#عبد الحسين شعبان#
لم تحظ القضية الكردية في سوريا مثلما حظيت به في العراق أو تركيا، وإن كانت المشكلة الكردية في إيران كبيرة بحكم حجم الوجود العددي الكردي، إلا أن طرق التعبير عنها كانت محدودة قياساً بالعراق أو تركيا.
ولعلّ السبب في عدم تبلور المطالب والشعارات الكردية في سوريا يعود إلى ضعف الحركة الكردية السورية من جهة، مقارنة بالحركة الكردية في العراق التي اتخذت شعار الحكم الذاتي لكردستان منذ العام 1961 وربطت ذلك بالديمقراطية للعراق.
كما أن مواقف الحركة اليسارية الماركسية والديمقراطية في العراق كانت أكثر تفهماً ونضجاً وأوسع تأييداً وتعاطفاً مع حقوق الشعب الكردي قياساً بسوريا أو إيران أو تركيا، خصوصاً وقد اتّخذت شعارات واضحة ومحدّدة منذ زمن بعيد، حتى قبل تبلور الحركة القومية الكردية، وهو الموقف الذي سبق للحزب الشيوعي العراقي أن تبنّاه منذ العام 1935 والذي تجسّد في مفهومه لحق تقرير المصير، وكان الكونفرنس الثاني المنعقد في العام 1956 قد اتّخذ شعار الاستقلال الذاتي للأكراد وهي شعارات جريئة ومتقدمة في حينها، ولقي بعضها نقداً معلناً أو مستتراً من أطراف يسارية أخرى.
أما الحركات القومية في العراق مثل حزب البعث العربي الاشتراكي وخصوصاً بعد فشل المشروع الحربي، فقد بدأت في البحث عن حل سلمي للقضية الكردية وذلك بالاعتراف بحقوق الأكراد، بل إن حزب البعث أقدم على توقيع اتفاقية مع الأكراد عُرفت ببيان 11 آذار (مارس) لعام 1970 أقرّت مشروع الحكم الذاتي، وهو موقف متقدّم على جميع الحركات القومية حينذاك، بغضّ النظر عمّا تعرّض له الأكراد لاحقاً من قمع وتهجير ومحاولات تعريب بعض المناطق.
ويوجد في سوريا عدد من الأحزاب الكردية، بعضها قريب من البارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني (العراقي) وبعضها الآخر قريب من جلال الطالباني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني (العراقي)، أما القسم الآخر فيضم جمهوراً واسعاً وعريضاً، وهو قريب من حزب العمال الكردستاني PKK (التركي) وزعيمه عبد الله أوجلان، إضافة إلى حركات وتيارات أخرى بعضها أقرب إلى اليسار.
وإذا كان قسم من هذه الأحزاب والحركات قريبا من السلطة السورية وإن كان لديه ملاحظات حول موقفها من المسألة الكردية فإن القسم الآخر شديد العداء لها، لكن كلا الفريقين لم يبلور مشروعاً كردياً سورياً يمكن اعتباره المشروع القومي الكردي في سوريا على غرار العراق، بغض النظر عن اختلافات أحزابه وحركاته السياسية والفكرية.
وبعد اندلاع الثورة السورية المستمرة منذ مارس/ آذار2011 وحتى الآن بدأت حركات شبابية كردية وتوجّهات جديدة تتبلور في صفوفها ليشارك بعضها في الحراك الشعبي السلمي، وفي بعض التنسيقيات، لاسيما في مناطق القامشلي والمناطق ذات الكثافة الكردية، بما فيها منطقة ركن الدين في دمشق. وإنْ حاول بعضها باتفاق أو دون اتفاق النأي بنفسه من المشاركة المسلحة، واكتفى بالتأييد السلمي لحركة التغيير.
