ولدت في إحدى قرى #عفرين# وانتقلت الى حلب فيما بعد قبل أن تهاجر الى فرنسا وتستقر فيها، لاحقتها الأسئلة حول هويتها، وانتمائها، فلم تجد ملاذا من أنهار القلق التي باتت تسبح فيها سوى الكتابة التي وجدتها وطنا يمنحها سكينة وهمية مؤقتة ما تلبث أن تُفجر في دواخلها عوالم صاخبة مليئة بصراعات واسئلة أكبر، إنها الروائية الكوردية السورية #مها حسن#.
نالت مها حسن الإجازة في الحقوق من جامعة حلب، نشرت حتى الآن ثلاث عشرة رواية، تُرجمت اثنتان منها الى الإيطالية وواحدة الى الكوردية السورانية، كما وشاركت في العديد من معارض الكتب والملتقيات الأدبية في أوربا والعالم العربي، مقيمة في فرنسا منذ العام 2004وحاصلة على الجنسية الفرنسية، حصلت على جائزة هيومان رايتس من نيويورك وترشحت رواياتها لجائزة الشيخ زايد ثلاث مرات في اللائحة الطويلة، وجائزة البوكر العالمية للرواية العربية مرتين في اللائحة الطويلة.
وقد اجرى موقع كوردستان 24 معها الحوار التالي:
البداية، من عفرين (قرية ماتينا) أو من حلب؟ كيف بدأت بالكتابة؟
أن تولد كوردياً، يعني أن تولد قلِقاً. يأتي الكوردي إلى الحياة مصحوباً بأسئلة كبرى، حول الهوية والوجود ، حيث أن يولد أحدنا دون وطن، هو سبب محرض لكثير من الأسئلة. كغيري من ملايين الكورد في العالم، نشأت في بيئة تطرح الكثير من هذه التساؤلات، وكغيري من هؤلاء الكورد، رضعت الهاجس السياسي المرتبط بالوجودي منذ نشأتي المبكرة.. أخذتني السياسة صوب القراءة، ومن منشورات الأحزاب التي كنت أقرؤها بالسر، تفتّح وعيي مبكراً على عوالم الحريات والنقد والبحث عن المعرفة، وهكذا تسللتُ من دهاليز السياسة التي لم تجب على أسئلتي، إلى الفلسفة، حيث أرسلتني قراءتي لماركس إلى الأصل : هيجل، ومن هيجل تعرفت على المدرسة الوجودية الحديثة، ثم على الأدب الحديث وهكذا اكتشفت سحر الكتابة. لكنني، في كل مناسبة، أقول إنني مدينة للسياسة، وللقرية، التي كان أولاد عمومتي فيها يقرؤون كتباً معقدة منذ صباهم، ليكن كتاب هكذا تكلم زرادشت مثلاً، بمثابة الكتاب الذي لا فرار منه... عبر ذلك العالم السحري، عالم ماتينا المليء بالحكايات، اكتشفت خصوصيتي ككاتبة خُلقت في ذلك المكان، لتسرد حكاياته لاحقاً.
وُلدت في حلب، محاطة بشخوص ماتينا. كانت جدتي حليمة التي ستورّثني الكثير من خصالها، والتي لم تكن تعرف من اللغة العربية، سوى السور القرآنية التي ترددها في صلواتها، أحد أهم الشخصيات التي فتحت عينيّ على وجهها.. وعدة نسوة تحلقن حول أمي.. لهذا أعتبر أن حكاية ولادتي التي حدثت في حلب، كانت سبباً لسحب شخوص القرية للمجيء إلى المدينة... تكررت حكاية جذب أقاربي، باعتباري الولد الأول البكر لعائلة أبي، الأمر الذي جلب ماتنلي إلى حلب، بجميع قصصها... وهكذا كبرتُ مع تلك القصص : الحكايات التي كانت جدتي تجهد لترويها بلغة مختلطة بين العربية والكوردية، لتوسّع مخيلتي الصغيرة، وتمنحها مساحات أوسع من بيوت الحارة وشوارعها الضيقة، فأطير مع السرد إلى عوالم لاحدود لها... هكذا دخلت الكتابة حياتي، من باب التناقضات التي كنت أحياها، بين عالمين متنافرين : عالم ماتينا الخرافي، المحتشد بقصص البطولات والجن والأساطير، وعالم المدينة المعجون بالحذر والخوف... باكراً كنت أحسّ بهذه التناقضات الصغيرة، التي سبّبَت لي الشعور بالاختلاف، فأنا لا أشبه بنات القرية ولا بنات المدينة، هذا الاختلاف الذي تحول إلى اغتراب مبكر، وجد طريقه في حياتي، ليساعدني على التعبير عن ذاتي، عبر الكتابة.
