البروفيسور الدكتور
#مصطفى ابراهيم الزلمي#
الاستاذ المتمرس في الشريعة والقانون
تفنيد مزاعم تأثر الفقه الإسلامي وقواعده بالفقه الغربي
زعم المستشرقون([1]) وبعض رجال القانون في العالم العربي والإسلامي أن الفقه الإسلامي تأثر بالفقه الغربي وبوجه خص القانون الروماني، فأخذ منه كثيرا من الآراء وبوجه خاص القواعد الفقهية التي أُخذت على حد زعمهم من مُدونة (جُستنيان)،([2]) وهذه التهمة لا أساس لها بل هي من نسيج الزعم الساقط لهؤلاء للأدلة الآتية: ([3])
أولاً/ لم يكن بين فقهاء الشريعة الإسلامية حين تأسيسهم لمذاهبهم وتدوينها من يعرف اللغة الفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية أو الرومانية، حتى يتأثر في آرائه بآراء فقهاء القانون الغربي، بل كان فقهاء الشريعة الإسلامية بمعزل عن العالم الخارجي، بل حتى بالنسبة إلى بلادهم، فكان لكل واحد منهم مدرسة خاصة يتولى التدريس والإجتهاد فيها ويقوم بالتفكير والتحليل والتعليل والإنتاج الفقهي وهو بمعزل عن العالمين الداخلي والخارجي، مستلهما فقهه وآراءه من القرآن الكريم والسنة النبوية وآراء سلفه من الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
ثانيا/ وبعكس التهم المذكورة كان هناك مجال واسع لتأثر القوانين الغربية بالفقه الإسلامي، ومرد هذا المجال الى وصول الفقه الإسلامي إلى العالم الغربي بعد تدوينه واستقراره، وذلك عن طريق مدخلين:
المدخل الأول: الفتح الإسلامي للأندلس:
حيث دخل الإسلام الأندلس (اسبانيا حاليا) بعد شمال افريقيا عام (711م) الموافق لعام (93ﮪ)، ثم دخل جنوب فرنسا ووصل إلى بلاد (ليون)، و(نور)، و(بواتيا)، و(فينيون)، وظل الحكم الإسلامي في أندلس إلى سقوط غرناطة عام (1492م) الموافق لعام (977ﮪ)، وبذلك استمر التشريع الإسلامي في أوروبا معمولا به أكثر من (700) سنة. ([4]) وكان الفقه المعمول به في الأندلس فقه الإمام الأوزاعي، ثم حلّ محله الفقه المالكي عن طريق زياد بن عبدالرحمن في عهد هشام بن عبدالرحمن عام (171ﮪ)، فأنتشر هذا المذهب هناك وظل معمولا به طيلة الحكم الإسلامي في اندلس.
ويرى الباحثون في المقارنة بين القانون المدني الفرنسي المعروف بقانون (كودنابليون) الصادر عام (1804م) وبين فقه الإمام المالك، وثبت لهم بالأدلة الواقعية والمقارنة، أن الأول تأثر بالثاني أكثر من 40%.([5])
المدخل الثاني: قيام الصلة والعلاقات بين الدولة الإسلامية العثمانية وبعض الدول الأوروبية:
وقد قامت هذه العلاقات بعد تأسيس الدولة العثمانية ودخول السلطان محمد الفاتح الأستانة عام (1453م) وبعد أن توسعت فتوحات هذه الدولة توسعا كبيرا وأصبحت مسيطرة على أقطار شاسعة في آسيا وشمال افريقيا وأوروبا، تأثرت التشريعات اللاتينية والجرمانية بفقه أبي حنيفة (رحمه الله) ألذي كان مذهبا رسميا للدولة العثمانية. ([6])
ومن نماذج تأثر القوانين الغربية بالفقه الإسلامي ما يلي:
أولا/ تأثر القانون الفرنسي بالفقه المالكي :
أ- العقد الرضائي وأحكامه: العقد الرضائي هو الذي ينعقد بمجرد الإيجاب والقبول الصادرين ممن هم أهل للتعاقد دون الرعاية الشكلية التي كانت سائدة في القانون الروماني وتأثر بها القانون الفرنسي أولا ثم القوانين العربية المتأثرة بالقانون الفرنسي. وعلى سبيل المثل قد تناولت المواد (1108-1122) في القانون المدني الفرنسي في الباب الرابع تحت عنوان (شروط صحة العقد وأحكام العقد الرضائي)، في هذا القانون كما هي في الفقه المالكي.
