ٲ.د. فَرسَت مرعي
القسم الاول:
هناك خاصية متميزة في الإسلام وهو أنه دين ديناميكي واقعي يفي بمتطلبات الدنيا والآخرة معاً، ولكنه في الوقت نفسه لا يسمح بالمؤثرات والفلسفات الأخرى أن تكون جزءاً من بنيته أو نسيجه، أي بعبارة أخرى أنه دين يبني مرتكزاته العقدية على الأصالة فحسب، ويبني متغيراته على الأصالة والمعاصرة معاً.
فالعقيدة والأحكام والأخلاق فيه ثابتة ثبات الجبال الشامخات، والفقه والمعاملات فيه متغيرة بتغيير الزمان والمكان. ومع ذلك فإنه يرافض رفضاً قاطعاً إجراء عمليات تغيير جذرية أو راديكالية تمس جوهره كما حدث لأديان أخرى سماوية وأرضية، هذه الميزة أو الخاصية أكسبته مرونة طيلة تاريخه الذي يمتد لأكثر من الف وأربعمائة عام. فلا عجب أن تنادت أصوات نشاز من بين أتباعه بإحداث تغيير في هذا السياق ليشمل تغيير القاعدة الكلية الآنفة الذكر، ولكنه كان على الدوام يلاقي معارضة صلبة، لأنه لو حدث تغيير بنيوي فيه على غرار بعض الأديان الأخرى السماوية وغير السماوية التي أصبحت إلى حد ما تلفيقية، لأصبح ديناً بالأسم فقط جوهره يحوي شذرات من الوحي ممزوج بالفلسفة والأفكار الأخرى.
ولما كان النوروز أو النيروز عيداً شرقياً شمل أمماً وطوائف كثيرة تمتد جغرافياً من هضبة البامير والتبت شرقاً مروراً بالهضبة الإيرانية و كردستان وإنتهاءاً بمصر النيل غرباً، لذا لا يستطيع الباحث أن يحدد أمة أو عرقاً بعينه صاحب هذا العيد، ولكن الفرس بما لهم من حضارة عريقة قبل الإسلام: العهد الأخميني (559-331 ق.م) والعهد الفرثي – الأشكاني (250-226 ق.م) والعهد الساساني (226ق.م – 640م) استطاعوا استغلال هذه المناسبة وجعلها حكراً على جنسهم، لأن غالبية الأمم الأخرى من كرد وبلوش وبشتون وصغد وطاجيك كانوا يعتبرون من رعاياهم، فلا مناص من اعتبار النوروز والمهرجان وغيرها مما يتميز به الفرس.
فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال:[ قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال ( ما هذان اليومان ) قالوا ( كنا نلعب فيهما في الجاهلية ) فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر]( ). رواه أبو داود بهذا اللفظ حدثنا موسى بن إسمعيل حدثنا حماد عن حميد عن أنس، ورواه أحمد والنسائي وهذا إسناد على شرط مسلم. وتذكر بعض المصادر أنهما كانا يوما النوروز والمهرجان( )، فنهاهم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عن الاحتفال بهما، ودعاهم الى الاحتفال بعيد الفطر والاضحى، لأن خشي أن يكون الاحتفال بهذين العيدين الفارسيين إحياء وترويج لشعائر الجاهلية. ورمى من وراء دعوتهم الى الاحتفال بالعيدين الاسلاميين: الفطر والاضحى، التنويه بشعائر الدين الجديد، وليجعل من هذه الاحتفالات الاسلامية فرصة لذكر الله وعبادته وإظهار الطاعة له، وليجمع لهم كذك، الى متعة الاحتفال الدنيوية، متعة العظة الروحية. ففي عيد الفطر يفرح المسلمون بما قدموه خلال شهر الصوم من ألوان الطاعة والعبادة ويحتفلون بانتهاء الصوم واستقبال الفطر احتفالاً يجمع بين متعة الروح ومتعة البدن. وفي عيد الاضحى يتمثل المسلمون أيضاً نعمة رضاء الله على من أطاعه من عباده حين يذكرون قصة ابراهيم (عليه السلام) يوم هم بذبح ولده اسماعيل وكيف أنعم الله عليهما بأن فداه بذبح عظيم. والى جانب هذه المعاني الدينية السامية التي يتمثلها المسلمون في احتفالاهم بعيد الاضحى ينعمون أيضاً بما في العيد من متع دنيوية. وهكذا ترى أن النبي (عليه الصلاة والسلام) لم يشأ أن تمضي احتفالاتهم في ظل دينهم الجديد دون أن تجمع العظة الدينية الى جانب البهجة الدنيوية. وأراد أن يتخذ من أيام بهجتهم ومرحهم فرصة للافادة من دينهم، وتمكين أمره بينهم حتى لا ينفصل دينهم من دنياهم، وليذكروا دينهم عندما يحتفلون بشؤون دنياهم، وليذكروا دنياهم عندما يقبلون على أمور دينهم( ).
ومر عهد صدر الاسلام ولم يكن لهذا العيد ولا لغيره من أعياد الفرس القديمة شأن عند العرب في المجتمع الاسلامي. وعندما احتفل بعض الدهاقين في خلافة علي بن ابي طالب بهذا العيد وقدموا اليه هدية مما صنعواه من الحلوى لم يكن رضي الله عنه يعرف شيئاً عن مناسبة هذه الهدية، فلما سأل، قيل له إنه يوم نوروز. فقال مازحاً متفكهاً: نوروزنا كل يوم( ).
