#صلاح كرميان#
من المؤسف حقا ان يضطرنا الواقع السياسي المرير الذي خيم على مجمل نواحي حياتنا الى الحديث عن المآسي والمعاناة الانسانية بدلا من الحديث عن التنمية والتطور والتفاعل الانساني الحضاري مثل بقية شعوب العالم المتقدمة.
بدون شك هناك اسباب ودواعي عديدة ادت الى خلق ذلك الواقع السياسي، من اهمها سيطرة القوى الاستعمارية على المنطقة ورسمها للخارطة السياسية وفق متطلبات مصالحها وخلقها لكيانات سياسية ومن ثم توظيف انظمة عميلة للقيام بالادوار المرسومة لها مع خلق مشاكل اقليمية عالقة يمكن اثارتها لزعزعة الاستقرار وخلق مبررات من شانها التدخل متى ما شاءوا. ومن الاسباب المهمة الاخرى لهذا الواقع المتخم بالويلات والمآسي هي بروز الافكار القوموية ذات النزعة الشوفينية على غرار الافكار النازية والفاشية اللتان ظهرتا في كل من المانيا وايطاليا في مطلع القرن الماضي. مهدت انهيار الامبراطورية العثمانية ظهور الحركة الطورانية بزعامة كمال اتاتورك في توركيا والحركة القوموية العربية التي كانت شبلي شميل و جرجي زيدان و ساطع الحصري وميشيل عفلق من ابرز دعاتها. وجاء حزب البعث الفاشي الذي اسسه ميشيل عفلق مجسدا لتلك الافكار واتشرت في الشرق العربي وبالاخص في سوريا والعراق. لم تكن الدوائر الغربية غافلة باتجاهات تلك الافكار وقد تسارعت لتهيأة الظروف اللازمة للعناصر البعثية للاستحواذ على السلطة في سوريا ومن ثم في العراق بهدف التصدى للقوى التقدمية والتحريرية والقضاء عليها بعد ان ادركت تناميها و تغلغلها في اوساط الجماهير ودورها في الوقوف ضد المخططات الاستعمارية في المنطقة.
لذا بدأ البعثييون في سوريا فور مجيئهم للسلطة بعمليات التطهير العرقي بتنفيذ خطة الحزام العربي في المناطق الكوردية وباشروا بحملات الترحيل القسري والاعتقالات والمذابح الجماعية. وفي العراق وبعد ان استطاع البعثيون القيام بانقلابهم الاسود في 8 شباط عام 1963 ساروا على نفس النهج الشوفيني و بدأوا بتشكيل ميليشات الحرس القومي فور استلامهم السلطة، وقامت عصاباتهم باقتراف ابشع الجرائم الابادة الجماعية بحرق القرى والقصبات في كوردستان وترحيل سكانها وزج عشرات الالاف منهم في غياهب السجون والمعتقلات و سارعوا الى تطبيق الاحكام العرفية واتباع سياسة التعريب في كثير من المناطق الكوردية.
واعادوا الكرة ثانية بعد عودتهم الى السلطة في انقلابهم المشؤوم في 17 تموز 1968 واستمروا في تطبيق نهجهم الشوفيني بعد ان فشلت مناوراتهم في القضاء على الاحزاب والقوى السياسية المناوئة لهم تحت شعار الجبهة الوطنية والقومية التقدمية او باسم احلال السلام في الشمال الحبيب وفق بيان 11 آذار التي لم تكن الا مؤامرات دنيئة لتصفية القياديين من اعضاء الاحزاب والتيارات التقدمية والوطنية وذلك بشتى الوسائل سواءا بتصفيتهم او اعتقالهم او استمالتهم بالتهديد والاغراءات المادية.