ب- أحكام العارية: ألتي عالجها القانون المدني الفرنسي متأثرا بالفقه المالكي في المواد (1875-1894).
ج- تأثر القانون الفرنسي بالفقه المالكي في كثير من أحكام البيع([7]) وعناصره التي تناولها المدني الفرنسي في المواد (1582-1707).
د- بيع الوفاء: وهو بيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه اللمبيع.([8]) وهو في حكم بيع الجائز والنافذ غير اللازم من حيث انتفاع المشتري به، وفي حكم البيع الفاسد من حيث كون كل من العاقدين مقتدرا على فسخه، وفي حكم الرهن من حيث أن المشتري لا يقدر على بيعه للغير.
وخلاصة الكلام أنه يُمكن تكيف بيع الوفاء بالعقود المذكورة، ومن البدهي أن هذا العقد من ابداع الفقهاء الحنفية في ما وراء النهر قبل القانون الفرنسي النافذ القائم المعدل، لأن هذا القانون تأسس عام (1804م) وقد أخذ بهذا القانون وعالجه في الفصل الأول من الباب الثالث تحت عنوان (لغو البيع وفسخه) وقد تناوله هذا القانون في المواد (1659-1673).
ﮪ- حقوق الإرتفاق (أو الحقوق القسرية): وهو حق المرور([9]) وحق الشرب([10]) وحق المسيل([11]) وغيرها من حقوق الإرتفاق. وقد أخذ بهذه الحقوق القانون المدني الفرنسي من الفقه الإسلامي وعالجها تحت عنوان (الحقوق القسرية الأرضية) في الكتاب الرابع في المواد (627-710) وقد نصت المادة (627) من القانون المدني الفرنسي على أن (الحقوق القسرية هي ترتب حق أرض على أخرى بدون أن يكون المالك واحدا لقصد الإنتفاع بالأرض الأخرى المذكورة). وفي المقارنات التشريعية([12]) تطبيق القانون المدني والجنائي على مذهب الإمام مالك، الحقوق القسرية الأرضية هي ترتب حق لأرض على أخرى بدون أن يكون المالك واحداً لقصد الإنتفاع بالأرض الأخرى المذكورة. منشأ استحقاق هذه الحقوق القسرية إمّا أن تكون مسبباً عن موقع الأرض الطبيعي والحاجة الطبيعية إلى ذلك الحق، أو بترتيب القوانين لتلك الحقوق، أو بإتفاق بين أصحاب الملك بعضهم مع بعض. تُجبر الأراضي الواطية على قبول صرف مياه الأراضي العالية الجارية بنفسها بدون فعل فاعل ولا يجوز في حال من الأحوال لمالك الأراضي الواطية أن يعمل سداً أو جسرا يحجز به تسريب هذه المياه ويمنع مرورها بأرضه، كما لا يجوز لمالك الأراضي العالية أن لا يتوقى ما يعود بالمضرة على الأراضي الواطية.([13])
وجدير بالذكر أن الأرقام التي ذكرناها بالنسبة للقانون الفرنسي قد تغيرت في الوقت الحاضر بعد اجراء تعديلات متعددة على هذا القانون، ولكن لعدم تمكننا من الحصول على الأرقام المعدلة اكتفينا بإستعراض الأرقام القديمة السابقة، لأن الذي يهمنا في هذا المقام هو بيان تأثر القانون الفرنسي بالفقه الإسلامي. وأما الشكليات فهي رغم أهميتها لا تؤثر في هذا المقام بالنسبة لتأثر المذكور.
