#عبد الحسين شعبان#
احتدم النقاش والجدل لدرجة الاتهام بخصوص ما أعلن عنه رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، عن عزمه إجراء استفتاء لتقرير استقلال كردستان. وقد تزامن ذلك مع أعمال حفر لخنادق تنفذها شركات أمريكية وفرنسية. وكانت ردود الفعل الأكبر قد وردت من القوى الشيعية السياسية التي طالبت رئيس الوزراء حيدر العبادي بتوضيح موقفه، واعتبرت أن سكوت الحكومة الاتحادية على ذلك مرفوض، كما عبر عن ذلك إحدى قيادات كتلة دولة القانون التي يرأسها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
من جهتها نفت حكومة إقليم كردستان أن يكون الهدف من حفر الخنادق غرضه «ترسيم حدود الإقليم»، وجاء ذلك على لسان أمين عام وزارة البيشمركة الفريق جبار الياور، مؤكداً أن حفر الخنادق لا علاقة له بحدود الإقليم أو بالمواضيع الجغرافية والسياسية أو المشاكل الموجودة بين الإقليم والحكومة الاتحادية، ولكنه فقط لحماية قوات البيشمركة من هجمات تنظيم «داعش».
جدير بالذكر أن حفر الخنادق يمتد من منطقة ربيعة على الحدود العراقية - السورية ليصل إلى قضاء خانقين في ديالي على الحدود العراقية- الإيرانية، وهو يشمل ما يسمى المناطق المتنازع عليها، والتي ظل مصيرها معلقاً، ابتداء من محافظة كركوك التي تمثل نقطة توتر واحتكاك مستمرة بين العرب والكرد والتركمان، وجميع المناطق المشمولة بالمادة 140 من الدستور العراقي الدائم (النافذ) لعام 2005، والتي تم ترحيلها من المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004.
وقد فجر استيلاء «داعش» على محافظة الموصل في 10 يونيو/ حزيران 2014 وتمدده، وخصوصاً في محافظتي كركوك وديالى، الهواجس القديمة والمخاوف المستمرة بشأن مصير هذه المناطق، والأمر لا يتعلق بوضعها الراهن فحسب، والقلق المصاحب لها بسبب التنازع في النفوذ عليها وفيها، وإنما حول مستقبلها ما بعد «داعش»، وتلك هي الخشية الحقيقية، وهذا هو الأخطر الأعظم، فيما يخص وحدة العراق، لاسيما وإن «داعش» قام بهدم حدود سايكس بيكو، واصلاً الرقة ودير الزور بالموصل ومناطق غرب العراق.
وإذا كان «داعش» صائراً إلى زوال إن آجلاً أو عاجلاً، لأنه ضد الصيرورة الإنسانية وضد حياة الناس ونمط عيشهم ومعتقداتهم المتوارثة وفهمهم العفوي والتلقائي المتسامح وغير الإيديولوجي للإسلام، فإن ما بعده سيكون محط تنازعات وربما احترابات، وما نشهده اليوم ليس سوى مقدمات لها، سواء عمليات التطهير والعنف والإرهاب التي قامت بها ميليشيات منفلتة في المقدادية وديالى وقبل ذلك في صلاح الدين وكركوك، وخصوصاً في الحويجة وتوزخورماتو وغيرها، وكذلك ما حصل في سنجار، فضلاً عن الشكوك والارتيابات التي أثارها حفر الخنادق، لأن كل ذلك يجري في غياب الثقة بين الأطراف السياسية، ورغبة كل مجموعة الحصول على امتيازات ومكاسب إثنية أو طائفية على حساب الآخر، ناهيك عن محاولات هيمنة حزبية حتى داخل الفئة الواحدة.
