#عبد الحسين شعبان#
ساهمت موجة التغيير في أوروبا الشرقية التي أطاحت بالأنظمة الشمولية بزيادة عدد الدول على صعيد العالم، حيث انشطرت يوغسلافيا إلى ستة أجزاء كان آخرها كوسوفو، وانقسم الاتحاد السوفييتي إلى 15 دولة، وانفصلت تشيكوسلوفاكيا إلى جمهوريتين هما التشيك والسلوفاك، وقبلها وبعدها شهد العالم قيام دولة إريتريا المنفصلة عن أثيوبيا ودولة تيمور الشرقية المنفصلة عن أندونيسيا، ولعلّ آخر دولة تأسست هي جمهورية جنوب السودان التي انفصلت عن السودان، وكل هذه الدول انضمت إلى الأمم المتحدة. كما شهدت سنوات الستينيات تحرر واستقلال العديد من دول أفريقيا وآسيا، خصوصاً بعد صدور القرار 1514 الخاص بتصفية الكولونيالية العام 1960 من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومثلما انتعشت الهوّيات الفرعية في الثمانينيات في أوروبا الشرقية وأدت إلى قيام دول جديدة، فإن إشارات واحتدامات غير قليلة بدأت تتجمّع في إطار جدل وصراع بين الهوّيات، الأمر الذي قد يدفع باتجاه انقسام العديد من دول المنطقة، وهي احتمالات تبقى واردة، بل أن هناك من يسعى إليها، ارتباطاً بظروف السياسة الدولية ومآلاتها ومصالح القوى الكبرى ومحاولاتها في فرض الاستتباع والهيمنة، خصوصاً لوجود عاملين أساسيين هما: حماية أمن إسرائيل وتأمين الحصول على النفط، وإذا كانت هناك مزاعم قديمة بمواجهة الخطر الشيوعي، فإن المزاعم الجديدة تركّزت على مواجهة الخطر الإسلامي المتمثل بالارهاب الدولي.
وقد لفت انتباهنا مؤخراً، ولا سيما خلال موجة التغيير العربية، هو حجم التوقعات التي سبقته ولحقته، من خلال العديد من مراكز الأبحاث و تروست الأدمغة وعلى سبيل المثال لا الحصر هو ما يتوقعه الباحث الهندي الأمريكي باراج خانا من مؤسسة أمريكا الجديدة New America Foundation في كتاب أصدره عشيّة التغييرات في العالم العربي بعنوان كيف ندير العالم How to Run The World، حيث يذهب إلى احتمال وصول دول العالم إلى نحو 300 دولة خلال العقود القليلة القادمة، أي أنها ستزيد بأكثر من 100 دولة.
ولعلّ موجة الانشطار الأميبي المتوقعة تلك كان قد أطلق عليها مرحلة ما بعد الاستعمار (الكولونيالية)، لأنه يعتبر العديد من البلدان نشأت من رحم مستعمرات قديمة، وشهدت منذ الاستقلال انفجاراً سكانياً هائلاً، كما عانت من الدكتاتوريات وفسادها، ومن صراعات عرقية ودينية وطائفية، ناهيكم عن بنية تحتية ومؤسسات متداعية، الأمر الذي سيدفعها إلى الانفصال.
ويعزو خانا أسباب الكثير من الصراعات الداخلية إلى الحدود القائمة اليوم (خارجية وداخلية)، وهو أمرٌ عانت منه الكثير من المجتمعات: اليمن وباكستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ويعيش العراق اليوم أحد فصوله المأساوية، ولا سيما في كركوك. وما يسمى في المناطق المتنازع عليها، حيث ينفجر العنف على نحو جنوني.
وبعيداً عن نظرية المؤامرة، فإن تقسيم العالم بموجب خرائط قديمة وجديدة قائم فعلياً، ففي مؤتمر برلين العام 1884 تم تقسيم أفريقيا دون مراعاة إرادة السكان ومصالحهم. وقامت بريطانيا بتقسيم الهند إلى الهند والباكستان، وظلّت مشكلة كشمير قائمة، وانبثقت دولة بنغلادش العام 1971 .
وكانت منطقة الشرق الأوسط منذ مطلع القرن العشرين عرضة للتقسيم الذي وجدت ضالته خلال الحرب العالمية الأولى، حين وقعت بريطانيا وفرنسا، على اتفاقية سايكس بيكو العام 1916، وبموجبها، تم تقسيم الامبراطورية العثمانية ( حليفة ألمانيا ضد دول الحلفاء) بينهما، وقد كشفتها روسيا البلشفية ونشرت وثائقها بعد ثورة اكتوبر العام 1917.
وتزامناً مع سايكس بيكو الأولى أصدر آرثر جيمس بلفور (وزير خارجية بريطانيا) وعداً تم بموجبه منح اليهود وطناً قومياً لهم في فلسطين وذلك في العام 1917، لكن الحدود النهائية للشرق الأوسط في تلك المرحلة تم وضع لمساتها الأخيرة في مؤتمر القاهرة العام 1922 من قبل وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل، وبموجب ذلك تم فصل شرق الأردن عن حدود ولاية فلسطين.
ولكي يتكرس التقسيم، بل يتحوّل إلى أمر واقع، فقد عملت القوى الامبريالية والصهيونية، إنشاء إسرائيل في العام 1948، لتكون عائقاً في خاصرة أية وحدة أو اتحاد أو حتى تنسيق أو تقارب بين دول المنطقة، وهو الأمر الذي يفسّر توظيفها لكل الإمكانات والطاقات للاطاحة بالجمهورية العربية المتحدة، التي أقيمت في العام 1958، وقد حصل لها ما أرادت في الانفصال العام 1961.