ثانيا/ تأثر القانون الألماني بالفقه الإسلامي:
ومن نماذج تأثر القانون الألماني بالفقه الإسلامي عن طريق الخلافة العثمانية تحول العقد الذي عالجه القانون المدني الألماني في المادة (144).
ومفاد تحول العقد هو أنه إذا كان العقد باطلا وتوفرت فيه أركان وعناصر عقد آخر أو تصرف آخر، تحول إليه ويُعتد بهذا التصرف المتحول إليه، كما نص على ذلك القانون المدني المصري النافذ في المادة (140) التي نصّت على أنه إذا كان العقد باطلا أو قابلا للإبطال وتوافرت فيه أركان عقد آخر، فإن العقد يكون صحيحا بإعتباره العقد الذي توافرت أركانه، إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى ابرام هذا العقد، وهذا النص يقرر في عبارة عامة نظرية تحول العقد. وقال المرحوم العلامة السنهوري([14]) أن نظرية تحول العقد هي نظرية ألمانية صاغها الفقهاء الألمان في القرن تاسع عشر، وأخذ بها التقنين المدني الألماني في نص صريح هو المادة (144) وعلى نهج التقنين المدني الألماني سار التقنين المصري الجديد. وتتلخص النظرية في أن التصرف الباطل قد ينطوي رغم بطلانه على عناصر تصرف آخر، فيتحول التصرف الذي قصد إليه المتعاقدان وهو التصرف الباطل إلى هذا التصرف الآخر، وبذلك يكون التصرف الباطل قد انتج أثراً قانونيا لا كواقعة مادية بل كتصرف قانوني، ولكنه أنتج أثراً عرضيا.
شروط التحول: ويُشترط لتحول التصرف الباطل إلى تصرف آخر توافر شروط ثلاثة:
أحدها بطلان التصرف الأصلي: فيجب أن يكون التصرف الأصلي إما تصرفا باطلا أو تصرفا قابلا للإبطال. وقد ابطل فعلا، ولا يجوز أن يكون تصرفا صحيحا ولا تصرفا باطلا في شقٍ منه وصحيحا في الشق الآخر.
والثاني ان ينطوي التصرف الأصلي الباطل على عناصر التصرف الآخر الذي يتحول إليه، أي يجب أن يكون هناك تصرف آخر يتحول إليه التصرف الأصلي.
والثالث جواز انصراف إرادة المتعاقدين المحتملة إلى التصرف الآخر الذي تحول إليه التصرف الأصلي، أي يكون بحيث إذا علم المتعاقدان بطلان التصرف الذي قاما بإبرامه، انصرفت إرادتهما إلى هذا التصرف المتحول إليه.
وعلى سبيل المثل إذا قدم المدين لدائنه كمبيالة لم تستوفِ الشكل الواجب قانوناً تكون باطلة وتتحول إلى سند دين عاديٍ صحيح، كما نصّت على ذلك المادة (108) من التقنين التجاري المصري. أما إذا زوّد المدين دائنه قبل هذه الكمبيالة سنداً عادياً، فلا تتحول إليه.
وكذلك تأثر الفقه الغربي وبوجه خاص القانون المدني الألماني بالفقه الحنفي في انصراف آثار التصرف من الحقوق والإلتزامات إلى الموكل إذا أضاف الوكيل التصرف إلى نفسه، وللغير الذي تصرف معه الوكيل أن يرجع إلى الأصيل رغم عدم علمه بأن الوكيل تصرف بإسم الأصيل لا بإسمه. ([15])
وجدير بالذكر أن الفقه الغربي ذهب الى عدم انصراف آثار العقد وبوجه خاص حكمه (التزاماته) إذا أبرم الوكيل التصرف الموكل فيه بإسمه.
ويُلاحظ أن ما ظنه العلامة السنهوري في أن فكرة تحول العقد من ابداع الفقهاء الألمان، وقد دونت هذه الفكرة في القانون المدني الألماني المادة (144) غير مطابق للواقع، وذلك لأن هذه الفكرة هي من ابداع فقهاء الإسلام وانتقلت إلى الفقه الألماني وقانونه عن طريق الإحتكاك بين الدولة العثمانية والدولة الألمانية.
