ٲ.د. فَرسَت مرعي
حركة جعفر الكردي في عهد الخليفة المعتصم باﷲ العباسي
224 – 226 ه / 839 – 841 م
$الخلاصة$
يتناول هذا البحث الحركة التي قام بها جعفر الكردي ضد السلطة العباسية في عهد الخليفة الثامن المعتصم باﷲ . حيث ثار جعفر الكردي مع اتباعه من الكرد وغيرهم في منطقة بابغيش الواقعة الآن في منطقة (ميرگه سور) التابعة إداريا لمحافظة أربيل. وبعد تصدي والي الموصل له انحاز جعفر الكردي الى منطقة داسن الواقعة شرق مدينة الموصل . وتمكن فيما بعد من قتل والي الموصل (عبداﷲ بن السيد بن انس الأزدي)، وهذا ما جعل الخليفة المعتصم ان يرسل قائده (إيتاخ التركي ) على رأس جيش كبير، حيث تمكن الأخير من الانتصار على جعفر الكردي وقتله وسبي نساء الكرد وأطفالهم ونقلهم الى مدينة تكريت، كما تم صلب جثة جعفر الكردي في مدينة سامراء بجانب بابك الخرمي و مازيار الطبرستاني.
$المقدمة$ .
لقد واجهت الخلافة العباسية في أيام الخليفة العباسي الثامن المعتصم باﷲ محمد بن هارون الرشيد (218 – 227ﮪ / 833 – 842) العديد من الحركات المعارضة لها، كان أخطره بلا شك حركة بابك الخرمي (201 223 ه / 816 838م) () تلك الحركة التي استترفت الطاقات والإمكانيات العسكرية والاقتصادية التي كانت تتمتع بها الخلافة العباسية، لذا فقد أولى الخليفة العباسي المأمون مسألة القضاء على ﮪذه الحركة أهمية كبيرة، وقد تمثل ذلك الاهتمام في وصيته لأخيه المعتصم بأن يتفرغ لهؤلاء الخرمية ويبذل كل ما في وسعه للقضاء عليهم ()
لذا كانت من أولى واجبات المعتصم باﷲ ألا يألو جهدﹰا في مقاومة هذه الحركة والتصدي لها والعمل بجد وحزم للقضاء عليها، وقد دامت هذه الحركة حوالي عشرين عاماﹰ استمرت من 201– 816م / لغاية 222 ه – 837م.
وبعد القضاء على حركة بابك الخرمي وإعدامه سنة 223ﮪ / 838م اندلعت في المناطق الجبلية الواقعة شرق مدينة الموصل حركة أخرى قام بها (جعفر الكردي ) يتبعه عدد كبير من الكرد وغيرهم ممن كانوا يتذمرون من تعسف الولاة العباسيين، وقد كانت المدة الزمنية لهذه الحركة قصيرة مقارنة بالحركة الخرمية فلم تتجاوز حسب أرجح الروايات التاريخية أكثر من سنتين.
$الأمير جعفر الكردي$
لقد اتفقت المصادر على أن اسم قائد هذه الحركة ﮪو (جعفر) ، ولكنها اختلفت في ضبط اسم أبيه، فقد ورد عند الطبري (ت 310ه / 922م) بصيغة (مهرجيش) ، وجاء عند الازدي (ت 334ه / 945م) بصيغة (مرخوش) ، فيما جاء عند المسعودي (ت 346ه / 957م) بلفظة (مهرجيش) ، بينما ورد عند ابن الأثير (ت 630ه / 1232م) على شكل (فهرجس) ، وعنه نقل ابن خلدون (ت 808 ه / 1405م) هذه التسمية .
ورغم أن الطبري يعد أقدم مؤرخ أشار إلى هذه الحركة، غير أن التسمية التي أوردها معاصره الازدي (مرخوش) ﮪي الأقرب للصواب وذلك لأن تسميات مهرجيش، وفهرجس، وفهرجيس، لا تعني شيئاﹰفي اللغتين العربية والكردية، رغم أن المقطع الأول من الاسم لدى بعض الباحثين المعاصرين (مهر) قريب من كلمة المير التي تعني الأمير في اللغة الكردية ، ومع كل هذا فقد حاول بعضهم التعسف في ربط صيغة (جيش) أو (جيس) بالاسم (حسن ) الذي تم تصحيفه حسب اعتقادهم وبناءً على ما تقدم فإن اسم والد جعفر هو (الأمير حسن)
ولكن صيغة (مرخوش) المصححة فاللفظة الكردية (مير خوش) تعني في اللغة الكردية(خوشمير – الأمير الشجاع)، والتي هي صفة له هي أكثر انطباقﹰا واتساقاً مع اسم الأمير الكردي جعفر، كما أن هذه التسمية تتطابق مع جغرافية المنطقة التي جرت فيها حوادث هذه الحركة على مرحلتين سواءً في بداياتها في منطقة (بابغيش –بانغيس – ماتعيس ) أو في نهاياتها في منطقة داسن اللتان تقعان ضمن مدى الناطقين باللغة الكردية – اللهجةالكرمانجية الشمالية .