وفي روايات عن الشيعة الامامية بهذا الخصوص: و منها ما رواه الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا:”وَ أُتِيَ عَلِيٌّ ع بِهَدِيَّةِ النَّيْرُوزِ فَقَالَ عليه السلام مَا هَذَا قَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمُ النَّيْرُوزُ فَقَالَ عليه السلام اصْنَعُوا لَنَا كُلَّ يَوْمٍ نَيْرُوزاً( )”. و في رواية أخرى قال:”نیرزونا كلُّ یوم”( ).
و في روايه أخري عن دعائم الاسلام :” انَّهُ أُهْدِيَ إِلَيْهِ فَالُوذَجٌ فَقَالَ(عليه السلام): مَا هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمُ نَيْرُوزٍ.
عليه السلام): فَنَيْرِزُوا إِنْ قَدَرْتُمْ كُلَّ يَوْمٍ يَعْنِي تَهَادَوْا وَ تَوَاصَلُوا فِي اللَّهِ”( ).
ووجه الدلالة: أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال: [إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين ]، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما كقوله تعالى :{ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}، وقوله تعالى:{ وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}، وقوله تعالى :{فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم}، وقوله تعالى:{ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب}، ومنه الحديث في المقبور: [فيقال له أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به خيرا منه مقعدا في الجنة ويقال للآخر انظر إلى مقعدك من الجنة أبدلك الله به مقعدا من النار]، وقول عمر رضي الله عنه للبيد((ما فعل شعرك، قال :أبدلني الله به البقرة وآل عمران))، وهذا كثير في الكلام ، فقوله صلى الله عليه وسلم:[قد أبدلكم الله بهما]، خيرا يقتضي ترك الجمع بينهما لا سيما قوله خيرا منهما يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية، وايضا فقوله لهم :[ إن الله قد أبدلك]، لما سألهم عن اليومين فأجابوه إنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضا بيومي الإسلام إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسبا إذ أصل شرع اليومين الواجبين الإسلاميين كانوا يعملونه ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية، وفي قول أنس بن مالك ” ولهم يومان يلعبون فيهما”، وقول النبي (صلى الله عليه وسلم):[إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما] دليل على أن أنسا رضي الله عنه فهم من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) أبدلكم بهما تعويضا باليومين المبدلين، وأيضا فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد خلفائه ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه لكانوا قد بقوا على العادة إذ العادات لا تغير إلا بمغير يزيلها؛ لا سيما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوقة إلى اليوم الذي يتخذونه عيدا للبطالة واللعب، ولهذا قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم لقوة مقتضيها من نفوسهم وتوفر همم الجماهير على اتخاذها، فلولا قوة المانع من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لكانت باقية ولو على وجه ضعيف فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا وهذا أمر بين لا شبهة فيه، فإن مثل ذينك العيدين لو عاد الناس إليهما بنوع ما مما كان يفعل فيهما إن رخص فيه كان مراغمة بينه وبين ما نهى عنه، فهو المطلوب والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموما، ولو لم يكن أشد منه فإنه مثله على ما لا يخفى إذ الشر الذي له فاعل موجود يخالف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له( ).
وبخصوص موقف الإسلام من النوروز فهناك آثار ترجع إلى الخلفاء الراشدين والصحابة حولها وفحواها: وبالإسناد إلى أبي أسامة، عن حماد بن زيد، عن هشام عن محمد بن سيرين قال:” أتي علي (رضي الله عنه) بهدية النيروز. فقال: ما هذه؟ قالوا يا أمير المؤمنين هذا يوم النيروز. قال فاصنعوا كل يوم نيروزاً. قال أبو أسامة: كره رضي الله عنه أن يقول: نيروزاً”( ).
وأما قول ابن تيمية المتوفى سنة 728ﮪ /1328م بخصوص كره الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب لموافقتهم في لفظ عيد النيروز الذي ينفردون به، فكيف يوافقهم في العمل. يبدو أن محقق الكتاب اشار إلى هذه النقطة في الهامش في معرض التعليق بقوله: لقد ذكر البيهقي في سننه الكبرى تحت لفظ فيروز، ربما كره الإمام علي أن يقول نيروزاً – حسب تعليل أبي أسامة – فقال: فيروزاً.
ومن المعلوم أن لفظة فيروز ترد في اللغتين الفارسية والكردية بمعني مبارك، أي أنت عندما تبارك لشيء ما تقول له باللغة الكردية (بيروزبت)، فضلاً ان بعض الملوك الفرس وبعض الشخصيات الفارسية والكردية جاء إسمها بلفظة (پيروز)، وعندما يحاول النحاة العرب تعريب كلمة (پيروز) فإنهم يغيرون الپاء الفارسية المثلثة إلى الفاء، فتتحول كلمة پيروز إلى فيروز.
ورغم ذلك قال البيهقي في شرحه لهذا الأثر وفي هذا” الكراهة لتخصيص يوم بذلك لم يجعله الشرع مخصوصاً به”، أما شيخ الإسلام ابن تيمية فعلق على ذلك قائلاً: ” وأما علي رضي الله عنه، فكره موافقتهم في إسم يوم العيد الذي ينفردون به، بكيف بموافقتهم في هذا العمل. يبدو أن هناك تصحيفاً في كلمة الفيروز ولولا ذلك لما علّق عليها شيخ الإسلام ابن تيمية التعليق الآنف الذكر.