وفي الفقه الإسلامي توجد تطبيقات كثيرة لتحول العقد التي كانت موجودة قبل القانون الألماني بمئات السنين، ومن تلك التطبيقات ما يلي:
1- من أوصى لشخص لا توجد بينه وبين هذا الشخص علاقة القرابة أو الزوجية اللتان هما من أسباب الميراث، بأن يكون وارثا له كأحد ورثته الشرعيين، تبطل هذه الوصية وتنصرف إلى اأو اللوصية المطلقة ويعطى للموصى له نصيب أحد الورثة الأقل نصيبا بالنسبة للبقية، كوصية لا كميراث. وعلى سبيل المثل من مات عن أم وابن والموصى له بالميراث، يكون للأم السدس وللموصى له السدس وللإبن الباقي.
2- الكفالة وهي ضم ذمة إلى ذمة في مطالبة الشيء، أي بأن يضم أحد ذمته إلى ذمة آخر ويلتزم أيضا بالمطالبة التي لزمت في حق ذلك، إذا اشترط فيها أن يكون الكفيل ضامنا للمدين الأصلي رغم امكانية المدين واستعداده للوفاء بالدين، بطلت بإعتبارها كفالة وتحولت إلى الحوالة.
3- الحوالة إذا اشترط فيها عدم براءة ذمة المحيل عن الدين، بأن يكون للمحال الرجوع على المدين المحيل على المحال عليه في وقت واحد إذا امتنع المحال عليه عن الوفاء بالدين أو عجز عن الوفاء تبطل الحوالة وتتحول إلى الكفالة.
4- الوكالة بعد الموت وصاية، والوصاية في الحياة وكالة، فلو قال أحد لآخر أوصيتك اليوم على بيع سيارتي بكذا، كان وكيلا، ولو قال له أنت وكيلي بعد موتي، كان وصياً.
5- البيع بنفي الثمن يكون هبةٌ، والإجارة بنفي الأجرة عارية، والعارية بشرط الأجرة إجارةٌ.
وهكذا هناك مئات التطبيقات الموجودة في الفقه الإسلامي، وكانت تُطبق قبل القانون الألماني بمئات السنين.
ثالثا/ تأثر القانون الإنكليزي بالفقه الإسلامي:
لقد تأثر هذا القانون بالفقه الإسلامي في موضوع نظرية الظروف الطارئة حيث لم يعرفها القوانين الغربية والعربية إلا عن طريق الفقه الإسلامي.
وجدير بالذكر أن الصلة وثيقة بين الضرورة ونظرية الظروف الطارئة التي عالجتها الشريعة الإسلامية وتأثرت بها القوانين الغربية والعربية، غير أنه تلك القوانين اشترطت أن يكون الظرف الطارئ عاماً كالحرب والكوارث الطبيعية، لكن الفقه الإسلامي لا يشترط هذا الشرط، بل يجوز تطبيق النظرية ولو كان الظرف الطارئ خاصا بطرف واحد، وأن الظرف الطارئ الخاص بالمدين لا يبرر في القانون فسخ العقد أو تعديل الإلتزام المرهق.
معنى نظرية الظروف الطارئة هو حوادث مادية غير متوقعة وغير قابلة للدفع قبل وقوعها، بحيث تجعل تنفيذ إلتزام المدين الناتج من عقد مستمر التنفيذ مرهقاً ويبرر للقاضي التدخل بعد طلب المدين لتعديل التزامه مرهق التنفيذ إلى حد المعقول يرفع الإرهاق إما بتقليل موضوع الإلتزام كمّا (مقدارا) أو كيفا (نوعا) أو بزيادة نفقات كلفة موضوع الإلتزام.