كما يجب أن لا ننسى أن هذه الصيغة جاءت عند المؤرخ الموصلي (الأزدي) لأنه المصدر الأصلي لكل المعلومات التاريخية الخاصة بالموصل وأطرافها، فضلاﹰ عن ذلك أنه أول مؤرخ كتب عن تاريخ هذه المدينة، وليس في الكتب التي ألفت بعده وعنيت بتاريخ الموصل أية زيادة لم يذكرها الأزدي، وعلى سبيل المثال فأن أحداث حركة جعفر الكردي التي تطرق الى ذكرها المؤرخ ابن الاثير الذي عاش في
الموصل وشغل بتاريخها وألف فيها كتابا خاصا – قد نقل كل المعلومات التاريخية الخاصة بالموصل – ولما كان الجزء الثالث من تاريخ الأزدي مفقودﹰا الذي يبتدئ بعد سنة (224 ه / 839م)، فأن ابن الأثير يذكر عنها الشيء الكثير وخاصة أحداث هذه الحركة التي نحن بصددها والنهاية التي آلت إليها على أساس أن ابن الأثير قد نقل عنه أي عن الأزدي ولم يشر إليها وظل صامتا ، ولكن التطابق في المعلومات والتشابه بينهما كثيرة، حيث أن ابن الأثير يعرف الأزدي وأن كانت المدة التاريخية التي تفصلهما عن بعض هي ثلاثة قرون، فقد ذكر في مقدمة كتابه (أسد الغابة في معرفة الصحابة) بأن الازديمصدر أساسي أعتمد عليه.
ولكن هنا قد يسأل سائل إذا لماذا هناك فرق في تسميةوالد جعفر الكردي بين هذين المصدرين؟ وللإجابة على هذا يظهر أن هناك تصحيفاً ما من قبل نساخ وكتاب نقلة تاريخ الازدي، لأنه كما ذكرنا آنفاً أن صيغة (ميرخوش) هي التسمية الاقرب للحقيقة بدليل أن هذه التسمية لا زالت منتشرة بين الكرد المعاصرين الى وقتنا الحالي.
أما بشأن اسم القبيلة التي ينتمي إليها جعفر ميرخوش الكردي، فأن المصادر لا تسعفنا بهذا الخصوص، لأن هناك تباينا في أسماء القبائل الكردية خلال المدة الزمنية التي دونت بها المصادر المختلفة، لأن هناك ظاهرة ملفتة للنظر عند دراسة تاريخ القبائل الكردية وهي التغيير الحاصل في أسماء هذه القبائل بين الذين أرخوا لها من حقبة الى أخرى، وربما يعود بعض هذا الى انقسام بعض هذه القبائل الى فروع متعددة وإتخاذ بعضها من اسم المكان الذي استقرت فيه فيما بعد أسماؤها، حيث يمكن القول على هذا الأساس بأن القبيلة الكردية هي قبيلة أرض وليست قبيلة نسب، وهي أقرب في أصلها إلى (القرية) تتجول في مرابع صيفية (زوم) وأخرى شتوية ، ويبدو هذا واضحا في إشارة أبن حوقل (ت 367ه/977م) إلى حركة القبائل الكردية بقوله: ((ينتجعون في الشتاء والصيف المراعي والمصائف والمشاتي إلا القليل منهم على حدود الصرود، فأما أهل الجروم فلا يزلون ولا ينتقلون بل يترددون فيما لهم من النواحي…)) .
أما بالنسبة للقبائل الكردية ومناطق انتشارها وتوزيعها جغرافياً فيكاد يكون المسعودي البلداني والمؤرخ الأول الذي تطرق إلى هذه الناحية حيث ذكر أسماء ستعشرة قبيلة كردية وهي : ((البازنجان (المازنجان) الشوهجان والشاذنجان والنشادرة والبوذيكان واللورية والجوزكان (الجورقان ) والجاوانية والباريسان والجلالية (الكلالية) والمستكان والجابارقة والجروغان والكيكان والماجردان والهذبانية وغيرهم…)).
وبخصوص أماكن إنتشار هذه القبائل جغرافيا فقد أشار إليها المسعودي مرتين، الأولى في كتابه (التنبيه والأشراف) ولكن بصورة غير متجانسة، حيث خصص أقاليم كثيرة تقع بعضها ضمن نطاق المنطقة الكردية والأخرى خارجها، أما المرة الثانية فقد ذكرها في مؤلفه الآخر (مروج الذهب ومعادن الجوهر ) بتحديد أقرب إلى الدقة العلمية، مع اختلاف في أسماء بعض القبائل التي يبدو أنها ترجع الى التصحيف أثناء نقل النصوص.
على أية حال فأن المسعودي لا يفيدنا في الموضوع بقدر ما هو ربط الحلقات التاريخية الخاصة بأسماء القبائل الكردية وأماكن إنتشارها . حيث يبدو أن ملاحظات ابن حوقل الجغرافية ببهذا الصدد تميط اللثام إلى حد كبير عن الحقيقة. فهو يقول بخصوص إنتشار القبائل الكردية في منطقة الموصل ((… ولها بوادٍ وأحياء كثيرة تصيف في مصائفها وتشتو في مشاتيها من أحياء العرب وقبائل ربيعة ومضر واليمن وأحياء الأكراد كالهذبانية والحميدية واللارية…)) .كما أنهميتركزون في قرية جوزي من نواحي الموصل في جبال الهكارية، ويستقرون في جبل داسن شمال الموصل من الجهة الشرقية لنهر دجلة يقال لهم الداسنية .
فيما أشار ياقوت الحموي (ت 626ه / 1228م) المتأخر نسبيا عن سلفيه المسعودي وأبن حوقل، إلى أسم أكثر من عشر قبائل كردية وحدد أماكن توزيعها .
ولكن بخصوص موضوع بحثنا فقد أتفق ياقوت الحموي مع ابن حوقل بخصوص قبيلة الداسنية على أنها أستقرت في الجبال الواقعة شمال مدينة الموصل، فيما إتنتشرت قبيلة الهكارية في الإقليم الذي سمي باسمها .
بناءً على ما سبق يبدو أن هناك عدة قبائل ربما يكون أصل جعفر الكردي منها وهي: 1- الهذبانية 2- اللارية 3- الداسنية 4- الهكارية 5- الحميدية.