وكان مسعود البارزاني قد دعا العالم للاعتراف بإخفاق اتفاقية سايكس بيكو التي وقعها وزيرا خارجية كل من بريطانيا وفرنسا في العام 1916، وهي اتفاقية سرية لتقاسم مناطق النفوذ، وقد تم الكشف عنها بعد ثورة اكتوبر الروسية العام 1917. وطالب البارزاني باتفاق جديد يمهد الطريق لدولة كردية، وجاء في حديث له نشرته صحيفة الغارديان البريطانية (أواخر يناير/ كانون الثاني) 2016: إن المجتمع الدولي بدأ يقبل بأن العراق وسوريا تحديداً لا يمكن توحيد كل منهما مجدداً (مرة ثانية)، وأن التعايش الإجباري أمر خاطئ، واعتبر حقبة سايكس بيكو انتهت، سواءً قالوا ذلك أم لم يقولوا، فالحقيقة على الأرض تؤكد ذلك حسب تعبيره.
وأكد البارزاني أن استقلال كردستان العراق أصبح الآن أقرب من أي وقت مضى، موضحاً أن الدول التي كانت تعارض ذلك بدأت تقتنع بجدوى خطوة من هذا القبيل، لأن السيادة الكردية وفقاً للحدود الحالية، ستضفي وضوحاً على الصورة، ولعله يقصد بذلك قيام دولة كردية بفعل التغييرات الجيوسياسية التي حصلت في المنطقة، وخصوصاً بعد هيمنة «داعش» على الموصل ودور البيشمركة في إبعاده عن كركوك وفي تحرير سنجار وفي المعركة المرتقبة ضده في الموصل، والتي ستساهم فيها قوات التحالف الدولي التي أخذت تدرب أعداداً من أبناء العشائر وتسلحهم، علماً بأن واشنطن بدأت بإرسال المزيد من القوات الأمريكية بصفة خبراء ومدربين أو عسكريين وأمنيين تحت عناوين مختلفة، إضافة إلى فرقة مجوقلة.
لا يخفى على أي باحث في الشأن الكردي أن الحلم بإقامة كيان مستقل يبقى يراود الشعب الكردي بأقطاره التي توزع عليها، سواءً كان في العراق أو إيران أو تركيا أو سوريا، ولعل الحلم يذهب أبعد من ذلك ليصل إلى وحدة للأمة الكردية المجزأة، وهو حلم مشروع له مثل سائر الشعوب، حيث يبلغ تعداده بين 35-40 مليوناً ومساحته الجغرافية تزيد على 400 ألف كم مربع، لكن التطلع إلى ذلك شيء والواقع المفروض شيء آخر، وقد تكون الخطوة الأولى له، إقامة الدولة القاعدية، التي يمكن أن تتمركز حولها الكيانات الأخرى وتتبلور الأهداف والخطط العملية لمواجهة التحديات لبناء الدولة الأمة، مستقبلاً.
لقد رفعت الحركة الكردية في العراق منذ ستينات القرن الماضي شعار «الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان» وتطور هذا الشعار بعد فشل اتفاقية 11 مارس/ آذار العام 1970 مع الحكومة العراقية وإخفاق تطبيقات قانون الحكم الذاتي، الذي سنته حكومة بغداد العام 1974، إلى رفع شعار «الفيدرالية» كصيغة جديدة لحقوق الكرد، وكان أول برلمان لكردستان، قد قرر في العام 1992 «الاتحاد الفيدرالي»، الذي أيدته المعارضة العراقية في حينها، ثم أصبح واقعاً بموجب دستور العام 2004 (المؤقت) والدستور النافذ لعام 2005، مع أن هذا التأكيد تضمن غموضاً وإبهاماً، حمل معه الكثير من الالتباسات والألغام، التي يمكن أن تنفجر في كل لحظة، منها ما يتعلق بالمادة 140 وتفسيراتها وتأويلاتها وتعقيداتها، وكذلك بخصوص المادة 111 والمادة 112 بشأن النفط والغاز والموارد الطبيعية، ومدى قانونية وشرعية عقد اتفاقيات خاصة مع دول أجنبية، فضلاً عن استثمار النفط وتسويقه، وكذلك علاقة البيشمركة بقيادة الجيش العراقي.