عناصر نظرية الظروف الطارئة:
عنصر كل شيء ما يتوقف عليه وجوده، فإن كان جزءً منه يكون ركنا، وإلا فيكون شرطا، وعناصرها كما يُفهم من تعريفها هي الآتية:
أولا: أن يكون سبب الإلتزام عقدا، وكل عقد بعد صحته ونفاذه ولزومه لا يحق لأي من طرفيه فسخه بخلاف الفاسد أو الموقوف (غير النافذ) أو غير اللازم، أو القابل للإبطال (وهو مصطلح الفقه الغربي ويشمل الثلاثة المذكورة في الفقه الإسلامي)، فالفاسد للقاضي فسخه والموقوف لمن له حق الإجازة رفضه وغير اللازم بالنسبة للطرفين كعقد الوكالة لكل طرف حق فسخها إذا لم يتعلق بها حق للغير. وغير اللازم بالنسبة لأحد الطرفين كعقد الرهن للدائن المرتهن فسخه بخلاف المدين الراهن، لأنه لازم بالنسبة له، وكعقد الكفالة للمكفول له فسخه دون الكفيل، وكإبطال العقد في العقد القابل للإبطال لمن تقررت قابلية الإبطال لمصلحته، كما يحق للقاضي تعديل عقد الإذعان إذا كانت الشروط فوق الإعتياد، وكذلك له فسخ الشرط الجزائي.
ثانيا: يكون عقدا مستمر التنفيذ بأن يكون الزمن عنصراً جوهريا في تكوينه كقعد التوريد والإجارة والمقاولة ونحو ذلك، بخلاف العقد فوري التنفيذ كالبيع ولو كان تنفيذه مؤجلا.
ثالثا: أن لا يكون الظرف متوقعا كظرف الحرب والكوارث الطبيعية كالزلزال والبركان والفيضان والحريق ونحو ذلك، فإذا كان متوقعا لا يكون محلاً لتطبيقها.
رابعا: أن يكون الظرف عاما، وإذا كان خاصا كإفلاس المدين وعدم تمكنه من تنفيذ التزامه، يكون محلا لتطبيق النظرية في الفقه الإسلامي، بخلاف القانون والفقه الغربي، فإن الظرف يُشترط أن يكون عاماً كظرف الحرب.
خامسا: أن لا يجعل الظرف تنفيذ الإلتزام مستحيلا كقوة قاهرة، وإلا فينفسخ العقد تلقائيا بحكم القانون، كما في حالة هلاك محل العقد قبل التنفيذ بقوة قاهرة.
آثر النظرية هو تعديل إلتزام المدين المرهق إما بتنقيص موضوعه كماً وكيفاً أو زيادة مبلغ الكلفة.
أساس النظرية هو الضرورة، الضرورة هي حالة استثنائية تدفع المضطر إلى ارتكاب محظور لدفع خطرها.
ولا يختلف القانون مع الشريعة الإسلامية في أن الصلة وثيقة بين الضرورة ونظرية الظروف الطارئة، إلا أنه كما ذكرنا سابقا يختلف معها في اشتراط كون الظرف الطارئ عاما، وأن الظرف الطارئ الخاص بالمدين لا يبرر لا فسخ العقد ولا تعديل الإلتزام المرهق. ومن الواضح أن شرط عمومية الحادث الإستثنائي يخالف مبدأ العدالة الذي قامت عليه النظرية، كما أن القوانين الوضعية اختلفت في أثر النظرية من فسخ العقد أو تعديل الإلتزام الناشئ عنه.
وقد تأثر القانون الإنكليزي بهذه النظرية عن طريق الصلة بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية.
فلسفة النظرية:
ومن الواضح أن فلسفة كل شئ عبارة عن اهدافه وغاياته، وفلسفة نظرية الظروف الطارئة عبارة عن تحقيق العدالة، وقد أخذ القضاء الإنكليزي بمدأ العدالة الذي طبقه على حالات قريبة من الحالات التي تطبق فيها نظرية الظروف الطارئة كالآتي:
أ- إذا كان الشيء المتعاقد عليه قد تلف بعد ابرام العقد.خأخذ
ب- إذا ثبت أن الطرفين قد تعاقدا بقصد الحفاظ على الشيء كما بدا لهما حين ابرام العقد ثم زالت هذه الحالة.