ولما كانت مرابض قبلية الهذبانية تقع خارج نطاق حركة جعفر الكردي إستنادﹰا إلى ما يفهم من مقولة أبن حوقل وكانت المناطق الواقعة بين نهري الزاب الكبير والصغير تتميز بمراعيها الكثيرة وضياعها العامرة وقد اتخذها الأكراد الهذبانية مشاتي لهم، لذا فأنه تستبعد هذه القبيلة من إحتمالية أن يكون أصل جعفر الكردي منها، أما اللارية فان مساكنها تقع في إقليم اللر (لورستان) ، لذا فأنها هي الأخرى تستبعد من الأمر.
ولما كانت القبيلتان الداسنية والهكارية تنسبان إلى الاقليمين الذين سميا بأسمائهما، لذا يظهر بأن جعفر الكردي ربما ينتسب إلى القبيلة الكردية التي ينتمي إليها الأمير الكردي المعروف باسم (باد) الحاربختي على أساس أن (الحاربختي) ﮪي إحدى فروع قبيلة الحميدية، وإن ديار قبيلة الحميدية تقع في منطقة عقرة (آكرى) التي تعد من أعمال الموصل والواقعة في شرقيها.
كما أن هناك دليلاﹰ آخر يمكن أن تدعم الرأي القائل بانتساب جعفر الكردي إلى الحميدية وهو أن البلداني العمري (ت في سنة 749ه / 1349م) ذكر بأن المازنجانية وهم جماعة ينتسبون إلى الحميدية مشهورون من دون الأكراد بالفروسية .
ولكن مع ذلك فأنه لا يمكن الجزم بانتساب جعفر الكردي لهذه القبيلة أو تلك، وما أورده العديد من الكتاب والباحثين الكرد المعاصرين بهذا الخصوص لا تخرج عن كونها تكهنات أو اجتهادات شخصية لعبت فيها العاطفة والاعتبارات السياسية والفكرية دوراﹰ كبيراﹰ.
أسباب قيام الحركة
لا تذكر المصادر أسباب محددة لقيام حركة جعفر بن ميرخوش الكردي بعكس بعض الحركات المعارضة الأخرى التي سبقتها، ولكن يبدو من سياق الاحداث التاريخية التي عصفت بمدينة الموصل وأطرافها إن حركات الخوارج بشتى فرقها كانت منتشرة في غالبية أراضي الجزيرة الفراتية والتي تعد مدينة الموصل أحدى قطاعاتها، إذ كلما زادت الدولة العباسية من الضغط على هذه الحركة وأتباعها فأنهم سرعان ما ينكفئون إلى المناطق الجبلية الواقعة شمال وشرق الموصل حيث ديار الكرد ذات الطبيعة الجبلية الوعرة طلباﹰ للاختباء والأمان .
كما أن منطقة الموصل شهدت صراعات ونزاعات عديدة بين ألقبائل العربية الشمالية (الترارية) والقبائل العربية الجنوبية وربيعة بلغت ذروتها في الصراع الدامي الذي جرى بين قبليتي همدان والازد للسيطرة عليها. فضلاﹰعن ذلك أن قبيلة شيبان العربية المعروفة ببأسها وسطوتهاكانت قد انتشرت في أطراف الموصل لاسيما في شرقيها .
كما لا يمكن نسيان السيرة السيئة وسياسة الشدة التي اتبعها الولاة العباسيون الذين تولوا مقاليد الأمور في الموصل، وهذا ما أحدث استياءً لدى جميع مكونات المنطقة من العرب والكرد وغيرهم، وكانت باكورة أعمالهم المذبحة التي دبرﮪا والي الموصل العباسي محمد بن صول – مولى خثعم – بدعم من والي الموصل الجديد أخ الخليفة يحيى بن محمد بن عبد اﷲ بن العباس وقتل من جرائها الآلاف من سكانها ، مما جعل الموصل ناقمة على العباسيين ، وأخذت ردات فعل عنيفة جعلت البعض يخرجون من الموصل إلى منطقة بابغيش البعيدة عن الموصل وذات التضاريس الوعرة لمحاربة الدولة والانتقام منها، وهذا ما فعله أيضا جعفر الكردي عندما خرج على الدولة إبتداءً من منطقة بابغيش.
الموقع الجغرافي لأحداث حركة جعفر الكردي
قبل الدخول في تفاصيل الأحداث التي جرت بين جعفر الكردي وبين ولاة وقادة الخلافة العباسية (العمليات العسكرية)، لابد من تحديد جغرافي لميدان الحركات سواءً في مراحلها الأولى في منطقة بابغيش – ماتعيس، أو في نهاياتها في منطقة داسن حتى تكون الصورة واضحة وذلك لأن الطبيعة الجغرافية للمنطقة تتميز بوعورتها وعدم وجود تحديد دقيق لمواقع مدنها وقصباتها وقراها بالنسبة لحواضر المدن المهمة القريبة منها كالموصل، وهذا ما جعل مصادر البلدانيين تعاني من فقر واضح في هذا المجالفضلاﹰ عن عدم دقتها.