الكتابة كانت ذلك الصديق الذي ألجأ إليه، حين أشعر أن العالم لا يفهمني، أو أنه ليس لدي مكان بين الآخرين... إلى أن تحولت تلك الصداقة – الكتابة، إلى هوس.. وصارت جزءاً مني.
للبيئة مؤثراتها على طفولة الكاتب وتشكل شخصيته. ما تأثير البيئة (حارات حلب الشعبية و قصص أهلها عليك و على نتاجاتك الأدبية ؟
مدينة حلب بالنسبة لي هي رمز للذكورية القامعة. وُلدت وكبرت في حي شعبي، رغم القمع الذي كان يمارس فيه على النساء، لكن نساء حارتي كن يتمتعن ببعض الاستقلالية : يذهب الرجال باكراً إلى العمل، وتقود النساء البيوت... ذلك منحني الكثير من الثراء، وفرصة الإصغاء أكثر إلى قصص النساء ومعاناتهن، ولكن أيضاً كان ذلك العالم جزءاً من أدوات الترهيب التي مورست عليّ كفتاة محاطة باحتمالات التحرش والاعتداء... حين غادرت الحارة لأتابع دراستي الثانوية في مركز المدينة، اكتشفت ثقافة جديدة وعادات أكثر قمعاً وقسوة تمارس على النساء في الأحياء القديمة المحافظة.. دخلت بيوت صديقاتي اللواتي كنّ يرتدين ملابس تغطيهن من قمة رؤوسهن حتى أقدامهن، وكذلك يغطين وجوههن... عرفت حكايات القهر التي تعيشها النساء كأنهن عار متحرك كيفما تنفّسن.... تنامى لدي الشعور بالاغتراب، من فتاة تعيش نساء عائلتها في قرى تسمح بالاختلاط وتذهب فيها المرأة إلى العمل برفقة الرجال : موسم الزيتون مثلاً، أو الحصاد... وبين أجواء الحارات المغلقة، حيث وجه المرأة وصوتها، حلم للرجال... من تلك التناقضات كنت أشعر بالغضب، وبالرغبة في الدفاع عن وجود النساء... حيث كوني امرأة سهّل لي دخول ذلك العالم السري المليء بالحكايات المدهشة، عن عوالم النساء المختلفة بحدة عن تلك التي تظهر على السطح.. لأكتشف تدريجياً أن النساء هن الحاكمات الحقيقات لتلك المجتمعات القمعية، والتي يتمتع فيها الرجل بالحكم الشكلاني فقط... كل ذلك كان يحرّض عقلي على العمل، وارثة من جدتي وحكاياتها، قانون العدالة، لهذا صرت أكتب احتجاجاً على الظلم الذي تعانيه النساء، من هنا مثلا كتبت بنات البراري حول جرائم الشرف التي كانت حكاياتها تطاردني ليل نهار، وأسمع عن نساء قُتلن من قبل الرجال، بحماية القانون...
في رواية حبل سري طرحت موضوع الانتماء و مفهوم الوطن و قلت حيثما يخفق قلبك، هذا هو الانتماء هل هذا تحرر من الوطن أم تأكيد على الحاجة له، وطن الاطمئنان؟
هذه الرواية هي أول عمل أكتبه في فرنسا، لهذا أعتقد أنها أولى ثمار الحرية. في سوريا، كانت علاقتي مع الرقابة سبباً كبيراً لعدم الكتابة كما أرغب... حبل سري كانت بوابتي صوب الحرية. في باريس، اكتشفت هويتي الجديدة، الطازجة : أنني امرأة ، وأنني كوردية... من هنا ربما كانت علاقتي بالوطن محاطة ببعض الرومانسية، لأنني لم أعش في وسط كوردي بحت، بل كانت علاقتي بالكورد دائماً قادمة من منطقة الاختلاط الهوياتي العربية بالكوردية والتناقض والاغتراب... المنفى الفرنسي، ساعدني لأفهم منفاي ككوردية تعيش خارج وطن لم تختبره ولم ينوجد أساساً في حياتها... أما الانتماء، فلا أزال عاجزة عن تعريفه، لأنني لا أزال، حتى اللحظة، أشعر بالاغتراب ذاته في الوسط الكوردي، كما في الوسط العربي، وكأن متلازمة الطفولة، أنني لا أشبه أولئك ولا أشبه هؤلاء، هي لعنة ترافق حياتي دائماً.