أن الافكار العروبوية المتجسدة في البعث العفلقي وكما اشرت اليها سابقا تأثرت بالافكار النازية في نهجها وسياساتها، فقد تبنى البعثيون الاشتراكية القومية التي دعا اليها الحزب النازي بزعامة هتلر، ومثلما كان النازيون يدعون تفوق العنصر الاري ويعادون شعوب الارض الاخرى، تغنى البعثيون بخلود رسالة الامة العربية وتبنوا بعثها من جديد وتنكروا لوجود كل القوميات والاقليات العرقية والطائفية التي تعيش مع الشعب العربي في مناطق تواجدهم وتعدى ذلك الى اظهار الحقد الشوفيني ضد شعوب دول الجوار مثلما شهدنا معاداته للشعب الايراني وليس النظام الاسلامي في ايران اثناء الحرب العراقية الايرانية ووصفها لهم بالفرس المجوس .
باشر البعثيون رسم سياساتهم في القضاء على الأقليات القومية المتآمرة وفق منظورهم من الكورد و الاثنيات غير العربية التي تعيش في العراق وسوريا و السودان و دول شمال أفريقيا وغيرها والتي حسب مفهومهم سينقذ العرب من المخاطر والعراقيل امام مشروع البعث. وكان البعث ينظر الى هذه القوميات والجماعات الاثنية على أنها عقبات أمام خلق مجتمع عربي موحد. وان ابادتهم يعني إزالة تلك العقبات على طريق المجتمع العربي المنشود وازالة للمخاوف التي تنجم من محاولات تلك الأقليات في إقامة كيانات مستقلة بهم والانسلاخ من الوطن العربي وذلك وفق الايديولوجية القوموية التي رسم خطوطها ميشيل عفلق حيث يقول ان الكورد في سوريا والعراق والبربر في المغرب العربي يشكلون العرقلة امام مشروع الوحدة العربية ويجب افناءهم. و لكون الحركة التحررية الكوردية من ابرز الحركات التي كانت تواجهها الايديولوجية البعثية، دأب البعث على تشويه سمعة تلك الحركة واعتبرها من اكبر الحركات خطرا على الأمة العربية و أمنها القومي ونعتها بشتى النعوت كالعمالة ومحاولتها خلق اسرائيل ثانية وظلت تثقف اعضاءها و مناصرييها بانها تشكل خنجرا في ظهرالعراق الذي يحول دون قيامه بأداء واجباته القومية في تحرير فلسطين .
استغل البعث ظروف الحرب مع ايران التي اشعلها النظام بايعازمن الغرب لكسرشوكة النظام الاسلامي في ايران ووقف تصدير ثورته الى دول الجوارمما دفع الغرب الى اطلاق يد النظام وغض النظرعن مخططاته والقيام بجرائمه في الابادة الجماعية و بالاعتماد على الامكانيات المادية والعسكرية الهائلة التي تمتلكها العراق من خلال واردات النفط. كما وتعتبرثقافة العنف التي جسدها البعث في عمليات الأغتيال و المؤامرات و العنف في العمل السياسي منذ تأسيسه واستمر في تبنيها حتى بعد تمكنه من الوصول الى السلطة واصبح مثالا نموذجيا في هذا المجال، احد العوامل المهمة في خلق الاجواء المناسبة لتنفيذ تلك الجرائم يالاضافة الى ثقافة الفرهود الذي كان جزءا من التراث القبلي المتخلف الذي جسده الفكر البعثي وجعله جزءا من ثقافة النظام واتباعه خلال نهب ممتلكات سكان المناطق التي تستهدفها جحافل الموت البعثية ولعبت دورها في اغراء عناصره الاجرامية في تنفيذ سياساته اللاانسانية.
ا
رغم تبني كل انواع السياسات الا ان البعث لم يتمكن من القضاء على الحركة الكوردية التي شهرت السلاح بوجه سلطة البعث التي كانت تسيطر على كل تلك الامكانيات الهائلة للعراق، لذا التجا البعث الى اتباع سياسة الارض المحروقة في كوردستان وتغيير الواقع الجغرافي والسكاني للمناطق الكوردية وخاصة المناطق الاستراتيجية منها مثل كركوك التي تعرضت الى سياسة التطهير العرقي بطرد سكانه الاصليين وجلب عشرات الالاف من الوافدين من المواليين للنظام اليها.