وبخصوص بابغيش أو ماتعيس على حد تعبير أبن الأثير، فلا ذكر لها في كتب البلدانيين عدا الإشارة التي وردت عند الاصطخري (ت 300ه / 912م) أن كور الموصل هي:
((تكريت… بابغيس…)) ولعلها بابغيش التي عرفﮪاياقوت الحموي (ت سنة 626ه/ 1228م) بقوله: ((ناحية بين أذربيجان وأردبيل يمر بها نهر الزاب الأعلى)) ، ويبدو أنياقوت خلط بين مدينة (اربل – أربيل – هولير ) وبين مدينة أردبيل الواقعة في إقليم أذربيجان وكانت في وقت من الأوقات قاعدة له، فضلاﹰ عن ذلك أن نهر الزاب الأعلى(الكبير) ينبع من بلاد الزوزان الواقعة في إقليم أرمينيا (كردستان تركيا الحالية) ويمر بمنطقة داسن في طريقه للالتقاء بنهر دجلة جنوب مدينة الموصل بالقرب من مدينة الحديثة، ولا علاقة لنهر الزاب بإقليم أذربيجان سوى أنه يمر بالجهة الغربية القصية منه.
وقد وقع العديد من الكتاب والباحثين الكرد في إشكالية عندما حاولوا تحديد موقع بابغيش – ماتعيس، فهذا محمد أمين زكي يذكرها بصيغة (باباكيس) ولا يحدد موقعها، وعنه ينقل ملا أنور المائي المعلومة دون تمحيص،بينما ذكرﮪا جميل الروزبياني بصيغة (ماتعيسى) التي لم ترد في أي مصدر تاريخي وعرف موقعها بأنها قد تكون في موضع باعشيق (بعشيقة). فيما أوردها باحث آخر بصيغة غريبة وهي أنه عرفها نقلاﹸ عن ياقوت الحموي بقوله : ((موقع بين أربيل وأصفهان ويمر بالقرب منها نهر الزاب الصغير )). وهذا النقل عن ياقوت مجانب للصواب كلياً فتعريفه قد أوردناه ﹰآنفا، بعدها حدد موقعها بأنها تعرف اليوم باسم (مهت) أو (مهتا عيسو) نسبة إلى الأمير عيسى الدومبلي .
ويبدو أن التشابه في التسمية حدا بأحد الباحثين الى القول : ((لم تحدد المصادر البلدانية موقعها، غير أن هناك مجمع (سكني) للكرد اليزيدية تابعة لعين سفني (قضاء الشيخان) باسم (مهتا عيسويى ) فيحتمل أنهانفسها (أي المجمع السكني المعروف باسم مهت)، فيما أوردها باحث آخر مؤكداﹰ على أنها مانكيش ((لعلها ناحية مانكيش)) ، وقد نسج على منواله الباحث (كرفان ئاميديى) في موضعين دون تدقيق .
أما بخصوص الباحثان الآخران فقد تجاهل القس سليمان الصائغ في معرض حديثه عن حركة زعيم الكرد جعفر الكردي الإشارة إلى الموقع الجغرافي لماتغيش – ماتعيس وإنما ذكرها ومر عليها مرور الكرام، في الوقت الذي عرف جبل داسن . أما الباحث سعيد الديوه جي فقد أشار إليﮪا في ذكره لحركات الخوارج بقوله: ((…وكان جعفر قد تحصن في باتعيس– بابغيس فأخرجه عنها عبد اﷲ، فالتجأ جعفر إلى جبل داسن …)) ولكنه عرف بابغيس استنادﹰا إلى تعريف ياقوت في الهامش .
أما بخصوص منطقة (داسن) التي جرت فيها الأحداث الأخيرة لحركة جعفر الكردي فإن بعضا من مصادر البلدانيين المسلمين أشارت الى إنها إحدى كور الموصل. فيما تطرق ابن حوقل على أنها اسم منطقة يمر بها نهرالزاب (الكبير)، أما ياقوت الحموي المتأخر عنه نسبياًفقال عنه : ((اسم جبل عظيم في شمالي الموصل من جانب دجلة الشرقي، فيه خلق كثير من طوائف الاكراد يقال لهم الداسنية)) . ورغم هذهِ الإشارات فإن هذهِ المصادر لم تستطع تحديد منطقة حدود داسن ولو بشكل تقريبي.
أما إذا رجعنا الى المصادر السريانية فنلاحظ بأن (داسن) هو اسم منطقة محددة لها مدينة خاصة بها لم تحدد موقعﮪا بدقة، ولكن يبدو من سياق الأحداث أنها تقع شمال شرق مدينة العمادية في الضفة الشرقية من نهر الزاب الكبير .
وداسن هو مرعيث تابع لمطرافوليطية حدياب (أربيل) ورد في المصادر الكنسية التي ترتقي الى القرن الخامس الميلادي ، وإن حدودها تبدأ من منطقة نحلا (نهله – نهرا ) وهو الوادي الفسيح الواقع وراء سلسلة جبل عقرة جنوباﹰ وتمتد نحو الشمال، يحدها شمالاﹰ مرعيث بيث بغاش (بابغاش – بانعيش) وشرقاﹰ مرعيث بانوهدرا (نوهدرا)، ومع ذلك فان احد الباحثين يحدد هذه المنطقة ب(برواري بالا ) على ضوء المعلومة التي ذكرها محقق كتاب (الرؤساء) لتوما المرجي ، وتشكل داسن مناطق القبائل النسطورية (الآثورية) الأصلية كتياري وتخوما وبازي وغيرها في العصور المتأخرة جدا.
ويظهر من سير الأحداث التاريخية أن حدود داسن قد توسعت بعض الشيء، خاصة من الناحية الغربية والجنوبية، حيث يذكر توما المرجي: أن مطران حدياب أربيل (مارنعمه) أي معناه (الرب معه ) قد أخذ كل مقاطعة نحلا (نهلا – دينارته) وطلانا (به ری گاره – جنوب العمادية) التابعة لمرعيث مركا (أي منطقة المرج) الواقعة شرق الموصل وألحقها بمرعيث داسن ، لذلك وصلت حدود منطقة داسن الى الجبال الواقعة شرق وشمال الموصل، وأصبحت هذه الاجراءات سارية المفعول في القرون اللاحقة.