وطن الاطمئنان تحقق لي في فرنسا، لكنه اطمئنان قانوني وحقوقي، بينما وطن الاطمئنان العاطفي فأنا أعتقد أنه موجود في مكان لم أختبره بعد، وبهذا المعنى، فإن كوردستان هي صورة الوطن العاطفي الذي أحلم به، هو الزمن الضائع الذي تحدث عنه بروست، والذي أتصور أنني سأجد فيه مفاتيحي الضائعة ذات يوم.
في الرواية نفسها تقولين على لسان إحدى شخصياتك: لقد انتصرت كوردستان بك، إن الوطن الذي لم تعرفيه، حقق وجودا (وجوداً) أقوى من خلال إصرارك على افتقاده، لقد صنعت وطناً كبيراً فيك هل حقق كردستان وجوداً أقوى بإصرارك أنت كمها حسن؟ ماذا تعني لك كوردستان؟
هناك في داخلي كوردستان خاصة بي، صنعتها وفق عوالمي النفسية والروحية والإبداعية ، ربما كوردستان التي في داخلي، ربما لاتشبه كوردستان التي على الأرض، فأنا أعي أنني أرسم صورة مثالية غير واقعية عن كوردستان، بسبب حرماني منها كما أسلفت. لهذا أخاف أحياناً من تحقيق حلمي في زيارة كوردستان إقليم كوردستان مثلا، حتى لا تتحطم الصورة المثالية في مخيلتي، وفي نفس الوقت، أشعر بالحسد من أصدقاء عرب وفرنسيين، يحدثونني عن عظمة كوردستان : الطبيعة العلاقات الحرية السياسية مكانة المرأة.... فأشعر بأنه عليّ في أول فرصة، الطيران إلى أربيل أو روجافا أو غيرها من أراضينا الواسعة... سوف يكون لدي كلام أكثر واقعية، حين أحقق هذا الحلم بالذهاب إلى ما أسميه بأرض الميعاد، لأحكم بعدها إذا كانت صورتي مثالية أو حقيقية... هذه هي كوردستان في داخلي : حكاية الأب المفقود الأم الضائعة. الرغبة في استعادة الزمن الممنوع، والأرض التي حرمنا منها... وهذا الكلام ليس سياسياً، بل أتحدث عن مشاعري الشخصية وعلاقتي بعيش بديل عن عيش أصلي، لا أعرف اليوم، أيهما الأصلح لي ككاتبة، وهبت حياتها في نهاية المطاف، للكتابة.
حين أتحدث مع أصدقائي باللغة الكوردية، حين أسمع الأغاني الكوردية، حين أرى العلم الكوردي، فإن هذه الأشياء تنقلني من حالة لأخرى، تصنع لي وجوداً آخر، كأنني أصبح شخصاً آخر، كائناً آخر...
تسحرني فكرة كوردستان، أؤكد أنني لا أتحدث عن المفهوم السياسي، بل عن فكرة المكان الآمن، الشبيه بحلم لم أتخيل يوماً بإمكانية تحقيقه : أنك في مكان، يتحدث فيه كل الناس تلك اللغة الساحرة، لغة جدتي حليمة، مؤسستي في السرد، لغة أبي، أعمامي، عماتي... لغة القلب..
كوردستان هي الحلم، هي المخيلة التي يمكنها التحول إلى واقع، هي طفولتي المستردة، والأمان الذي أشعر به وينقصني في كل الأمكنة الأخرى... كوردستان هي عائلتي التي فقدتها، وأنا أغادر مسقط رأسي، لتكون وطني المُختار.. الذي أعود إليه، عودة نيتشه إلى صيغة العود الأبدي لتكون البداية هي الاختيار، بعد رحلة التجريب والابتكار في بلاد كثيرة وبعيدة.
تقولين إنّك خُلقْتِ لتروي وتقولين إنك أخذت فن سرد الحكايا ورواية القصص من أمك ومن النساء الكورديات . الأمهات الكورديات لاقين الكثير من المعاناة بحكم سياسات الأنظمة الغاصبة لكوردستان، هل نجد أو سنجد في نتاجاتك نموذج من هذه الأم أو المرأة الكوردية؟
لا أعرف إذا لم تكن حنيفة أو صوفي في رواية حبل سري، أو باقي الشخصيات النسائية في الرواية، تجسيداً لمعاناة المرأة الكوردية، من حيث خلل الهوية الذي دعا بطلتي إلى مغادرة بلدها الذي لم تشعر بالانتماء له، بسبب القمع السياسي، الذي عانته فيما بعد ابنتها باولا، التي كانت ثمرة زواج امرأة كوردية من رجل فرنسي، ومع ذلك لم تحتمل العيش في بلد قمعي سوريا. أعتقد أن نماذج النساء الكورديات موجودات في روايتي، لكن ربما أنا اعتدت الاشتغال على منطقة إنسانية أكبر شمولاً من الهاجس السياسي المباشر، وربما لأنني أحتاج إلى المزيد من اختمار تجاربي في الاحتكاك مع المجتمع الكوردي الذي انفصلت عن همومه المباشرة حين غادرت سوريا إلى فرنسا. ربما أصبحت القصص العالقة معي قديمة، وأحتاج إلى خبرات جديدة، وهذا يتطلب مني إعادة بناء العلاقة المكانية مع الشخوص الجدد، أي الذهاب مجدداً، من فرنسا إلى كوردستان، لمنح شخوصي حيوية معاصرة، والاطلاع على نماذج نسائية لم أتعرف عليها في حياتي السابقة حين كنت في سوريا.
