغة علاقات الفلاحين بالأغوات والإقطاعيين، إذ منع ظلمهم، وأصبحت القرى التي يعيش فيها أتباعه تشهد نوعا من التكافل الاجتماعي الذي غابت عنه مظاهر الظلم الطبقي. ونتيجة كل هذه الاختلافات في سلوك أتباع حركة «حه قه» عن محيطهم الاجتماعي الكردي تعرضوا للكثير من الاتهامات، وربط بين حركتهم، وعدد من الأديان والحركات والأحزاب، وأول هذه الاتهامات هو الربط بين الحركة والديانة البهائية، وأساس هذا الربط هو اعتكاف الميرزا حسين علي المازندراني المعروف ببهاء الله، مؤسس الديانة البهائية، في كهف في جبال سورداش، المطلة على قريتي سركلو وبركلو، للفترة من 1854-1856. وكان يغادر كهف خلوته. إلى خانقاهات الصوفية النقشبندية في مدينة السليمانية وقصبتي بيارة وطويلة للاجتماع مع زعماء الطريق الصوفية أمثال، الشيخ عبد الرحمن الطالباني شيخ الطريقة القادرية، والشيخ عثمان سراج الدين شيخ الطريقة النقشبندية وقطبها.
حركة حه قه كانت قريبة من أفكار العدالة الاجتماعية الإسلامية، تنادي بكرامة الإنسان، وتطالب بحقوق المرأة، وتتبع أسلوب اللاعنف في مطالبها الاجتماعية والسياسية
في دراسته المنشورة باللغة العربية «البهائية ودورها في ظهور النحلة الباطنية الكردية حه قه» يربط الباحث الكردي فرست علي بين البهائية واليهودية وحركة «حه قه» إذ يقول: «ومن جانب آخر فإن بعض المصادر تذكر أن سبب اختفاء بهاء الله في جبال كردستان بالقرب من قرية شدله في جبال سورداش غرب السليمانية، كان نصيحة من الحاخام اليهودي يوسف حاييم لاكتساب تجربة روحية من الاطلاع على القبالة اليهودية وأسرارها (التصوف اليهودي)، وإن هذه التجربة ستجعله يدرك جوهر الأشياء وقوانينها العميقة، كما فعل النبي موسى (ع) حين غاب في جبل الطور في سيناء. ويبدو أن فترة بقاء بهاء الله في تلك المنطقة، كانت لها آثار سلبية على عقيدة بعض الكرد، ففي سنة 1920 ظهرت في تلك المنطقة حركة ال»حه قه»، التي تعد إحدى حركات الغلو في التصوف النقشبندي، وكانت لها أفكار غريبة وعجيبة، مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة، التي هي عقيدة الغالبية العظمى من الكرد». كما اتهم اتباع حركة «حه قه» بالإباحية والشذوذ، وهي تهمة كثيرا ما اتهمت بها الحركات الدينية والسياسية المخالفة لمحيطها الاجتماعي، ويرى الباحثون أن أساس هذه التهمة كان الرأي الذي كتبه مستشار وزارة الداخلية العراقية في العهد الملكي سي. جي.أدموندز، الذي أشار لها في كتابه «كورد وترك وعرب»، والذي يبدو منه أنه كان متحاملا على حركة «حه قه»، إذ قال: «إن نقشبندية كردستان (أقصد الفلاحين في القرى البعيدة لا رجال المدينة المتعلمين) يميلون نوعا ما إلى بعض الشذوذ. وليس من ريب عندي في أن اتجاهات إباحية ظلت تشيع زمناً طويلاً في القرى الجبلية البعيدة على حدود (سورداش) و(مه ركه) لانقطاعهم عن العالم الخارجي، وندرة زيارات موظفي الحكومة، ولم يجذبوا اهتمامي لأول مرة إلا في عام 1932، أي بعد عدة سنوات من وجودي»، ثم يتطرق. إلى ذكر حادثة غريبة: «ذهبت وحدة من الشرطة لإجراء تبليغ في قرية هلون التي هي من أملاك الشيخ محمود وتبعد عن سركلو أربعة أميال وعند عودتهم أبلغوني أنهم شاهدوا بأم أعينهم حفلة استحمام