لذا يبدو من المعطيات الانفة الذكر أن هناك توافقا ما بين البلدانيين المسلمين والمصادر السريانية بشقيها الكنسي والتاريخي في التعريف لمنطقة داسن بعد التغييرات الأخيرة، وهذ يبدو جليا في قول ابن حوقل: ((أن نهر الزاب يمر بﮪا)) ، فمن المعلوم أن نهر الزاب الكبير يمر في الجهات الواقعة شرق مدينة العمادية، كما أن إنضمام مقاطعتي نهلا – نحلا وطلانا الى منطقة داسن من الناحية الكنسية ربما حدا بياقوت الحموي وهو متأخر نسبيا الى إطلاق إسم جبل داسن على الجبال الواقعة في شمال مدينة الموصل . وبعدها بعدة قرون اطلقت تسمية إمارة داسن على إمارتي (عين سفني) و (دهوك) قبل أن تلحق الاخيرة بإمارة بهدينان في أواخر القرن العاشر للهجرة السادس عشر للميلاد . كما أن بعض المؤرخين أطلقوا تسمية القبائل الداسنية على القبائل الكردية التي كانت تعيش في المنطقة الآنفة الذكر شمال وشرق مدينة الموصل .
ومن الجدير بالذكر أن بعض المؤرخين السريان المحدثين يطلقون على منطقة داسن اسم (بيثطوري)، أي بمعنى (منطقة الجبال) ، وذلك لأنهاتعني عندهم: ((تسمية آرامية (سريانية قديمة ) تعني العدو أو المبغض)) . فضلاﹰ عن ذلك أنها منطقة معروفة بتضاريسها الجبلية الوعرة.
سير أحداث الحركة:
اختلف المؤرخون في تحديد السنة التي أعلن فيﮪا جعفر الكردي حركته، فبينما يقول الطبري أثناء ذكرهِ لحوادث سنة 227ه : ((وفي هذهِ السنة أظهر جعفر … الكردي الخلاف…)) ، نرى الازدي يذكر: ((وفيها [ أي سنة 224ه] خالف جعفر … الكردي على السلطان…)) ،أما ابن الأثير فقد اتفق مع الأزدي في توقيت خروج جعفر بأعمال الموصل…)) ، وتابعه على ذلك ابن خلدون بقوله: (( وفي سنة أربع وعشرين ولى المعتصم على الموصل عبدالله بن السيد أنس الأزدي، وكان سبب ولايته أن رجلاً من مقدمي الأكراد يعرف جعفر… كان قد عصى بأعمال الموصل…)) .
ولكن الشيء الملفت للنظر أن رواية الطبري كانت مقتضبة جداﹰ إذ لا تتجاوز السطرين إلا قليلاﹰ ، بينما روايتا الأزدي وابن الأثير أكثر إسهابا واستطرادﹰا ، فمن المعلوم أن الطبري معروف بذكر المعلومات الدقيقة في غالبية الأحداث التي يوردها مع سندها، ولكنه في هذهِ الحادثة – اعتمد الاختصار الشديد في ذكرها – حيث لم يتطرق البتة الى ماهية (الخلاف) العصيان الذي أظهره جعفر الكردي ، ومقدماتهِ أي بدايات الخروج . فالذي أورده الطبري أن الخليفة المعتصم أرسل قائده (إيتاخ) لإخماد حركة جعفر الكردي في شهر محرم سنة 227ه ، وبعدها بقليل يقول ان المعتصم قد احتجم في أول يوم من المحرم سنة 227ه (أيضا) وإعتل عندها (أي مرض) ، فلا يعقل أن يرسل المعتصم جيشاﹰ كبيرﹰا بقيادة قائدهِ الشهير (إيتاخ) وهو في مرض موتهِ، بل الأرجح أن رواية ابن الأثير التي ذكرها بأسلوب التضعيف هي الأظهر التي يقول فيها: ((وقيل: إن إيقاع إيتاخ بجعفر كان سنة ست وعشرين، واﷲ أعلم)) ، ومما يزيد الامر تأكيداﹰ أن أبو الفضايل الحموي وهو مؤرخ معاصر لابن الاثير حيث توفي بعد سنة 631ه - 1233م يذكر رواية مفادها : ((… ودعا المعتصم الآفشين فألبسه وشاحين مكللين بالجواهر، حتى سنة خمس وعشرين ومائتين وفيها صلب المعتصم الافشين وأحرقه وقتل جعفر الكردي الذي تتشائم به الاكراد )) ، رغم ذلك أن أحد الباحثين الكرد المعاصرين أصر على رجحان رواية الطبري بهذا الخصوص .
ولمحاولة التوفيق بين رواية الطبري من جهة ورواياتالأزدي وابن الأثير والحموي من جهة أخرى، لا بد من القول بأن جعفر الكردي كان قد ثار في (منطقة بابغيش )في سنة224ﮪ ضد الدولة العباسية وهي من أعمال الموصل، فقام الخليفة المعتصم بتقليد عبدالله بن السيد أنس الأزدي على الموصل وأمره بالتصدي لهذه الحركة وقمعها، وفعلاً قام الوالي عبدالله بن أنس الأزدي بالتوجه الى منطقة بابغيش وتمكن من إخراج جعفر الكردي من هذه المنطقة، حيث توجه الأخير الى منطقة داسن الملاصقة لها من جهة الغرب وذات التضاريس الوعرة،فضلاﹰ عن قربها من مدينة الموصل، وإتخذ من إحدى مواضعها الجبلية العالية الوعرة ملجأﹰ وملاذاً له وهي بيندناس .