ومن جانب آخر فقد روي بإسناد صحيح عن أبي أسامة، حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو (ابن العاص) قال: “من بنى ببلاد الأعاجم، فصنع نبروزهم ومهرجانهم وتشبه فيهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة”( ).
وأما عبد الله بن عمر بن الخطاب فصرّح قائلاً:” من بنى ببلادهم (بلاد الفرس)، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم” ( ).
والسؤال الذي يتبادل إلى الذهن: لماذا قبل الإمام علي بن ابي طالب هذه الهدية وقالوا اصنعوا كل يوما نيروزاً أو فيروزاً إذا صح قول التصحيف، لأنه لو أراد المنع أو حرّمه لكان قد قال قولاً يفي المطلوب بصورة لا لبس فيه.
وهذا ما حاول الباحث السعودي (الدكتور سفر الحوالي) في كتابه جاهداً التأكيد على حرمة الإحتفال بالنيروز والمهرجان واعتبار ذلك من الكبائر المحرمة، وكل واحدة من هذه الأمور منكر بعينه( ).
ومن جانب آخر كانت هناك عادة دفع الضريبة من قبل الشعوب الخاضعة للدولة الفارسية الساسانية في عيدي النوروز والمهرجان، ولما جاء الإسلام ألغى هذه الضريبة باعتبارها غير شرعية، ولم يتم أخذها في خلافة الراشد الثاني عمر بن الخطاب(13-23ﮪ/634- 644م) الذي اعتبرها ضريبة غير شرعية، وهو الذي حطم الإمبراطورية الفارسية الساسانية، وحدث أول احتكاك مباشر في عهده بين المسلمين الفاتحين والفرس المجوس. ولكن يبدو أن بعض الولاة المسلمين في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان(24-35ﮪ/644-655م) أخذ هدايا النوروز والمهرجان وهم: كل من (الوليد بن عقبة بن معيط)، و(سعيد بن العاص)، فلما تناها الخبر إلى الخليفة عثمان بن عفان كنب إليهما ينهاهما عن ذلك( ).
أما في عصر الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب(35-40ﮪ/ 655-660م)فقد أخذ واليه على أصفهان (عمرو بن سلمة) هدايا النوروز مع الخراج( ).
ولما تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة (41-60ﮪ/661-680م) جعل هدايا النوروز والمهرجان ضريبة إلزامية، وطلب من أهل سواد الكوفة دفعها، فبلغت قيمة الهدايا خمسين ألف درهم، كما كتب معاوية إلى عامله على البصرة (عبد الرحمن بن أبي بكرة) أن يحمل إليه هدايا النوروز والمهرجان، فبلغت عشرة آلاف درهم( ).
– رواه ابو داود بهذا اللفظ
– الالوسي: بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب، ج1، ص364.
– طه ندا: فصول من تاريخ الحضارة الاسلامية، بيروت، دار النهضة العربية،1975م، ص111.
– الفيروز آبادي: القاموس المحيط، مادة فرز.
-الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه، ج3، ص300.
– المصدر نفسه، ج3، ص300.
– القاضي المغربي: دعائم الاسلام
– ابن تيمية: إقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق وتعليق: ناصر بن عبد الكريم العقل، مكتبة الرشد- الرياض، الطبعة الثانية، 1411 ﮪ-1991م، ج1، ص458.
– ابن تيمية: إقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ج1، ص458.
– المصدر نفسه، ج1، ص457.
– المصدر نفسه، ج1، ص459.
– حكم الإحتفال بأعياد الكفار، ص13.
– الصولي: أدب الكتابة، القاهرة 1922، ص220.
– الأصفهاني، أبو فتح: كتاب ذكر أخبار أصفهان، بيروت، 1970، ج1، ص72.
– اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، بيروت، 1995، ج2 ، ص218.
القسم الثاني:
وأثناء ثورة الصحابي عبدالله بن الزبير بن العوام رضي اللع عنهما ضد الدولة الاموية بقيادة الخليفة عبدالملك بن مروان في سنوات (64-73ﮪ/684-692م)، فقد بلغت هدايا النوروز والمهرجان حوالي عشرين ألف درهم، ويرجع السبب في قلتها إلى الإضطرابات والفوضى التي عمّت منطقة الكوفة أثناء حوادث الفتنة الثانية ( ).
وفي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان(65-86ﮪ/685-705م) أظهر الحجاج حرصاً شديداً على جباية الأموال للدولة الأموية لمكافحة الحركات المعارضة، فأعاد استلام هدايا النوروز والمهرجان مع الضرائب، وبلغت قيمتها حوالي أربعين ألف درهم( ).
وعندما تولى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99-101ﮪ/718-720م) مقاليد الحكم أبطل رسوم وهدايا النوروز والمهرجان، ويتضح ذلك من خلال الكتاب الذي وجهه الى والي الكوفة (عبدالحميد بن عبدالرحمن)، حيث أمر بألا يأخذ هدية النوروز والمهرجان( ).
ولكن سلفه في الخلافة يزيد بن عبد الملك (101-105ﮪ/719-723م) أعاد ضريبة النوروز وكتب الى واليه على العراق (عمر بن هبيرة) سنة105ﮪ يأمره بمسح أرض السواد(= جنوب العراق) وإعادة ضريبة النوروز( ).
وكانت هدية حسان النبطي الى هشام بن عبدالملك من الكثرة والضخامة، حتى أن الخليفة الاموي هشام بن عبدالملك(105-120ه/723-743م) استكثرها على نفسه، وأمر أن تضم لبيت المال، وكان حسان قد أهدى الى هشام والى أمهات أولاده هدايا كثيرة من الكساء والجوهر والعطر، وقد ذكر الجاحظ أن هذه الهدية لم يسمع بمثلها في الاسلام( ).