الرجل في رواية مها حسن شخصية هامشية و تكاد (وتكاد) تكون تخدم الشخصية النسوية؟ هل هذا انعكاس لحالة معينة، أم أنَ المرأة لم تأخذ حقها في الحياة و الادب (والأدب)، فتكتبين عنها؟
أعتقد في العمق، أن السرد فنٌّ نسويٌّ، وأن النساء يتمتعن بقدرات سردية هائلة، لكن القمع الاجتماعي والحرمان حتى من إمكانية التعلم والتعبير عن الذات، نحّى إبداع المرأة، وحرم الفن عموماً من أثر الإبداع النسوي عليه. لا تزال الكثير من العائلات الشرقية تنظر إلى دور المرأة في المجال الإبداعي بمثابة عيب، وحتى تلك المجتمعات المتقدمة سياسياً، كحال المجتمع الكوردي، الذي يؤمن بدور المرأة السياسي والعسكري، لكنه يرى دورها الثقافي مؤجلاً أو ربما ترفاً.. علماً أن نهضة المجتعات تتأتى من الأدب والفنون قبل العسكرة والسياسة، وأي تطور نحلم به، إن لم يكن مصحوباً بانفتاح ثقافي وحضور المرأة إبداعياً فيه، يبقى ناقصاً. من هنا أسعى لتقديم نماذج نسائية في كتابتي، لأنني أعلم أن هذه المنطقة مليئة بالخصوبة الإبداعية، التي لم يتم استثمارها جيداً حتى الآن، وأنا مؤمنة، أنّه حين تتاح لنسائنا إمكانيات التعبير، سوف نجد أدباً مهماً يشكل مفاجآت في حركة الأدب عموماً...
أنت كوردية عفرينية، درسْتِ في حلب ونهلْتِ الثقافة العربية ومن ثم هاجرت إلى فرنسا وتعيشين فيها وترين فيها مساحة كبيرة من الحرية. بين عفرين، وباريس، ما هو المكان الذي تشعرين بالحنين إليه وتتوقين إلى العودة إلى أحضانه؟ و بين الكوردية و العربية،أين تجدين هويتك؟
كل هذه الأمكنة تشكل هويتي. كل هذه الأمكنة صنعت حكاياتي، لكن هويتي العاطفية، هوية الطفولة، الهوية التلقائية، لا تزال تنتظرني هناك، للالتصاق بها، والاعتناء بها، في أرض كوردية خصبة بالحكايات، عليّ سردها...
مع أنني تخلصت من مفهوم الهوية الإشكالي، وأحاول قبول هوياتي المتعددة، المتناقضة أحياناً، ضمن هاجس الحرية الذي يشغلني، فإنني مسحورة بالعالم الكوردي الذي ينقصني الكثير عنه.
مرة رأيت صورة لمنطقة هورامان، طرتُ من السعادة، وقلت إنّني أريد أن أموت في هذا المكان. حين يروي لي أصدقائي الفرنسيين عن حكاياتهم في كوردستان، أشعر بالغيرة منهم، وأن هذه الأرض هي جزء كبير من هويتي التي لم ألتحق بها حتى اليوم، لأسباب تتعلق بالحياة اليومية وصعوباتها أحياناً والتزاماتي في فرنسا...
أعتقد أنني عشت جيداً في الوسط العربي والفرنسي، وأتمنى أن تساعدني الحياة، لأخصص المتبقي من عمري، في كوردستان، أصطاد الحكايات، وأتابع سردياتي من هناك، فأنا في النهاية كاتبة، وليست لي هواجس في الحياة سوى الكتابة والتعبير عن عوالم الآخرين ، المقهورين والمغمورين. و من حقّي أن أسرد حكايات النساء والصبايا الكورديات، اللواتي تسحرني صورهن من بعيد، وأتوق للتعرف إليهن والاقتراب منهن...