لقد فرضت السلطات السورية المتعاقبة عدداً من الإجراءات الاستعلائية العنصرية ضد الشعب الكردي، وذلك بعد أن تنبّهت لوجود تململ كردي في مناطق شمال سوريا، متأثّراً بثورة أيلول الكردية العراقية التي قادها الزعيم الكردي الملاّ مصطفى البارزاني العام 1961، وبدأت خطّة استحكامية لتطويق المناطق الكردية، وهي ما أُطلق عليه الحزام الأخضر التي قادها الجنرال محمد طلبة هلال في العام 1964، وذلك بهدف عزل المناطق الكردية ونقل بعض السكان العرب إليها على أمل تغيير الواقع الديموغرافي والقومي والتركيب السكاني والمجتمعي.
وعانت شرائح كردية واسعة من مسألة الحرمان من الجنسية السورية، علماً بأن الأغلبية الساحقة منها ولد هو وآباؤه في سوريا وعاش فيها ولم يعرف وطناً سواها، لكنه ظلّ محروماً من حق الحصول على الجنسية، وهو حق يكفله الإعلان العالمي لحق الإنسان في المادة 15 وقواعد القانون الدولي الإنساني والقوانين الدستورية بشكل عام، وقد تفاقمت المشكلة حتى بلغ عدد السوريين الأكراد بدون جنسية أكثر من ثلاثمائة ألف مواطن سوري كردي، الأمر الذي اضطر الرئيس بشار الأسد إلى الاعتراف بحقهم في الجنسية.
وحصل ذلك بُعيد اندلاع انتفاضات الربيع العربي وإثر حوادث درعا الشهيرة التي كانت الشرارة التي أشعلت الثورة السورية، علماً بأن الرئيس السوري كان قرر منح الجنسية للأكراد غير المجنّسين والذين يُعرفون بالمكتومين منذ العام 2006، لكن قراره المذكور ظل في الأدراج ولم ير النور إلا مؤخراً.
وكان يترتّب على حرمان هذا العدد الهائل من المواطنين السوريين الأكراد من الجنسية، ظهور حالات صارخة لللاجنسية، أي فقدان الكثير من أبسط الحقوق الإنسانية وفي مقدمتها حق التمتع بأهلية قانونية كاملة، إضافة إلى الحقوق المدنية والسياسية، لاسيما حق الانتخاب والترشّح، فضلاً عن حق التوظّف في دوائر الدولة والحصول على جواز سفر وغير ذلك. وقد ولّد الحرمان من هذه الحقوق ندوباً نفسية وتاريخية لدى أعداد واسعة من المواطنين السوريين الأكراد الذين وقفوا مع العرب في محنتهم وحروبهم وتصدّوا للعدوان الإسرائيلي، بل دعوا لإقامة علاقات أخوية مع العرب على أساس من الصداقة والشراكة والتكافؤ في أوطان ذات تنوّع وتعددية وثراء قومي وإثني وديني وغير ذلك.
ومثل هذا التوجّه حدث في كل من تركيا وإنْ كان بدرجة أدنى وفي إيران بصورة محدودة، لكن حلم الكردي حتى وإنْ كان يميل إلى بناء كيان مستقل، كان في المواطنة المتساوية المتكافئة والشراكة في الوطن الواحد دون تمييز أو إقصاء أو تهميش.
وإذا كان المرء يعترف بأن الكرد شعب مثل سائر الشعوب له لغته الخاصة وتاريخه وثقافته وتراثه ومناطق سكانه المتصلة، فإن له الحق في تقرير مصيره، وهذا الحق يقوم على ركنين أساسيين فإما الاتحاد الاختياري الطوعي أو الاستقلال بما فيه تكوين كيان خاص، ويعتمد تأمين هذا الحق على مصالح النضال المشترك ودرجة نضج الحركة الوطنية في كل بلد على حدة، إضافة إلى الظروف الدولية والإقليمية.
وللاتحاد أشكال مختلفة، تبدأ من إقرار المواطنة الكاملة وعدم التمييز وتمرّ بالحكم الذاتي وتصل إلى الفدرالية وتتخطاها أحياناً إلى الكونفدرالية في دولة موحدة وبتمثيل دبلوماسي واحد وموّحد وقوات مسلّحة موحدة وخطط اقتصادية وعملة موحّدة أيضاً. أما الاستقلال فيصل إلى إقرار صيغة قد تفضي إلى إقامة كيان مستقل(دولة)، وهو مثل الطلاق أبغض الحلال عند الله كما يقال، لكنه حق للكرد مثلما لسائر الشعوب.