وقد أهديت هدايا في أواخر العصر الاموي الى نصر بن سيار(125-132ﮪ/743-750م)الوالي الاموي على المشرق الاسلامي في سنة126ﮪ/744م، بمناسبة النوروز.
وفي العصر العباسي أعيدت هدايا ورسوم النوروز والمهرجان من جديد، سيما وأن أغلب الوزراء العباسيين كانوا من الفرس، لذا فلا عجب أن حاولوا إحياء مظاهر أسلافهم القدماء.
وقد روى المحدث الشيعي الامامي (ابن شهر أشوب السروي المازندراني) في كتابه المناقب، وقال: “حكی أن المنصور(= الخليفة العباسي ابوجعفر 136-158ﮪ/ 754-775م) تقدم إلى موسى بن جعفر(= موسى الكاظم المتوفى سنة 183ﮪ/799م) بالجلوس للتهنئة فی یوم النیروز، وقبض ما یحمل إلیه فقال (عليه السلام): إنی قد فتشت الأخبار عن جدی رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم أجد لهذا خبرا و إنه سنة للفرس و محاها الإسلام و معاذ الله أن نحیی ما محاه الإسلام، فقال المنصور: إنما نفعل هذا سیاسة للجند فسألتك بالله العظیم ألا جلست فجلس و دخلت علیه الملوك والأمراء والأجناد یهنئونه و یحملون إلیه الهدایا والتحف”( ).
وقدم الشاعر المعروف (أبو العتاهية) هدايا النوروز الى الخليفة العباسي محمد المهدي (158-168ﮪ/775-784م)( ).
وعلى السياق نفسه، يقول أبو ريحان البيروني: “في عهد هارون الرشيد تجمع مُلاّك الأراضي مرة أخرى، وطلبوا من يحيى بن خالد بن برمك أن يؤخر عيد النيروز ما يقرب من الشهرين( ). وأراد يحيى أن ينفذ ما أرادوا، لكن خصومه تناقلوا الأقاويل حول هذا الأمر، وقالوا إن يحى موالٍ للدين الزرادشتي، ونتيجة لهذا كف خالد عن هذا العمل ولم يعقب، وبقي الحال على ما كان عليه”( ).
وأهدى أحمد بن يوسف الكاتب هدية النيروز الى الخليفة العباسي المأمون(198-218ﮪ/813-833م)، وهي عبارة عن سفط من الذهب فيه قطعة عود هندي وكتب مع الهدية” هذا يوم جرت فيه العادة باتحاف العبيد للسادة”. وأهدى القاسم بن عيسى العجلي هدايا ثمينة الى المأمون بمناسبة عيد المهرجان، وتتكون من مائة حمل زعفران في شبك ابريسم على مائة أتان شهب وحشية مريبة، كما أهدى أبو عبادة الوزير مصحفاً الى المأمون يوم المهرجان.
وأهدت جارية المتوكل (232-247ﮪ/847-861م) شجن اليه هدايا نفيسة، واحتفلت مع جواري القصر بهذه المناسبة وكانت هديتها عشرون غزالاً مرباة بعشؤين سرجاً صينياً على كل غزال فرج صغير من ذهب مشبك فيه المسك والعنبر… مع كل غزال وصيفة بمنطقة ذهب وفي يدها قضيب ذهب في رأسه جوهرة ياقوت( ).
وكان الخليفة المتوكل يخرج في احتفاله بالنوروز عن الجد الذي ينبغي لخليفة أن يلزمه. فقد روى أنه كان يدعو اليه في هذا اليوم أصحاب السماجات(= الممثلون الهزليون)، ويدنيهم من مجلسه، ولا يتوقر معهم. وفي يوم نوروز دخل عليه (اسحاق بن ابراهيم) فرآهم وقد جذبوا رداءه فعاد غاضباً، ولاحظ المتوكل ذلك فأمر ساستدعائه وسأله في ذلك فقال له: أتجلس في مجلس يبتذ لك فيه هؤلاء الكلاب حتى يجذبوا ذيلك، وكل واحد منهم متنكر بصورة منكرة فما يؤمن أن يكون فيهم عدو خبيث فيثبت بك. فمتى كان يستقال هذا ولو أخليت الارض منهم، فقال المتوكل: يا أبا الحسين والله لا تراني على مثلها أبداً”( ).
ولشدة اهتمام الخليفة بالنوروزز رأى بأنه ليس من المناسب افتتاح الخراج فيه بعد أن استشار الفلكيين سنة245ه/859م، أراد أن يؤجل افتتاح الخراج حتى 17 حزيران/يونيو، ولكنه قتل قبل أن ينفذ هذا الامر. ولذا قال الشاعر البحتري:
ان يوم النيروز عاد الى العهد الذي كان سُنَة أردشير
وأورد القلقشندي ذلك بالتفصيل وبين أن سبب ذلك هو اشفاق الخليفة على الناس، حيث كان الخراج يجبى قبل نضوج الزرع.