مها حسن كروائية استطاعت شق طريقها عربياً وتمكنت أن تحتل واجهات المكتبات وأسواق الكتب والمعارض؟ هل لاقت مها حسن نفس الانتشار في الوسط الكوردي؟
بترجمة روايتي الراويات إلى الكوردية السورانية، بدأ بعض القراء الكورد يتعرفون عليّ في إقليم كوردستان، خاصة أولئك الذين يقرؤون السورانية، وهذا أيضاً أحدث لدي تغييراً نفسياً، حيث انتابني إحساس غامض، كأنني كنت أكتب بلغة أترجم عبرها عالمي الداخلي الكوردي، الذي لا أجيد لغته، بل أمتلك مشاعره، فأكتب بالعربية، لأعبر عن حكايات تسكنني منذ نشأتي بين نساء كورديات، لتأتي الترجمة كوسيلة لإعادة كتابتي وتقديمها إلى تلك النسوة، لتسمعن حكاياتي بلغتهن...
مع مشاريع قادمة لترجمة أعمالي إلى الكرمانجية، أتطلع إلى تعرّف القراء الكورد على نتاجي الأدبي بشكل أوسع...
الروائي يخلق عالمه الروائي الخاص الذي تعيش شخصياته فيه، ما الذي يريده الروائي فعلياً من شخصياته الروائية التخيلية؟ ماهي مهمة الرواية؟
يُقال إنّ ابن أينشتاين طلب من والده نصائح حول الكتب التي ينبغي قراءتها، فنصحه أبوه بالقصص الخيالية. من هنا ثمة مقولة مهمة لعالم الفيزياء الكبير: المخيلة أهم من المعرفة.
إن بناء عالم خيالي مرادف للعالم الواقعي، هو أكثر غنى.. الحياة اليومية مليئة بالتكرار والنمطية والملل، أما في الرواية، فأنت تنتقي المقاطع المعمقة من الحياة وتسردها لا لخلق المتعة فقط، بل لخلق العبرة، والمعرفة... الرواية بالنسبة لي هي مطبخ إنساني شامل للعلوم والمعارف والتحليل النفسي. لنأخذ مثلاً روايات ديستويفسكي، أظننا نستطيع أن نعثر فيها على إجابات لم يتمكن علم النفس من العثور عليها. الرواية كفن يطرح عالم الإنسان ، ويدخل إلى أعماقه وتناقضاته ورغباته، بل واعترافاته، دون تقييم أخلاقي أو حكم مجتمعي، هي مخبر إنساني لفهم هذا الإنسان بطريقة ممتعة... الإنسان بشكل عام يحب الحكايات ويتعلم من قصص الآخرين، أكثر مما يتعلم من النظريات المحضة ... الرواية متاحة لجميع المستويات، ولا تحتاج إلى التخصص لدى القارئ، ويمكن لكل شخص أن يستخلص العبر التي تتناسب مع ثقافته وتجربته، دون أن يتقصد الروائي ليكون ذلك الواعظ.
وصلتني رسالة مرة، أثرت بي بعمق، من شخصية ثقافية مهمة، قالت لي إنّ قراءتها لروايتي ساعدتها على حل مشكلة شخصية كانت لديها...
بالنسبة لي، وكما ذكرت في روايتي الراويات، الرواية أبقى من الروائي، إن مدام بوفاري مثلا أكثر خلودا من فلوبير، ولهذا أنا أكتب.. أظن أن صوفي بيران بطلة حبل سري، هي أهم مني لدى الكثير من القرّاء، فلا تهمهم حياتي، بل قد يتتبعون حياة بطلتي... هل يصدق أحد، أن هناك قراء وقعوا في غرام بطلاتي؟ لا أنسى قارئا كتب لي أنه كلما وقف بسيارته على إشارة المرور، تطلع حوله باحثا عن سيارة بيجو كحلية تقودها صبية ذات عينين زرقاوين اسمها صوفي بيران...
نعم، الروائي يخلق عالماً ممتعاً ومبهراً ومفيداً، والرواية مدرسة إنسانية ومعرفية ومحرض على التفكير والخيال وتوسيع احتمالات العيش الضيقة التي وهبتنا إياها الحياة البيولوجية المحددة بالولادة والموت، بينما الرواية هي الخلود وتخليد أبطالها :بوفاري ،راسكينلكوف،لوليتا ، أنطوان روكانتان، ميرسو،آنا كارنينا...
هذه شخصيات لا تموت مهما تراكم عليها الزمن...[1]
تحرير سوار أحمد
أجرى الحوار سيامند بريم