من كل ما تقدم يظهر بأن التحديد الجغرافي لميدان حركات جعفر بن ميرخوش الكردي ضد الخلافة العباسية قد خلق إشكالاﹰ لدى العديد من الكتاب والباحثين على أقل تقدير في مرحلة إنطلاقها في منطقة (بابغيش – ماتعيس )، لذا فانه لحل هذه الأشكال لابد من الإستئناس بالمصادر السريانية الكنسية منها والتاريخية.
وما تجدر الاشارة أن كنيسة المشرق عقدت ثلاثة عشرة مجمعاًﹰ رسمياً عام 410م وحتى سنة 775م جمعت في مجلد تحت اسم (جامع المجامع والقوانين الشرقية) في عﮪد البطريرك طيمثاوس الأول (780 – 823م / 164 – 208م). وقد نشر المستشرق الفرنسي (شابو) هذا العمل في ترجمتهِ من اللغة السريانية الى اللغة الفرنسية في باريس عام 1902 تحت عنوان (المجامع الشرقية ) ،وترجمه الى اللغة العربية لأول مرة الباحث العراقي (يوسف حبي) مع إضافات أخرى باسم (مجامع كنيسة المشرق) .
وقد احتوى هذا المصدر على العديد من صيغ (بابغش – بغش – بيت بغاش) كاسقفية تابعة لمطرافوليطية (مطرانية ) حدياب (أربيل وأنحائها ) في أعمال مجمع مار اسحق الذي عقد عام 410م، حيث وقع أسقف بابغيش (مارينوس ) على أعمال المجمع تحت رئاسة الأسقف (دانيال ) مطراب حدياب .
وترد هذه الألفاظ (بابغيش…) في أعمال مجامع أخرى إنعقدت لاحقاﹰ . ومن جانب آخر فإن صيغة (بابغاش – جبل بغاش – بيث بغاش) اعتمدت في العديد من سير الآباء والبطاركة ورجال الدين النصارى كمقر أسقفية تابعة لمطرافوليطية حدياب، أو كمحل للرهبان الذين يتعبدون في الكهوف والمغارات الواقعة في جبالها.
وجاء في أحد المصادر الكنسية أن اسقف بابغاش طيماثاوس (طيمثاوس) إستطاع أن يحصل من والي الموصل موسى بن مصعب (الخثعمي) على إعفاء أبرشيته من الضرائب (الجزية) ، بمساعدة كاتبه ابو نوح الانباري، وهذا يدل على أن بابغاش كانت تابعة إداريا ً لولاية الموصل.
وكان موسى بن مصعب قد حكم ولاية الموصل في خلافتي أبو جعفر المنصور والمهدي في سنة 154 ه / 770مالى سنة 155ه/ 771م، وسنة 157 ه/ 772م، ومن سنة 165 ه/ 781م لغاية سنة 167ه / 783م .
ولما كان الأسقف طيمثاوس اقيم اسقفا ًعلى منطقة بابغاش نحو سنة 769م– 770م ، 152 ه – 153م ، لذا فإنهاصبح جاثليقاﹰ (بطريركا ًسنة 778م / 162ه) أي قبل الولاية الثالثة لموسى بن مصعب عام (165 – 167 / 781 – 783م) في عهد الخليفة العباسي المهدي (159 – 169ه / 775 – 785م) .
وعلى السياق نفسهِ فان صيغة (بيث بغاش ) وردت مرات عديدة في مصدر كنسي آخر، مع تحديد قرية (بي)، كمركز لأسقفية بيثِ بغاش، وتحوي في الوقت نفسهِ مراقد لاساقفة هذه الأبرشية .
وقد حاول الباحثون السريان المحدثون تحديد موقع (بابغاش – بيث بغاش)، فعرفها (جان موريس فيه) بقولهِ: ((إن المنطقة بيث بغاش أبرشية نسطورية سميت لاحقاً شمدينان )) ، كانت في بداية القرون الوسطى تضم أقليم حدياب الكنسي في آشور [ أربيل ] وهذهِ الأبرشية يأتي ذكرها على إمتداد قرون عدة من القرن الخامس الى القرن الثالث عشر الميلاديين ،ويبدو أنها إختفت في القرن السابع عش وكان مقرها في منطقة غير معروفة إسمها باي)) .
فيما جاء تعريف بيث بغاش عند (البير ابونا) على النحوالتالي: ((بيث بغاش منطقة واقعة شرق داسن وشمالي سلاخ (منطقة شقلاوة ورواندوز) وهي تشمل المناطق الشرقية التي كان الآثوريون [ النساطرة الجبليين ] يسكنون غربي أورمية، كبيت شمس الدين وكاور وغيرها…. وكانت بيث بغاش عائدة الى مطرافوليطية حدياب)) . أما يوسف بابانا فقد عرفها بقولهِ: ((جبل بيث بغاش يعرف الأسم باسم جبل سفين قرب شقلاوة التابعة لأربيل)) .
ويبدو أن الإختلاف في التحديد الجغرافي الدقيق لبيث بغاش بين الباحثين الكنسيين الثلاثة، ناتج ربما من إعتمادهم على مصادر قديمة يشوبها الغموض والتناقض ، فجاءت تعاريفهم لمنطقة بيث بغاش على غرار ذلك . ولكن على أية حال فان أحد الباحثين الكنسيين المحدثين ربما اقترب من التحديد الدقيق لبيث بغاش بقولهِ : ((إن بخشاش [ قرية ] ليست إلا (بيث بغاش ) الكرسي الأسقفي التابع لأبرشية حدياب المترامية الأطراف، وكانت تضم 19 كرسيا ًأسقفيا ًبعد القرون المسيحية الأولى، أما بي أو بياو فهي (باي) قاعدة بيث بغاش)) . لذا يظهر أن المنطقة التي كانت تسمى بغاش- بيت بغاش – بيث بغاش، ليست الا قرية ( بيخشاش) الواقعة ضمن عشيرة الشيروانيين التابعة للاتحاد البارزاني، ومركز بيت بغاش يقع في قرية بياو (بيى) التابعة بدورها لعشيرة الشيروانيين ايضاً التي تقع ديارها ضمن قضاء ميركه سور التابعة ادارياًلمحافظة اربيل.