بدات طائرات النظام بشن هجمات مدمرة وبشكل واسع مستخمة كل ما لديه من صنوف الاسلحة بما فيها اسلحة الدمار الشامل مستهدفة المناطق الاهلة بالسكان في قرى وقصبات كوردستان بحجة القضاء على التمرد الكوردي وقد شملت الهجمات استخدام السلاح الكيمياوي ضد المدنيين العزل كما حدثت في مدينة حلبجة ظهر يوم 16/3/1988 التي اودت بحياة 5 الاف شخص معظمهم اطفال ونساء وجرح ضعف ذلك العدد اضافة الى تسميم المزروعات و نفق الحيوانات وتلوث البيئة البشرية. وقد استمرت القوات العراقية في استخدام الاسلحة الكيمياوية عن طريق الغارات الجوية والقصف المدفعي في مناطق وادي باليسان وشيخ وسانان وجافايةتي وسةركةلو وبةركةلو وقرى عسكر وكوبتةبة كما وطالت قرى وقصبات مناطق بادينان.
جاءت تلك الهجمات ضمن خطة شاملة مرسومة ومعدة لها بشكل منظم وتحت اسم عمليات الانفال نسبة الى سورة الانفال القرآنية التي جاءت بشأن معارك المسلمين ضد قبائل القريش الرافضين لدعوة محمد للدخول في الاسلام وعلى ضوءها حللت اموالهم ونساءهم.
وقد بدأ النظام بحملات الانفال باسم مسح القرى وعبأت كل الامكانيات العسكرية والمدنية لتنفيذها، وبناءا على توجيهات السفاح علي حسن المجيد الذي اوعز الى القائمين بتلك العمليات مستهزءا بالقيم والاعراف الدولية باشرت الجرافات والبلدوزرات وفرق الهندسة العسكرية بتدمير القرى والقصبات والمدن واحدة تلو الاخرى الى ان وصلت تعدادها 4500 قرية و قصبة و مدينة وسوق سكانها افواجا افواجا اطفالا و نساءا ورجالا بالشاحنات العسكرية الى حيث لا يدرون. عم الرعب والهلع والارتباك واليأس والقنوط عموم ارجاء كوردستان واصبح كل فرد يتسائل عن مصير هؤلاء الابرياء لا بل الهلع والخوف اصبح يجد طريقه الى قلب كل كوردي الذي اصبح مصيره ومصير اطفاله يهدده الحقد البعثي الاسود وبدت الافاق تضيق بالناس كأن القيامة التي كانت الاجيال تتناقلها قد حلت مع قدوم جحافل الموت البعثية واصبح شبح السلاح الكيمياوي والسفاح علي حسن المجيد يترآئ امام انظار الجميع. لقد حلت الكارثة الحقيقية في الموت الجماعي لشعب آمن يطالب بحريته مثل باقي شعوب الارض في الانفالات المتلاحقة التي فاقت بشاعتها جرائم اعتى الطغاة على مر التاريخ، واصبح مصير المؤنفليين الشغل الشاغل للناس واحاديث تتناقل في الخفاء. لقد فعل البعثييون فعلتهم وحققوا حلم منظرهم وسوقوا اكثر من 180 الافا من الابرياء الى المجهول الى ان كشفت المقابر الجماعية على امتداد العراق مع سقوط الصنم.
لم تكن الانفال والابادة الجماعية بالاسلحة الكيمياوية نتيجة رفض الكورد الانتماء الى نسيج الشعب العراقي بل ان الشوفينية كانت تبغي من وراءها محو الهوية الكوردية وطمسها وخنق الاصوات المطالبة بتحرير الانسان الكوردي من التبعية واندماجه ضمن بوتقة العراق العربي وذلك بخلق هوية عراقية لامة ذات ثقافة موحدة وعندما عجزت في خلق تلك الهوية بشتى السبل باشرت في تنفيذ حملات الانفال. ولم تكن عمليات الانفال تستهدف الانسان الكوردي فحسب بل استهدفت البيئة السكانية في كوردستان ايضا حيث جرت فرض الحصار الاقتصادي على كل القرى والقصبات الكوردية وقطع كل سبل الحياة فيها واعتبرت تلك المناطق مناطق محرمة حيث كانت الطائرات العمودية تقوم بدوريات على مدار اليوم وتقتل من يصادفها من البشر والحيوانات .