وفي سنة 323ه/934م احتفل (مرداويج بن زيار)( ) احتفالاً عظيماً بهذا العيد، فأوقد النيران ليلة النوروز على قمم الجبال، وأطلق الطيور في الجو وقد علق بأرجلها النفط، وكان النفط يشتعل وهي تطير. وامتلأت السماء ليلتها بالنار المتطايرة في كل مكان حتى بدد ضوء النيران ظلمة الليل. وفي يوم النوروز أقام وليمة في الصحراء. ومن جملة ما قدم في تلك الوليمة مائتين من البقر مشوية صحاحاً، وأما الغنم فبلغ ما شوى منها ثلاثة آلاف رأس، هذا عدا المطبوخ، وقد زاد عدد الدجاج وغيره من أنواع الطير التي قدمت في تلك الوليمة على عشرة آلاف. أما ألوان الحلوى فقد جاوزت العد والحصر.
وكان عبدالله بن طاهر( )، يوزع ثيابه على الناس في عيدي النوروز والمهرجان أسوةً بما كان يفعله ملوك الفرس القدماء.
ويقدم لنا المافروخي الاصفهاني من علماء القرن الخامس الهجري( ) وصفاً للاحتفال بالنوروز في مدينة جي من ضواحي اصفهان، فيذكر أن اهالي اصفهان كانوا يخرجون كل سنة وقت النوروز الى سوق تلك المدينة التي تسمى سوق جرين للتجارة واللعب واللهو لا فرق في ذلك بين كبيرهم وصغيرهم حتى كانت تغص بجموعهم المدينة. وكان فناخسرو عضد الدولة( )، يعجب في صغره بتلك السوق وما يجري فيها من ألوان اللهو المرح. فلما تولى الملك واستولى على فارس أمر أن يتخذوا خارج شيراز سوقاً على نمط سوق جرين عرفت باسم سوق الامير. وقد جذبت هذه السوق أهل شيراز، وما حولها من البلدان، واجتمع فيها خلق كثير من أهل اللهو والمجون. وكان الناس يفدون اليها للبيع واللهو. وكان الامير لرغبته في الاستمتاع بما يجري في تلك السوق قد اتخذ لنفسه قصراً يشرف عليها، فكان يجلس في قصره مع ندمائه يشربون ويطربون ويستمتعون بما يشاهدونه من أحوال الناس في تلك السوق.
النوروز المعتضدي
كانت السنة الفارسية تتكون من اثني عشر شهرا وكل شهر يتكون من ثلاثين يوما ويضيف الفرس خمسة ايام الى السنة فيصبح مجموع ايامها (265) يوما ويضيفون شهرا كبيسا بعد مرور 120 سنة لضبط مواسم الزراعة وجمع الضرائب. وفي العهود الاسلامية كان يباشر بجمع الخراج مع بداية السنة الفارسية عيد نوروز وكان الوقت ملائما، ولكن بمرور الزمن اهمل الفرس كبس سنتهم فاصبح موسم جمع الخراج مبكرا قبل نضوج الزرع مما ادى الى ارهاق كاهل دافعي الخراج. وحاول وزير هارون الرشيد (170-193ه/786-809م) يحيى البرمكي تأخير افتتاح الخراج الى ما بعد نوروز الا انه لم ينفذ الامر لان اعداءه اتهموه بانه يحاول احياء المجوسية، وقام الخليفة المتوكل ايضا بمحاولته سنة 245ﮪ /859م كما اشير الى ذلك سابقا.
وتأخر هذا الامر حتى جاء الخليفة المعتصد (279-289ه/892-902م) فاتخذ اجراء اقتصاديا في مصلحة دافعي الخراج، اذ جعل جباية الخراج في يوم معلوم وهو الحادي عشر من حزيران، موسم حصاد المحاصيل الشتوية وتسويقها، وارادوا تأخير الاحتفال بعيد النوروز حتى ذلك اليوم ولذلك سمي بالنوروز المعتصدي. فاورد الطبري بأن المعتضد كتب سنة 282ﮪ/895م الى جميع العمال في الامصار بترك افتتاح الخراج في نوروز العجم وتأخير الامر الى الحادي عشر من حزيران، ويستدل مما اورده الطبري وابن الجوزي بأن المعتضد حاول اجبار الناس على الاحتفال بالنوروز، فذكر بان المعتصد حاول منع الناس من ايقاد النيران ليلة النوروز، او صب الماء بعيد النوروز.
– الصولي: أدب الكتابة، ص219.
– المصدر نفسه، ص219.
– محمد بن جرير الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج4، ص70
– اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، ج2، ص218.
– الجاحظ : المحاسن والاضداد، ص283.
– ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب ،ج4 ، ص318؛ ولمزيد من المعلومات ينظر: المجلسي: بحار الانوار، ج95، ص419 وج48 ،ص108 و 109
– المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص326.
– كان التقليد القديم يقضي بأن تحتسب الأيام الكبيسة، فلما أبطل هذا التقليد بصورة تجعل القوم يحتفلون بعيد النيروز قبل جني المحصول. وكان هذا يضر بالمزارعين إذ كان لزاماً عليهم عند ذاك أن يدفعوا الضرائب المفروضة عليهم. انظر: (إدوارد براون: تاريخ الأدب في إيران، ترجمه إلى الفارسية علي باشا صالح، ترجمه إلى العربية أحمد كمال الدين حلمي، تقديم محمد علاء الدين منصور، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، ج1، البابان الثالث والرابع، ص59 هامش 5.
-الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص37.
– الخالديان، ابوبكر محمد بن هاشم الخالدي وابو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي: الهدايا والتحف، القاهرة، 1964م، ص57 وما بعدها.
– آدم ميتز: الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري، القاهرة، 1967م، ج2، ص214.