وفي سنة 225ه/ 840م تحرك والي الموصل (عبداﷲ بن السيد بن أنس الأزدي) على رأس جيش قاصداﹰ منطقة (داسن) في شرقي الموصل، حيث تسلق الجيش سلسلة الجبل المطل على قرية سوق الاحد (يبدو انه جبل خيرى الواقع في منطقة شمكان الحالية الواقعة بين ناحيتي أتروش ومريبا ) للهجوم على المكان الذي اتخذه جعفر الكردي مقراﹰ له. وكان الأخير قد كمن في مضيق جبلي ضيق يدعى (بيندناس ) وفق رواية الأزدي، وهو موضع عالٍ فيهِ لا يرام والطريق اليهِ ضيق حسب تعبير ابن الأثير. ولكن والي الموصل توغل في تلك السلاسل الجبلية الوعرة والمرتفعة بغية الوصول الى جعفر ولمقاتلتهِ والقضاء على حركتهِ وإخمادها مثلما فعل في منطقة(بابغيش) سابقاﹰ. ولكن يبدو من سياق الأحداث أن جعفراً كان قد استوعب الدرس من خسارتهِ السابقة واتخذ الإحتياطات اللازمة ، حيث استطاع استدراج جيش والي الموصل الى منطقة جبلية ضيقة يصعب القتال فيهِ على جيش نظامي يتخذِ من الكر والفر والمناورة مبدأ له، فضلاﹰ عن أن معظم أفراده كانوا من الفرسان، كما ان غالبية تموين الجيش وتجهيزاتهِ ربما كانت محمولة على ظهور الحيوانات التي كانت تلاقي صعوبة شديدة في تسلق هذهِ المنحدرات الشديدة. ومهما يكن من أمر فقد وقع جيش الموصل في الكمين الذي نصبهِ له جعفر الكردي، وألحقت بهِ هزيمة قاسية حيث قتل الوالي عبداﷲ بن السيد بن أنس الأزدي وغالبية أفراد جيشهِ ، وأسر الباقين وكان من ضمنهم إثنان من قادة الجيش وهما عمه (اسحاق بن أنس الأزدي) وقريبِه (اسماعيل بن عون التليدي)، وقد قتلهما جعفر ولم يحترم صلة المصاهرة التي تربطه بعم الوالي (اسحاق بن السيد أنس الأزدي) .
وعلى السياق نفسه فان ابن الاثير يذكر رواية لاترد في مصادر اخرى مفادها أن شحصاً اسمه رباح : ((حمل على الاكراد، فخرق صفوفهم، وطعن فيهم، وقتل، وصار وراء ظهورهم، وشغلهم عن أصحابهم، حتى منهم ما أمكنه النجاة، فتكاثر الاكراد عليه، فا لقى نفسه من رأس الجبل على فرسه ، وكان تحته، فسقط الفرس في الماء ونجا رباح)) .
إن قتل جعفر للأسرى لم يكن له ما يبرره سوى أن نتيجة هذا الفعل كانت وبالاﹰ عليهِ وعلى ابناء قومهِ ، وقد يتحجج البعض أنه فعل ذلك لأنه كان شديد النقمة على جنود والي الموصل ومتحمساً للانتقام منهم، وهو كان فعل ذلم عندما تمكن من تدمير جيش والي الموصل وقتل قائده ( والي الموصل نفسه). ويعلل ابن الأثير سبب هزيمة والي الموصل ، بأن الكرد كانوا أعرف بمواضع تلك المنطقة الجبلية لأنها ديارهم ، فضلاﹰ عن ذلك أنهمكانوا يستطيعون القتال رجالاﹰ دون ركوب الخيل، حيث كان موضع القتال يناسب ذلك.
نهاية الحركة
عندما وصلت أخبار هزيمة والي الموصل الى الخليفة المعتصم في سامراء أمر قائده التركي (إيتاخ) للإستعداد والتهيء للقضاء على حركة جعفر الكردي في منطقة الموصل . والروايات بشأن توقيت مسير (إيتاخ) لمقاتلة (جعفر) مختلفة، فإبن الأثير وكذلك إبن خلدون يذكران بأن (إيتاخ ) تجﮪز وسار الى الموصل سنة 225 ه/ 841 م ، وفي رواية ثانية لابن الأثير بصيغة التضعيف يقول فيها : ((وقيل: إن ايقاع إيتاخ لجعفر كانت سنة ست وعشرين…)) ، ويظهر بأن الرواية الثانية هي الأرجح بدليل أن الخليفة المعتصم كان قد عين (إيتاخ) واليا ًعلى اليمن سنة 225ﮪ / 841 م حيث يقول الطبري في هذاالصدد: ((وفيها [ أي سنة 225ه] غضب المعتصم على جعفر دينار… وعزله عن اليمن، وولاها إيتاخ…)) .
