“#الوحش الذي في داخلي#”.. وسرد سيرة الوحوش -عارف حمزة
رغم خروجه من بلدته #عامودا#، في أقصى الشمال الشرقيّ من سوريّة، التي ولد وعاش فيها طفولته ومراهقته، ومن حلب التي درس فيها الحقوق وشارك كتاباً من مختلف المناطق السوريّة في تشكيل ما سمّي “ملتقى حلب الجامعيّ”، ومن سوريّة كلّها منذ عام 2000 ليستقر في ألمانيا، إلا أنّ القاص والروائيّ الكرديّ/ السوريّ #حليم يوسف# لا تُغادر كتاباته تلك الأمكنة التي عاشها هناك، حتى في مجموعته القصصيّة “أوسلندر بيك” (2011) والتي تتحدّث عن المهاجرين الأجانب في ألمانيا، فإنّ أغلبهم جاؤوا من تلك الأماكن التي عاش فيها، أو مدّ بصره إليها. ويبدو أنّه في زياراته القليلة الأخيرة إلى مسقط الرأس، قد جمع المادة الخام لروايته الأخيرة “الوحش الذي في داخلي” الصادرة حديثاً عن دار صفصاف.يعود صاحب رواية “خوف بلا أسنان” إلى بلدته الصغيرة المنفيّة على الحدود السوريّة التركيّة ليروي حكايات “سالار” ورفاقه الذين يجتمعون في مرسم المعلم “آرام”، وحكايته مع حبيبته الوحيدة “مريم” ابنة مدرّسه “آلان” الذي تأخذه المخابرات، وينسونه في السجون، حتى يعثر أحد الموظفين هناك على إضبارته التي أكلت منها الفئران في مخزن ملفات المعتقلين السياسيين، فيفرجون عنه، رغم أنّه كان يستحق الإفراج منذ سنوات؛ بسبب عفو قديم من الأسد الابن. ولكن هذا النسيان لا يدفع ثمنه أحد سوى السجين الذي لا يُصدق أنه حصل على حريته أخيراً.
تجري الرواية بين تلك البيوت والمدارس وأناس الحارات المنسيّة والخائفة حتى من التمثال الضخم الذي يتوسّط البلدة، ويبدو أنّه وُضع هناك كي يبثّ الرعب المتواصل في الناس
“تجري الرواية بين تلك البيوت والمدارس وأناس الحارات المنسيّة والخائفة حتى من التمثال الضخم الذي يتوسّط البلدة، ويبدو أنّه وُضع هناك كي يبثّ الرعب المتواصل في الناس البسطاء”
البسطاء، وكأنّه يُراقبهم طوال الوقت، ويعمل، التمثال، كمُخبر على أفعالهم وأقوالهم وهمساتهم وأفكارهم ويشي بهم، وليكون أول ما تراه عينا “سالار” الذي تلده أمّه أمام ذلك التمثال في العربة التي كانت تقودها للمشفى.
“سالار” الذي يلتقي حبيبته “مريم” في المقبرة، إذ لا مكان أكثر أماناً في تلك البلدة الصغيرة، ويحفر قبراً لنفسه هناك، مع شاهدة تحمل اسمه وتاريخ ميلاده، ويصنع في ذلك القبر تجويفاً يحوي أوراقه وقصصه ورسائله لحبيبته التي دلّها على قبره في المرة الأخيرة التي يلتقيان فيها، سيتم إلقاء القبض عليه فيما بعد من قبل الأمن بسبب شكّهم فيه بأنّه كاتب كتاب يعود إلى جان بول سارتر ووضع غلافه سلفادور دالي، أو يعرف أين مكانهما الذي يختبآن فيه!!. والسخرية ستعود ليوسف عندما يستهزئ من جهل رجال الأمن الذين يواصلون البحث للقبض على كاتب مثل جان بول سارتر، أو مثل الفنان سلفادور دالي، أو مثل المخرج الكردي التركي يلماز غوني، أو الشاعر الكرديّ أحمد الخاني الراحلين منذ عقود طويلة ومختلفة. وسيُعاقبونه بالسجن لعشر سنوات دون ذنب ارتكبه.