مختلطة للجنسين في حوض المسجد، وأضافوا إليها تفاصيل غريبة. وقد شكت سلطات الإدارة في صحة ما بلغها أول الأمر، إلى أن أبلغ بعض التجار المحترمين عن مناظر مشابهة في قرية سركلو نفسها وقدموا شكوى لأنهم أهينوا وأعتُدي عليهم عندما حاولوا استنكار هذه الأعمال، وقد كشفت التحقيقات عن قصة غريبة فريدة». لذلك شبه بعض الباحثين حياة قرى حركة «حه قه» بأنها كانت شبيهة بالحياة الاجتماعية في مستوطنات القرامطة، ويشير فرست علي إلى أن المحيط السني الصوفي اتهم اتباع الحركة بأنهم خالفوا الأسس العامة للإسلام وأن أسباب تشكك محيطهم يعود لسببين: «الأول يتعلق بترويج مبدأ انتفاء الحاجة إلى أداء التكاليف الشرعية (سقوط التكاليف) من صلاة وصوم وزكاة وحج وغيرها. والثاني يتعلق بتصورات اجتماعية أكثر انفتاحاً وتطوراً من قبيل المساواة الاجتماعية بين الرجال والنساء، والتكافل الاجتماعي وحقوق المرأة، ووجود إباحية في مجتمع ال»حه قه»، حيث كان الاختلاط بين الرجال والنساء سيد الموقف، كما أن الجانبين كانوا يسبحون معاً في أحواض السباحة برفقة الكلاب».
توفي الشيخ عبد الكريم شدله عام 1942، وتولى أمر المشيخة بعده أخوه مامة رضا العسكري، لكن احوال الحركة تضعضعت، وحدثت فيها انشقاقات، ربما كان أهمها انشقاق أحد اتباع الشيخ عبد الكريم المدعو حمه سور (محمد الأحمر) الذي نافس الشيخ مامه رضا العسكري وانشق عنه بجماعته التي عرفت باسم ال»حمه سورية» المغالية التي عاش اتباعها في قرى قرانكوي وكلاوقوت التابعة لناحية شوان. ويتذكر بعض العراقيين محاكمة المدعو حمه سور في نهاية الخمسينيات التي أذيعت تلفزيونيا، كما نشرت جريدة «الجمهورية» البغدادية وقائع المحاكمة، إذ اتهمته المحكمة بأن حركته تستند إلى مذهب الحلول والتناسخ، والإباحية التي طبقها عملياً بين أتباعه. كما اتهم حمه سور بادعاء النبوة زاعماً أنه نسخ الشريعة الإسلامية، وأن الله قد حل فيه، فكلامه هو كلام الله، وزعم أنه المهدي المنتظر، وكان يدعو الأهلين إلى ترك فريضة الصوم والصلاة، والدعوة. إلى إباحة النساء، والدعوة. إلى منع التناسل. حكم على حمه سور بالسجن لفترة، خرج بعدها وعاش لفترة طويلة في كردستان حتى توفي عام 1986.
وعن علاقة الحركة بالحزب الشيوعي العراقي يذكر رفيق مجيد عبالله في مقاله «حركة الحقة والحمسورية بين الإسلام والباطنية» المنشورفي مجلة جامعة دهوك: «عندما رجع فهد (سكرتير الحزب الشيوعي العراقي سلمان يوسف سلمان) من الاتحاد السوفييتي إلى العراق عن طريق إيران في عام 1943، جلب معه طابعة بمساعدة الحزب الشيوعي الإيراني (تودة)، فاستقر في قرية شدله في بيت الشيخ عبد الكريم والتقى هناك بحمه سور، فضلاً عن ذلك أنه حينما كان يضطر للاختفاء عن أنظار السلطات الملكية العراقية كان يلجأ دوماً إلى المكان نفسه (قرية شدله) النائية ويبقى فيه لفترات طويلة».
وتبقى هذه الحركة التي كانت قريبة من أفكار العدالة الاجتماعية الإسلامية، والمنادية بكرامة الإنسان، والمطالبة بحقوق المرأة، والمتبعة لأسلوب اللاعنف في مطالبها الاجتماعية والسياسية نموذجا حريا بالتتبع والدراسة وتسليط الضوء، خصوصا أن اتباع الحركة ما زالوا يعيشون في قراهم حتى اليوم.
كاتب عراقي[1]