ج- إذا تأخر التنفيذ بسبب لم يكون متوقعا حين ابرام العقد أو طال أمد التأخير بحيث أدى إلى تبدل طبيعة التنفيذ تبدلا تاما.([16])
ومن القوانين التي تضمنت تنظيم أحكام النظرية بنصوص خاصة، القانون البولوني (م269) والإيطالي (م467) واليوناني (م388) والمصري (م347) والسوري (م348) والعراقي (م146) والليبي (م147) والكويتي (م146) والأردني (م205) واليمني (م214).
والشريعة الإسلامية بنتْ تصرفات الإنسان في حالات الضرورة على أسس ومبادئ ثابتة في نصوص القرآن والسنة النبوية، وهي لا تختلف بإحتلاف الأشخاص ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، ومن هذه الأسس:
1- (لا ضرر ولا ضرار) أي لا يجوز الحاق أي ضرر مادي أو معنوى، مالى أو جسمي بالغير بدون حق، و(لا ضرار) أي لا تجوز مقابلة الضرر بالضرر في المسائل المدنية، بخلاف جرائم القصاص، فإنها تجوز فيها المقابلة بالمثل كما جاء في القرآن الكريم [وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ]([17]).
2- (الضرر يُزال).
3- (الضرورات تجيز المحظورات).
4- (الإضطرار لا يبطل حق الغير).
5- (الضرر يُدفع بقدر الإمكان).
6- (الضرورات تُقدر بقدرها).
7- (الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف).
8- (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا لإرتكاب أخفها).
ومن الواضح أن سبب الإلتزام إذا زال يزول الإلتزام نفسه، فعندئذ لا يبقى مجال لتطليق نظرية الظروف الطارئة.
وفي الختام أدعو أساتذة الشريعة والقانون إلى القيام بالمقارنات بين الفقه الإسلامي والقوانين الغربية والعربية خدمةً لهذه الشريعة وللقانون الإسلامي من جهة، ولإبراز مكانة الشريعة الإسلامية من جهة أخرى، لأن فقهاء الإسلام والمجتهدين في الشريعة الإسلامية تركوا لنا ثروة فقهية عظيمة لو أُستثمرت بعقلية ناضجة غير متعصبة لمذهب معين وغير مقتنعة ببعض الأمثلة البالية كالتعامل بنظام العبيد والجواري، لأصبح الفقه الإسلامي دون التقيد بمذهب معين مصدرا خصبا، لا للقوانين العربية فحسب، بل لقوانين دول العالم بأسرها.
الفهرس
تفنيد مزاعم تأثر الفقه الإسلامي وقواعده بالفقه الغربي.. 3
المدخل الأول: الفتح الإسلامي للأندلس: 4
المدخل الثاني: قيام الصلة والعلاقات بين الدولة الإسلامية العثمانية وبعض الدول الأوروبية: 5
أولا/ تأثر القانون الفرنسي بالفقه المالكي : 5
ثانيا/ تأثر القانون الألماني بالفقه الإسلامي: 7
ثالثا/ تأثر القانون الإنكليزي بالفقه الإسلامي: 10
عناصر نظرية الظروف الطارئة: 11
فلسفة النظرية: 12
[1] منهم جولد تسيهر (1850-1921م) وهو مستشرق مجري تعلم في بودابست وبرلين ولبزج وذهب إلى سوريا 1873م، ثم إلى فلسطين ومصر ولازم بعض علماء الأزهر، وله مؤلفات في الفقه الإسلامي بلغات مختلفة، وهو القائل إن الفقه الإسلامي مقتبس من القانون الروماني، كما جاء في (الزركلي الإعلام 1/80)، ولأجل أن يوثق زعمه هذا، أخذ يستعرض أوجه الشبه بين الفقه الإسلامي والقانون الروماني، وهو يجهل أو يتجاهل أن هذا الشبه ناتج عن الشبه بين العقول من حيث الإنتاج العلمي.