كما بقيت العلاقات العراقية- السورية متدهورة منذ استقلال سوريا العام 1946 ولغاية الآن، باستثناء فترات قصيرة جداً، تم فيها تطبيع متعثر، مهما اختلفت الأنظمة: ملكية أو جمهورية، يسارية أو يمينية، بعثية أو غيرها، وعلى الرغم من وجود نظامين بعثيين خلال عقود من الزمان، يزعمان أنهما يؤمنان بالوحدة العربية، لكن قضية الوحدة صارت أقرب إلى الكابوس منها إلى الحلم على أيديهما.
وكان زبيغنيو بريجنسكي قد دعا في كتابه بين عصرين- أمريكا والعصر التكنوتروني الصادر في العام 1970 إلى إعادة تشكيل الوطن العربي على شكل كانتونات عرقية ودينية وطائفية، ففي ذلك وحده سيسمح للكانتون الإسرائيلي أن يعيش في المنطقة. وواصل برنارد لويس فكرة تقسيم الدول العربية، بحيث تضيع ملامح الفكرة العروبية، بصعود الهوّيات الفرعية المصغّرة للمكرو دويلة التي سينقسم إليها العرب.
واستكمالاً لذلك يعتبر باراج خانا أن معظم دول المنطقة هي دول اصطناعية وإن ظلّت تحافظ على حدودها، لكن الكثير من شعوبها لم يرضِها ذلك، فالأكراد موزّعون على العراق وسوريا وتركيا وإيران. وليبيا دولة اصطناعية أيضاًَ، فقد أعيد تركيبها بعد الاستعمار الإيطالي من خلال توحيد ثلاث مناطق هي: برقة وطرابلس الغرب وفزان، وكذلك اليمن وسوريا والأردن والبحرين وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية، وهذه كلها تشهد توترات داخلية بين جماعات وقبائل وتعاني من حكم أقليات تفرض نفسها على الأكثرية.
وحسب الخريطة الجديدة للشرق الأوسط، فليس من المستبعد أن يعيد التاريخ نفسه وتنفصل هذه البلدان، فجنوب اليمن جاهز، والمملكة العربية السعودية وإنْ كانت شاسعة، فقد تشهد دولة للمنطقة الشرقية الغنية بالنفط، وأخرى للأماكن المقدسة.
وتميل القوى الغربية إلى شرق أوسط متصارع ومنقسم، بل أقرب إلى التشظي، وهو ما تشجّع عليه الغرب، بل ستساهم فيه كما يقول خانا، وعندها ستكون إسرائيل قادرة على فرض قوتها ونفوذها في المنطقة بأسرها، ويواصل باراج خانا سيناريوهاته في مقالة أخرى بالتعاون مع فرانك جاكوبس التي قام بترجمتها مركز الزيتونة في بيروت، حيث يتم تناول سوريا التي لن تعود إلى سيرتها الأولى بعد الاقتتال الدائر فيها، ولربما ستصبح شبيهة بلبنان حيث الديانات تتنازع حقوقاً لمحتلي أملاك الغير، بسبب ضعف الحكومة المركزية.
يقول خانا وجاكوبس: قد تعود سوريا إلى التقسيم العرقي الذي وضعه الفرنسيون: دولة للدروز وأخرى للعلويين في الساحل والجبل ودول منفصلة في دمشق وحلب للسنّة، ويمتد الأمر إلى إيران وبقدر تمدّدها الخارجي، فهي عرضة لانهيار داخلي، وهناك 20 مليون اذربيجاني شمال إيران (مدينة تبريز) وقد يلتحقون باذربيجان أو يتحالفون مع تركيا بحكم أصولهم العرقية، وهو أمرٌ قد يقوّض هيمنة أرمينيا على إقليم ناغورني- كارا باخ المتنازع عليه.
وأفغانستان هي الأخرى يمكن أن تنقسم بعد الانسحاب الامريكي إلى باشتوستان وقد ينفصل شعب بلوشستان في دولة خاصة، في منطقة غنية بالغاز، وحسب رالف بيترز فإن ما تخسره أفغانستان غرباً لصالح إيران، يمكن أن تكسبه شرقاً من باكستان، وهكذا يتم عبور الحدود بحدود جديدة وبكل الاتجاهات.
وحسب هذه السيناريوهات، فإن خارطة الشرق الأوسط ستشهد دولاً جديدة لا تنشأ عبر الانفصال حسب، بل من خلال ولادات جديدة، بدلاً من الخصومات القديمة: ولكن بعضها سيكون معزولاً وبعيداً عن السواحل(جنوب السودان وفلسطين وكردستان)، الاّ إذا تم تجهيزها ببنية تحتية جيّدة تربطها بالأسواق العالمية، إلى جانب أنابيب النفط المتجهة إلى أوروبا أو عبر البحر المتوسط، حيث ستكون الروابط الخارجية، هي سياسة حمائية لتأمين عدم انقيادها للدول المجاورة، الأمر الذي يحتاج إلى بناء سلمي.
وإذا كانت سايكس بيكو الأولى في مرحلة الكولونيالية، فإن سايكس بيكو الثانية هي التعبير النموذجي عن مرحلة ما بعد الكولونيالية، وبغضّ النظر عن ما هو مضمر، فإن ما هو معلن، ينبغي أن يؤخذ بالحسبان، لكي لا نأتي بعد قرن من الزمان، ونتحدث عن سايكس بيكو ثالثة، لا سمح الله![1]