وحتى بعد اندلاع الثورة السورية فقد ظلّت الحركة الكردية السورية تقدّم خطوة وتؤخر أخرى، لأن جميع الأطراف ظلّت تنظر إلى مطالبها بشكل لا يختلف كثيراً عن شعارات الأمس وليس شعار المستقبل، التي تتطلب إعادة النظر بصيغة الدولة من خلال مواطنة كاملة وهوّية سورية موحّدة، وحقوق خاصة للشعب الكردي بشكل حكم ذاتي أو فدرالية أو أية صيغة تتبلور وتتفق عليها الأطراف السورية.
لم تعد ترضي الأكراد السوريين، الصيغ العمومية والحديث عن أواصر الأخوة وما إلى ذلك من دعوات عاطفية أو تبرير عدم الاعتراف بالحقوق وتأجيل بحث المطالب لما بعد التغيير، فالمسألة الكردية حتى وإن كانت فرعية ينبغي أن تكون في صلب مشروع التغيير وليست مسألة هامشية فيه، وإذا كانت المسألة الكردية مطروحة اليوم على بساط البحث كجزء من المسألة الديمقراطية بشكل عام، فإن مثل هذا الحضور لا يمكن إهماله، لترابطه أولاً بالمسألة الجوهرية عضوياً، خصوصاً وأن الماضي سيصبح ماضياً، وثانياً لأن الاستحقاق الكردي يظهر إلى العلن كتعبير عن واقع أليم، وهو ليس منّة أو هبة أو هدية من أحد أو غير ذلك.
إنه جزء من الاعتراف بمجتمع متعدد الثقافات والجماعات القومية والإثنية، والشعب الكردي جزء من الأمة الكردية المجزّأة، مثلما هي الشعوب العربية جزء من الأمة العربية المجزّأة.
وإذا كان الحديث يكثر اليوم عن دور أميركي في المسألة الكردية، وربما أبعد من ذلك، فهناك من يتحدث عن محاولات اختراق صهيوني أيضاً، فالأمر ليس مستبعداً، ذلك أن القوى الإمبريالية والصهيونية تستغل هضم الحقوق والتنكّر للوجود القومي للأكراد، لكي تنفذ إلى الكيانات الموحدة، لتمزيقها وتشظيتها، ليتحوّل الجميع إلى أقليات، حينها تكون إسرائيل هي الأقلية المتميّزة بين الأقليات.
ولكن كيف السبيل لمنع التغلغل الصهيوني إن وجد ولوقف النفوذ والتأثير الأميركي، هل باستمرار هضم الحقوق أم بإقرارها والتفاهم حول صيغة الدولة الجديدة بعد أن فشلت الدولة القديمة التي حكمت ما يزيد عن ستة عقود ونصف من الزمان؟
أظن أن خيار الأكراد سيكون المواطنة المتساوية وعدم التمييز، فضلاً عن التمتع بالحقوق الإنسانية كاملة ودون أي انتقاص، سواءً كانت الدولة بسيطة مركزية، أم مركّبة لا مركزية، بصيغة الحكم الذاتي أو الفدرالي، ولكن ضمن عقد اجتماعي جديد يحدد الحقوق والواجبات.
وقد آن الأوان أن يواجه الجميع هذا الواقع الجديد بروح الشعور بالمسؤولية، وذلك قبل فوات الأوان، فأكراد سوريا بعد الثورة لم يعودوا هم أنفسهم قبل الثورة، وما كانوا يقبلون به أمس، فإنهم سيرفضونه اليوم، بل سيقاومونه غداً، والأمل كبير في أن يكون الحل السلمي الديمقراطي للمسألة السورية ككل هو المتحقق، مثلما هو للمسألة الكردية أيضاً.[1]