رغم أنّ “سالار” سيدرس بالجامعة في بيروت، إلا أنّ الكاتب حليم يوسف يحذف تلك السنوات الأربع، ولا ينقل روايته إلى المكان الجديد، بل يبقى مخلصاً في سرد الأحداث الكارثيّة في عهدي “الأب والابن” في تلك البلدة التي كانت تعيش في توديع أبنائها إلى السجون والمقابر، أو إلى الجبال للالتحاق بالمقاتلين هناك. وبالتالي ستحتوي الرواية أحداثاً يعرفها الكثير من أبناء تلك البلدة، خاصة بعد وفاة الأب (حافظ الأسد) واستلام الابن (بشار الأسد). في هذين العهدين تحوّلت الكائنات البشريّة إلى وحوش مختلفة الأحجام والقوّة والضعف؛ وحوش الفساد ووحوش البعث ووحوش الأمن والسلطة ومن ثمّ وحوش الجهاد والفصائل التي جعلت هذه البلاد تتحوّل “شيئاً فشيئاً إلى كومة أنقاض خالية من البشر” (الصفحة 261). ولكن هناك وحوش أخرى كان الرئيس الأب قد عرف كيف يُروّضهم أو ينفيهم أو يقتلهم، وهي دلالة على أحداث سياسيّة دارت في مناطق مختلفة بعيدة عن المكان الذي تجري فيه الرواية؛ “كانت سيرة الوحوش قد عادت إلى التداول من جديد إثر موت الرئيس، منهم مَن تنبّأ باستغلال الوحش الكبير لموت الرئيس الذي روّضه شخصيّاً والتمكن من الخروج من قمقمه ليُثير الرعب والاستنفار بين الناس، ومنهم من تحدّث عن تحرّكات وحوش عاودت الظهور، وقد وقعت حوادث قتل ونهب تمّ إلصاقها بالوحوش على الفور، كما تضرّع خطباء الجوامع في أيام الجمعة إلى الله ليقيهم من شرور الوحوش. أشار الجميع إلى أنّ المنقذ الوحيد الذي يُمكنه قطع الطريق على انقلاب الوحوش وخراب البلاد هو ابن الرئيس الذي يُعتبر خير خلف لخير سلف” (ص 123). وبعد استلام الابن للسلطة ستختفي وحوش وستظهر وحوش جديدة إلى أن نصل إلى الوقت الذي تبدأ وحوش مختلفة في تدمير المكان، ويدخل فيه الجهاديّون إلى المكان، وتعتاد الناس العيش في مكان يُذبح فيه الناس وتُقطع الرؤوس وتُعلّق على أعمدة عالية. واعتياد الناس يُحولّهم رويداً رويداً إلى وحوش تحمل ذلك الوبر الكثيف على جلودها، ومن فوق مؤخرة كل واحد أو واحدة منهم يتدلّى ذيل طويل.
فانتازيا
الفانتازيا التي يدخلها يوسف في هذه الرواية سبق أن استخدمها في مجموعاته القصصية السابقة مثل “الرجل الحامل” و”نساء الطوابق العليا” وحتى في روايته الأولى “#سوبارتو#”. وتحوّل
“هنالك وحوش أخرى كان الرئيس الأب قد عرف كيف يُروّضهم أو ينفيهم أو يقتلهم، وهي دلالة على أحداث سياسيّة دارت في مناطق مختلفة بعيدة عن المكان الذي تجري فيه الرواية”
الناس إلى وحوش هي مقولة تبدأ منذ افتتاح الرواية، وتصبح هاجسها وهاجس شخصيّاتها، إلى أن يتحوّل البطل نفسه “سالار” إلى وحش من تلك الوحوش الغريبة الشكل والمظهر. وهي مقولة تذهب إلى فضح ومحاولة فهم وتهشيم الاعتياد الذي تغرق فيه الناس خلال عيش الديكتاتوريّة والتسلّط وتغييّب الحريّات والناس، وصولاً إلى سجنهم وقتلهم وذبحهم من دون ذنب وبدم بارد.
“سالار” هو الراوي الذي يتجوّل في المكان وفي حيوات شخصيّات المكان، وينقل لنا الأحداث بلغة سلسة غارقة في بساطتها، في ثمانين فصلاً، متجوّلة في حاضر الشخصيّات وماضيها. ويوسف، الذي يكتب باللغتين العربيّة والكرديّة، وتُرجمت بعض أعماله إلى لغات مثل التركيّة والألمانيّة، ينتقل بين شخصيّاته أيضاً بسلاسة العارف حتى بدواخل تلك الشخصيّات، وكأنّه يكتب شهادة عن مرحلة امتدّت لما يُقارب الخمسين عاماً. الشهادة بمعنى أنّ ما يجري سرده تمّ سرده شفاهيّاً ويعرفه أبناء ذلك المكان، والأماكن الأخرى التي خضعت لعهدي الأب والابن. هي “رواية كرديّة” كما دوّن على غلاف الرواية، وكأنّها شهادة من ذلك الصوت الذي ينمحي ويظهر بحسب ظهور الوحوش وبحسب غيابها المؤقت.[1]