[2] الامبراطور جستينيان الأول (فلافبوس بتروس ساباتيوس يوستيانوس(483-565) كان إمبراطوراً رومانياً شرقياً (بيزنطياً) حكم منذ أغسطس عام 527 حتى وفاته في نوفمبر 565. يشتهر بإصلاحه الرمز القانوني المسمى قانون جستينيان خلال لجنة تريبونيان، والتوسع العسكري للأرض الإمبراطورية أثناء عهده، وزواجه وشراكته مع الإمبراطورة ثيودورا. يعرف أيضاً باسم “الإمبراطور الروماني الأخير”. يعتبر قديساً في الكنيسة الأرثذوكسية، ويحيى في الرابع عشر من نوفمبر. وقد تولي الحكم بعد وفاة عمه الامبراطور جستن الأول.
قانون جيستنيان الأول، هو عبارة عن مجموعة من القوانين التي كانت تتبعها العديد من الأمم المختلفة والتي أمر الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول (527م حتى عام 565م) بعض من رجال الدين المسيحي في مملكته بانتقاء مجموعة من القوانين الرومانية. وعرفت هذه المجموعة باسم كوربس جوريس سيفيلز، وتعني مجموعة القوانين المدنية كما أطلق عليها أيضًا قانون جستنيان.
المصدر: (مدونة جنستنيان) ويكيبيديا- الموسوعة الحرة- الأنترنت.
[3] لمزيد من التفصيل في هذا الموضوع يراجع كتاب أصالة الفقه الإسلامي، دراسة في العلاقة بين الفقه الإسلامي والقوانين القديمة وأصالة المبادئ والنظم في الفقه الإسلامي، تأليف: الأستاذ الدكتور عصمت عبدالمجيد بكر، نشر دار الكتب العلمية، ص 127 وما يليها.
[4] ينظر المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية ومذهب الإمام مالك، للأستاذ عبدالله علي حسين 1/29 وما يليها.
[5] يقول صاحب المقارنات التشريعية 1/38 أن القانون المدني الفرنسي مأخوذ جُلّه من مذهب الإمام مالك.
[6] ينظر الأوضاع التشريعية في الدول العربية ماضيها وحاضرها ومستقبلها، للأستاذ الدكتور صبحي المحمصاني ص185 وما يليها.
[7] وهناك أحكام كثيرة أخرى التي تأثر فيها القانون الفرنسي بالفقه المالكي لا مجال لإستعراضها.
[8] مجلة الأحكام العدلية م118/ 3 وقد نصت المادة (561) من كتاب مرشد الحيران على أن (بيع الوفاء هو أن يبيع شيئا بكذا أو بدين عليه بشرط أن البائع متى رد الثمن إلى المشتري أو أدّى الدين الذي عليه، يرد له العين المبيعة وفاءاً).
[9] وهو حق المشي في ملك الغير (م142) مجلة الأحكام العدلية.
[10] وهو نصيب معين معلوم من النهر (م143) المرجع السابق.
[11] وهو حق جريان الماء والمسيل من دار إلى الخارج (م144) المرجع السابق.
[12] للأستاذ مخلوف محمد البدوي 1/181.
[13] ينظر الأستاذ مخلوف محمد البدوي، تعريب القانون الفرنساوي المدني 1/142 ومايليها.
[14] القانون المدني المصري، مجموعة الأعمال التحضيرية، مطبعة دار الكتاب العربي 1/20. مصادر الحق 4/100.
[15] ينظر تبين الحقائق شرح كنز الدقائق لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، المطبعة الأميرية ببولاق، 1315ﮪ، 4/256.. النيابة عن الغير في التصرف القانوني، أطروحة دكتورا في القانون، لدكتور جاسم لفته العبودي، التي أشرفت عليها سنة 1990، ص 37 وما يليها.
[16] الدكتور عبدالسلام ترمانيني، نظرية الظروف الطارئة، ص33
[17] سورة المائدة / 45.[1]