ان ما يدعو الى القلق والاستغراب انه على الرغم من تبيان حقيقة البعث والافكار والممارسات العقيمة التي كان يمارسها وازالة الستارعن الجرائم البشعة بحق الشعب العراقي عامة والشعب الكوردي بصورة خاصة هوّ ان العقلية البعثية تبدو هي المسيطرة على اساليب وممارسات كثير من الاحزاب التي كانت بالامس في خندق معارضة النظام وان كثير من قادة الفصائل السياسية التي حاول الوصول الى المواقع الاساسية في الحكم تطلق تصريحات تفوح منها روائح الفكر الشوفيني والتي تعيد الى الاذهان الفكر الذي كان يتبناه النظام الدكتاتوري في اتباع سياساته في تعامله مع القضايا الحيوية والتي كانت من نتاجها ارتكاب جرائم الانفال والقتل الجماعي باستخدام الاسلجة الكيمياوية لا بل تحاول تبرير حملات الانفال او التقليل من شأنها رغم سقوط النظام الديكتاتوري واكتشاف مئات المقابر الجماعية التي تضم رفات المؤنفلين. وتبدو ان المواقع السياسية في عراق ما بعد صدام تسحر الذين يتبوؤنها وينسون ماضيهم و يتخلون عن شعارتهم القديمة ويحاولون من حيث يدرون او لايدرون تكرار تجارب الماضي ويساهمون في خلق تلك الاجواء التي سبقت وان حفزت العقلية الشوفينية البعثية على ارتكاب تلك الجرائم اللاانسانية. الخطرالحقيقي يكمن في عدم ادراك الاحزاب السياسية لنتائج السياسات التي يتبعونها وعدم الاستفادة من تجارب الماضي وتكرارها لعدم تبنيهم النظرة الواقعية الى الامور الحيوية وتمسكهم بخطوط سياساتهم الضيقة و عدم تمكنهم من التخلص من العقلية البعثية في التعامل مع الاحداث والوقائع و محاولتهم الغاء الاخر. فاذا ما استمرت تلك الحالة على ما هي عليها فان المستقبل سيشهد تكرار التجارب المأساوية وربما باشكال اخرى لا تقل خطورة من جرائم نظام البعث.
مرت سبعة عشر عاما على تنفيذ جرائم الانفال الهولوكوستية ورغم سقوط النظام والقبض على معظم اركانه الا انه ولا تزال الالاف من المجرمين الذي شاركوا في التنفيذ الفعلي لاوامر الطاغية المهزوم صدام حسين و والسفاح علي حسن المجيد من كبار ضباط الجيش والقياديين البعثيين وضباط الامن والمخابرات وتجار الحروب من مرتزقة الجحافل الخفيفة احراراً طليقين، لا بل انخرطوا في صفوف الاحزاب السياسية وتبوؤا مواقع مهمة في اجهزة الدولة ليس في العراق فحسب بل حتى في كوردستان التي تدار من قبل الاحزاب الكوردستانية. كفى الشعارات وكفى التبريرات السخيفة فدماء ضحايا المؤنفليين ودموع الثكالى واليتامى الذين لا زالوا بانتظار ذويهم لن تغفر للمتواطئيين مع هؤلاء المجرميين بل تطالب بمحاكمتهم امام محاكم خاصة بجرائم الانفال لينالوا جزاء افعالهم وترى من اجتثاث البعث و العقلية البعثية مهمة تاريخية ملحة. هذه دعوة الى قادة الاحزاب السياسية وخاصة الكوردستانية منها واصحاب السلطات والنفوذ في عراق ما بعد صدام للقيام بدورهم واثبات اخلاصهم لشعبهم فهل من مجيب؟
* القيت في الامسية التي اقامها المركز الثقافي الكوردي/ استراليا للشعراء والكتاب العراقيين من العرب والاشوريين تحت عنوان الانفال في الضمير العراقي بتاريخ 3/4/ 2005 في سيدني.[1]