ومن جهة أخرى فان (المازيار بن قارن) كان قد ثار على الخليفة المعتصم في منطقة طبرستان سنة 224ه / 840 م، و تمكنت الجيوش العباسية بعد معارك عديدة من أسره وجلبهِ الى حاضرة الخلافة العباسية (سامراء) في شهر شوال سنة 225ه/ 841 م . حيث مات في سجنهِ في شهر ذي القعدة سنة 225ه/ 841 م ، وصلب الى جانب بابك الخرمي .كما أن الدينوري يذكر في رواية له أن جعفر الكردي صلب الى جانب بابك ومازيار، فلا يعقل أن تخمد حركة جعفر الكردي ويقتل سنة 225ه/841 م ويصلب الى جانب بابك ومازيار، حيث أن الأخير مات في سجنه نهاية سنة225ﮪ / 842 م ، حيث أنه بعد قتله إياه صلب الى جانب بابك والمازيار في ميدان العقبة في مدينة سامراء .
وفعلاﹰ تجهز إيتاخ وسار الى الموصل سنة 226ه/ 842م، ومنها تحرك شرقاً نحو مدينة سوق الأحد (ملي سوكا حالياً) قاصداً جبال داسن حيث معاقل المقاتلين الكرد بقيادة جعفر الكردي .
ويبدو من سياق رواية ابن الأثير أن جعفر كان مستعدﹰا للقاء إيتاخ وجيشهِ، وقد كان من نتيجة هذهِ المعركة هزيمة المقاتلين الكرد، ومقتل قائدهم جعفر، فضلاﹰ عن وقوع العديد منهم في الأسر، وفي رواية أخرى لإبن الأثير أوردﮪا بصيغة التضعيف ذكر فيها أن الأمير الكردي شرب السم وفضل الموت على أن يسلم نفسه لإيتاخ .
وعلى أية حال فإن إيتاخ جمع الأسرى والنساء والأطفال ونقلهم الى مدينة تكريت . حيث أسرف القائد التركي إيتاخ في الحاق الظلم بالأبرياء من الكرد الذين لا ذنب لهم ، ويبدو ان هذا الاجراء غير المبرر هو الذي دعا المؤرخ (ابو الفضايل الحموي) الى القول: ((… وفيها صلب المعتصم الافشين وأحرقه وقتل جعفر الكردي الذي تتشائم به الاكراد)) ، أما بخصوص جعفر فقد نقلت جثته الى مدينة سامراء ، حيث تم صلبه الى جانب بابك الخرمي ومازيار الطبرستاني، وهذا أبلغ دليل على أن حركة جعفر الكردي كانت تشكل خطراﹰ كبيراﹰ على الدولة العباسية مثلها في ذلك مثل الحركة البابكية والمازيارية.
وهذا ما جعل العديد من المؤرخين والبلدانيين كابن الفقيه الهمداني، والمسعودي ، وإبن دحية الكلبي وغيرهم يصفون قضاء المعتصم على حركة جعفر الكردي بأنها إحدى المآثر التي سطرها في خلافتهِ، حيث قضى على العديد من الحركات المعارضة : كالبابكية والمازيارية وفتح مدينة عمورية في عمق بلاد الروم البيزنطيين وغيرها.
وكان لعمل الخليفة المعتصم أثره في تأخر ظﮪور كيان كردي مستقل استقلالاﹰ ذاتيا ًأو منفصلاﹰ عن الخلافة العباسية، بعكس اخيه الخليفة المأمون الذي سمح للفرس بتكوين أول امارة لهم في خراسان وهي: الامارة الطاهرية، وعلى إثرها بدأ الفرس في تكوين امارات مستقلة خاصة بهم كالصفارية والسامانية وغيرها.
$الاستنتاجات$
من خلال الدراسة توصل الباحث الى الاستنتاجات التالية:
1- تحديد المدة الزمنية للحركة ما بين سنتي 224 – 226ه / 839-841م.
2- ضبط اسم والد جعفر(ميرخوش) على أرجح الروايات التاريخية، التي تتفق مع الواقع الاجتماعي للشعب الكردي في العصر الاسلامي.
3- تحديد المنطقة الجغرافية التي بدأت منها الحركة في (بابغاش) وهي منطقة عشيرة الشيروانيين الواقعة ضمن الاتحاد البارزاني، والتابعة حالياً لقضاء ميرگه سور في محافظة اربيل.
4- هذه المنطقة ولا زالت منبع الرجال الشجعان الذين لا يسكتون على الظلم والضيم، والتاريخ الاسلامي والحديث والمعاصر أبلغ دليل على ذلك.
5- بيان المنطقة التي انتهت فيها الحركة في منطقة (داسن )، وهي منطقة شمكان وبرواري ژێرى (السفلى) التابعة لناحيتي مريبا وأتروش العائدتين لقضاء الشيخان (عين سفني )، فضلاﹸ عن تعريفها.
6- كانت الروايات التاريخية التي دونها كل من ﹸألازدي وابن الاثير بخصوص الحركة أكثر دقة من روايات الطبري.
7- تمت الاستفادة من المصادر السريانية بشقيها الكنسي والتاريخي في إكتشاف المواقع الجغرافية لميادين الحركة، وضبط حدودها.
8- كان لفشل الحركة نتائج سلبية تمثلت بتأخر الكرد في إقامة كيان سياسي خاص بهم على أقل تقدير في العصر العباسي الأول.
9- كان لفشل الحركة وقيام القائد العباسي إيتاخ التر كي بسبي نساء واطفال الكرد ونقلهم الى مدينة تكريت أكبر الاثر في نفوسهم ، مما حدا بهم الى التشاؤم والانزواء لمدة ليست بالقصيرة.
10- إستعمال القسوة غير المبررة في إخماد الحركة، لاسيما بعد مقتل قائد الحركة (جعفر الكردي)، وعدم ضرورة القيام بسبي النساء والاطفال ونقلهم الى تكريت في عصر كان الالتزام بأحكام الشريعة الاسلامية هي السائدة.[1]