– مرداويج بن زيار: مؤسس الدولة الزيارية في طبرستان وجرجان (= كركان). استولى أيضاً على أصفهان وهمدان. وكانت آماله كبيرة في إحياء مجد الفرس وتحطيم الخلافة العباسية. وعندما ثار النزاع بينه وبين البويهيين، أراد أن يتخلص منهم ثم يتجه بعد ذلك الى بغداد للاستيلاء عليها. ولكنه قتل في اصفهان سنة323ه/934م وهو سيتعد لملاقاة آل بويه. استمرت دولته من 316-434ه/928-1042م.
– عبدالله بن طاهر: عبدالله بن طاهر بن طاهر ذي اليمينين قائد المأمون الشهير، من أصل فارسي ولاه المأمون على خراسان في 205ه/820م، واستطاع بعد ذلك أن يستقل بحكم خراسان ويؤسس الدولة الطاهرية التي حكمت من 205ه لغاية 259ه، الى أن سقطت على يد الصفاريين.
– المافروخي: هو مفضل بن سعد بن الحسين المافروخي الاصفهاني نسبة الى مافروخ بن بختيار جده وكان من الموالي العجم. ومافروخ مركبة من ماء فرخ أي القمر المبارك. الف المافروخي كتابه (محاسن أصفهان) بين سنوات خمس وستين وخمس وثمانين واربعمائة. وهو من معاصري ألب ارسلان وملكشاه من سلاطين السلاجقة. وقد ترجم الكتاب الى الفارسية محمد بن عبد الرضا الحسيني العلوي في حدود سنة ثلاثين وسبعمائة بأمر الوزير غياث الدين محمد بن الوزير رشيد فضل الله مؤلف كتاب جامع التواريخ.
– عضد الولة: هو فناخسرو بن ركن الدولة تولى الحكم بعد قتله لابن عمه بختيار بن عز الدولة سنة367ﮪ/978م، توفي سنة372ﮪ/983م.
القسم الثالث:
واستنادا الى رواية المؤرخ الطبري، يبدو أن الخليفة العباسي المعتضد كان يحتفل بعيد النوروز حتى سنة 282ﮪ/895م، ثم اراد ان يفرض على الناس أن الاحتفال به في 11 حزيران/ يونيو بسبب جني المحاصيل في تلك الحقبة وحتى لا يثقل كاهل الفلاحين، إلا أنه فشل في إقناع الناس، ولذلك حاول منعهم الاحتفال بالعيد من قبيل منعهم من ايقاد النيران ليلة النوروز، اذ ثمة ما يشير بانه احتفل بالعيد، وقدمت له زوجته (قطر الندى) ثلاثين وصيفة مع هدايا ذهبية فاخرة بهذه المناسبة( ).
ومما يؤكد كون المعتضد حاول تغيير موسم الاحتفال بالنوروز ما أورده التنوخي من أن زوجة المعتضد السيدة شغب (أم المقتدر) احتفلت بالنوروز المعتضدي احتفالا كبيرا في قصر الخلافة، وبذلت الاموال واستخدمت الاقمشة النفيسة وجعلتها مثل حب القطن واشبعتها بدهن البيلسان وأوقدت النيران على جدران القصر وأضيء نهر دجلة بنيران النوروز( ).
لم يقتصر الامر على الخليفة في الاحتفال بعيد النوروز واخذ الهدايا وتبادلها مع الناس، بل شارك فيها الامراء والوزراء والولاة وعامة الناس.
فذكر الشاعر العباسي (سلم الخاسر) بأنه دخل على الفضل بن يحيى البرمكي في يوم النوروز فرأى الهدايا بين يديه، ونظم (علي بن جبلة) قصيدة في مدح القائد العباسي (حميد الطوسي)( )بمناسية عيد نوروز، فسر بها وأهدى له ما أهدي اليه في النوروز فبلغت قيمته مائتي الف درهم( ).
أما عامة الناس فاحتفلوا بعيد النوروز إذ كانوا يلبسون أفخر الملابس ويتبادلون الزيارات ويقدمون لبعضهم الحلوى والبيض الملون، فضلاً عن ايقاد النيران ورش الماء وممارسة الالعاب الشعبية. أما أصحاب المجون فكانوا يصطحبون معهم الجواري والفتيات الحسان الى البساتين ويقضون وقتاً سعيداً على أنغام الموسيقى.
وتقام في نوروز مجالس الادب حيث يقوم الشعراء بتنظيم قصائدهم بهذه المناسبة ثم يلقونها امام الخليفة ويهنئونه بالعيد ووجدوا في النوروز فرصة لعرض مطاليبهم وبث شكواهم الى الخليفة. فقدم البحتري قصيدة اظهر فيها تذمره من دفع الخراج ودعا الخليفة الى اعفائه من هذه الضريبة اذ ورد في قصيدته :
لا تخل من عيش بكر سروره
ابداً ونيروز عليك معاد
وأبدى بعض العلماء امتعاضهم من الاحتفال بهذه المناسبة اذ سبقت الاشارة الى ذلك، عندما دخل اسحق بن ابراهيم( )على المتوكل يوم النوروز وهو يحتفل بهذه المناسبة مع ندمائه فخرج من مجلس الخليفة وهو غاضب. ومر احد العلماء في حي شعبي يوم النوروز فصب عليه المحتفلون ماء النوروز فبدأ بنفض ملابسه وهو يقول :
اذا قل ماء الوجه قل حياؤه
ولا خير في وجه قل ماؤه( )
وأورد الخطيب البغدادي رواية تشير الى أن: عبدالجبار بن وائل، وعلقمة بن مرشد وطلحة الايام، وزبير الايامي، كانوا يصومون يوم النوروز ويعتكفون في المسجد ويقولون بان نوروز عيد المشركين( ). ولعل استغلال اهل السماجات (اصحاب المجون والخلاع) هذه المناسبة وخروجهم عن الادب وشربهم الخمر، دفع العلماء الى اتخاذ موقف معادٍ من الاحتفال بعيدي النوروز والمهرجان، عكس القرامطة الذي كانوا يعظمون النوروز والمهرجان ويصومون فيهما( ).