وقد تركت مثل هذه الأمور حساسيات مضاعفة على حساسيات الحرب والاقتتال بين الحكومة والحركة الكردية، لدرجة تعاظمت الشكوك بين بغداد وإربيل، والأمر وجد انعكاساته بين إربيل والسليمانية، وبين الحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة، وحركة التغيير (كوران) وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني والجماعة الإسلامية الكردية من جهة ثانية، وإنْ كان الصراع أعمق من ذلك بكثير، وجزء منه له أبعاداً تاريخية، أخذت تجلياتها تأخذ شكل خلافات قانونية ودستورية، فيما يتعلق بتحديد ولاية رئيس الإقليم، وصلاحيات الرئيس، وكانت ردود الفعل حادة وشديدة، وقد تعمقت الهوة بين قيادة الإقليم، والقوى الأخرى في البرلمان والوزارة، باتخاذ إجراءات اعتبرتها القوى المعارضة إقصائية وتهميشية.
لعل الشيء اللافت إن كل أزمة تحدث في الإقليم يتبعها تصعيداً خارجياً وتلويحاً بالاستقلال. وإذا كان الحلم الكردي بقيام دولة مشروعاً، بل إن بعض عرب العراق يؤيدونه، وخصوصاً من أوساط التيار اليساري والليبرالي، لاسيما إذا أصبح العيش المشترك مستحيلاً، إلا أن ذلك يحتاج إلى تفاهمات واتفاقيات وخطوط تواصل وبناء جسور من الثقة.
أما بخصوص الموقف الدولي فليس هناك موقف معلن لتأييد «استقلال» كردستان، وقد كان مسعود البارزاني قد حمل معه فكرة إعلان الاستقلال في آخر زيارة له إلى واشنطن في 3 أيار (مايو) 2015، لكنه حسبما ترشح من أخبار لم يلقَ التأييد المطلوب، وكان وفد الاتحاد الأوروبي قد دعا مؤخراً إلى تأجيل البحث في الاستفتاء على الاستقلال، وحث الإقليم على المفاوضات مع بغداد لتسوية الملفات الخلافية وأهمها النفط والأزمة المالية ومخصصات البيشمركة، علماً بأن الاتحاد الأوروبي سيقدم قرضاً إلى بغداد قدره خمسة مليارات دولار، وتسعى إربيل للحصول على حصتها منه، وقد يكون ذلك شرطاً لتأجيل الاستفتاء، حيث تزامن مع ذلك زيارة وفد كردي رفيع المستوى إلى بغداد للتباحث مع الحكومة الاتحادية بشأن الموضوعات الآنفة الذكر.
أما بصدد الموقف الإقليمي، فيمكن القول إن من غير المسموح حتى الآن قيام دولة كردية، لا من جانب إيران ولا من جانب تركيا، اللتان تعانيان هما أيضاً مشكلة كردية محتدمة، معلنة أو مضمرة، لأن ذلك سيؤثر في أكراد المنطقة، فضلاً عن وجود حزب العمال الكردستاني PKK في شمال العراق (كردستان) ودوره في الصراع الدائر في سوريا، وخصوصاً في المناطق الكردية.
لقد تصرفت الحركة الكردية طوال الحقبة الماضية، بواقعية سياسية، سواء بمشاركة الكرد في الحكومة الاتحادية أو في إطار الفيدرالية الموسعة، حيث يجني الإقليم ثمارها، وقد يكون ذلك أكثر فائدة للكرد من أية صيغة أخرى في الوقت الحاضر، دون أن يعني ذلك أي مساس أو ثلم لحق تقرير المصير، لكن الأمر يحتاج إلى المزيد من الحوار والإقناع والتفاهم واتباع الوسائل القانونية والسلمية، وحل المشاكل العالقة في إطار المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وهو خلاصة لتجربة عراقية مريرة بين الحكومة والكرد، التي لم تحسمها البنادق ولا تحلها الخنادق، فما بالك و»داعش» يتربص بالجميع.[1]