احتفال الامراء المسلمين بعيد النوروز
لم يقتصر الاحتفال بالنوروز على مركز الخلافة فحسب وانما احتفل به العديد من الامراء المسلمين في المشرق. فاحتفل به امراء الدولة الطاهرية( ) (255-259ه /821-873م) في خراسان، وجاء في إحدى المصادر بأن عبدالله بن طاهر بن الحسين (213-230ه / 828-844م) احتفل بعيد نوروز ووزع الكسوة على الناس ولم يترك في خزائنه ثوباً واحداً( ). وفي مدينة بخارى عاصمة السامانيين (261-389ه / 874-999م) دأب امراؤها على احياء التراث الفارسي، وكانوا يكرمون قادة الجيش ومسؤولي الدولة ويخلعون عليهم الخلع الربيعية بمناسبة النوروز( ).
واشار البيروني الى احتفال عضد الدولة البويهي (238/949 – 372ﮪ/983م) بالنوروز وكيف تم ايقاد الشموع والقناديل على باب كلواذي في بغداد وايقاد النيران على نهر دجلة( ). وكان يتم اضاءة قصور بغداد واحياؤها بضياء الشموع وتعلق الاعلام في الاسواق وتقام القباب الخاصة بالاحتفالات وتضرب الطبول على باب الامير وقت الصلوات الخمسة ويمدح الشعراء الامير البويهي. فهذا الشاعر ابو اسحاق يمدح عضد الدولة في نوروز قائلاً :
تهن بهذا اليوم واحظ بخيره
وكن ابداً بالعود منه على وعدٍ
ارى الناس يهدون هدايا نفيسة
اليك ولم يترك لي الدهر ما اهدي( )
أما البيهقي، فيقدم لنا صورة أخرى من الاحتفالات التي كانت تقام في العالم الاسلامي احتفالاً بيوم النوروز عام431ه/1040م، فيقول عن السلطان مسعود الغزنوي، إنه في يوم الخميس الثامن عشر من شهر جمادي الآخرة احتفل بعيد النوروز. وكان الناس قد قدموا اليه الكثير من الهدايا. واحتفى السلطان بهذا العيد احتفالاً عظيماً، وتقدم اليه الشعراء بقصائد المديح. وكانت السعادة تبدو على محياه إذ مر عليه الشتاء هادئاً لم تقع فيه حوادث تشغل قلبه. وأمر للمطربين وللناس بصلات( ).
الاحتفال بعيد النوروز في مصر
إن الاحتفالات الخاصة بالنوروز في مصر تختلف كلياً عما يجري من احتفالات في العراق وايران وغيرها من بلاد المشرق الاسلامي، فرغم أن المؤرخ المصري (القلقشندي) لم يشر الى الاحتفال بعيد النوروز في مصر، وإنما اكتفى بذكر الجذور التاريخية له والمراسيم التي كانت تجري فيها آنذاك( ). ولكن أحد المؤرخين المعاصرين لتلك الاحداث، أورد حيثيات الاحتفال بالعيد في العهد الفاطمي (358-369 ه– 567-1171م)( ) ، فذكر ان الخليفة المعز لدين الله الفاطمي (341-365ه / 953-975م) منع الناس سنة 363ﮪ/974م من ايقاد النيران في الطرق العامة أو رش الماء مما يدل على وصول الاحتفال بهذا العيد الى الذروة.
وفي سنة 374ﮪ/984م تم ايقاد النيران وزاد اللعب بالماء وطاف اهل الاسواق وخرج الناس في القاهرة بلعبهم فلعبوا ثلاث ايام وكان فرصة لاهل السماجات لممارسة اللهو بما فيه شرب الخمر او طلطة بالماء ورش الناس به، فامر الخليفة المعز لدين الله منادياً ان يأمر الناس بالكف عن ذلك وعدم ايقاد النيران او رش الماء. والظاهر أن هذا المنع ضاعف من شوق الناس الى هذا العبث لأنهم في السنة التالية تمادوا في إيقاد النيران وصب الماء وأتوا من السخافات ما جعل المعز يعود الى تحذيرهم، واستعمال الشدة معهم. وتم حبس بعض الناس( ).
وكان للنوروز عند العامة في مصر أمير يخرج في هذا اليوم في ملابس المهرجين بألوانها الفاقعة المتنافرة وقد طلى وجهه بالمساحيق والاصباغ، ويركبونه على دابة يطوفون به في الطرق والمحلات، ويطلبون من الناس اعطاءهم هدية امير النوروز، فمن دفع لهم أخلوا سبيله، ومن امتنع عن تلبية طلبهم رشوه بالقاذورات، ولهذا كان الكثير من الاغنياء يبقون في بيوتهم خوفاً من امير النوروز وموكبه( ). وكانت الاسواق تعطل في مثل هذا اليوم إذ كان الناس ينطلقون على سجيتهم دون حياء أو قيود، وقلما انقضى هذا اليوم دون أن تقع حوادث يذهب ضحيتها بعض الناس. وهذا يدل على أن المصريين كانوا يحتفلون بالنوروز بشكل ينسجم مع تراثهم القبطي القديم والذي كانوا يسمون النوروز بعيد (شم النسيم) والذي كان يصادف شهر ايلول/ سبتمبر.
ويصف المقريزي ما كان يجري بمصر في هذه الاحتفالات خلال النوروز، فيذكر أنهم في سنة592ﮪ/1196م استحدثوا عادة التراجم بالبيض، والتصافح بالانطاع الى جانب ما عرف من التراش بالماء.
فلما آل الامر في مصر الى السلطان المملوكي (برقوق)( )منع الناس من هذا العبث، وهدد من من خالف بالعقوبة فاضطر الناس الى التزام الجادة في القاهرة، ومن أراد منهم أن يعبث خرج الى البرك والمنتزهات، ولم تعد الاسواق تتعطل كما كان الامر من قبل، ولم تتوقف حركة البيع والشراء، وأمن الناس على أنفسهم من الحوادث بعد أن كان يوم النوروز لا يخلو من قتيل أو أكثر( ).
المهرجان( )
احتفل الخلفاء العباسيون بالمهرجان، فضلاً عن احتفالهم بالنوروز. ويأتي هذا العيد بعد عيد نوروز ب (194) يوما ويصادف (26) تشرين الاول من كل عام، وكان الاحتفال به يستمر ستة ايام، ويتم فيه تغيير فرش وستائر دار الخلافة ايذاناً بدخول الشتاء. ويحضر ارباب الدولة واصحاب الدواوين والقادة والقضاة للتهنئة بالعيد واستلام الخلع الشتوية من ملابس واقمشة( ).
وعادة يتم مد الموائد في القصر ويلقي الشعراء قصائدهم متفائلين بالمهرجان، كما يقدم المهنئون هداياهم الى الخليفة في اليوم الاول من العيد. وتجدر الاشارة إليه بانه كان يتم اشعال النيران أيضاً، لأن المهرجان كان مشابهاً للنوروز في الكثير من رسومه وممارساته.
واحتفل البويهيون بالمهرجان، اذ أهدى الشاعر ابو هلال الصابي اصطرلاباً الى عضد الدولة أرفقها بقصيدة جاء فيها :
لم يرضى بالارض يهديها اليك
وقد اهدى لك الفلك الاعلى بما فيه
وحاول بعض الخلفاء منع الاحتفال بعيد النوروز والمهرجان، ففي سنة 363ﮪ/973م، أبطل الخليفة الطائع (363-381ﮪ – 974-991م) هذا العيد ولكن الناس احتفلوا به بشكل اكبر من السابق، وحاول الخليفة منعهم واستمر يؤدب الناس ثلاث ايام فلم ينفع التأديب وظل العيد جارياً واحتفل به في كل سنة( ).
وسبب ذلك هو ضعف سلطة الخليفة السياسية ولهذا تشبث خلفاء بني العباس في العهد البويهي (334-447ه – 946-1055م) بنفوذهم الديني للتعويض عما فقدوه للأمير البويهي وأردوا ان يظهروا امام الناس بمظهر التقوى، ولهذا حاولوا منع اقامة الاحتفالات، أو التخفيف من حدتها على أقل تقدير.
– ابن الساعي: نساء الخلفاء، القاهرة، (د.ت)، ص135.
– التنوخي: نشوار المحاضرة، بيروت، 1971م، ج2، ص294.
. حميد الطوسي: أحد كبار القادة العباسيين، كان له دور مشهود في التصدي للحركة الكبيرة التي قام بها بابك الخرمي ضد الخلافة العباسية في عهدي المأمون والمعتصم، واستشهد على إثرها.
– أبو فرج الاصفهاني، كتاب الاغاني، ج21، ص82.
. وهو ابن عم الخليفة العباسي
-القفطي: أنباء الرواة على أنباء النحاة، القاهرة، 1950م، ج1، ص163.
– تاريخ بغداد، بيروت، (د. ت)، ج8، ص475.
– ابن العبري: مختصر تاريخ الدول،بيروت، 1983م، ص261.
– لين بول: تاريخ دول الاسلام، دمشق، (د. ت)، ج1، ص260-261.
– الجاحظ، التاج في أخلاق الملوك، القاهرة، 1914م، ص150.
– آدم ميتز: الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري، ج2، ص293.
– الآثار الباقية عن القرون الخالية، بغداد، 1923م، ص115.
– الثعالبي: يتيمة الدهر، ، القاهرة، 1956م، ج2، ص283.
– تاريخ البيهقي، ترجمة: يحيى الخشاب وكمال نشأت، ص611.
– صبح الاعشا في صناعة الانشا، بيروت، 1987م، ج2، ص445 وما بعدها.
– المقريزي: الخطط، لبنان، (د.ت)، ج2، ص394.
– المقريزي: الخطط، ج2، ص395.
– المصدر نفسه، ج2، ص395.
– برقوق: مؤسس دولة المماليك البرجية أو الشراكسة(784-801ﮪ/1382-1399م).
– الخطط، ج1، ص268.
. المهرجان: أو المهركان: عيد ايراني قديم يبدأ وقته في بداية حلول فصل الشتاء اي بعد حوالي ستة أشهر من النوروز، وله مراسيم خاصة
– النويري: نهاية الارب، القاهرة، (د.ت)، ج1، ص187.
– آدم ميتز: الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري، ج2، ص294- 295.[1]