حوار مع الأكاديمي والمفكر الدكتور #عبد الحسين شعبان#
أجراه: توفيق التميمي
في النجف لم يكن وجود للأكراد باستثناء من نعرفهم من الكرد الفيلية الذين يزورون حضرة الامام علي في المناسبات المختلفة، لكنه قبيل الثورة أو ما بعدها كان هناك أحد الموظفين الحكوميين وإسمه أبو سيروان، صديقاً لوالدي وكان بعد انتهاء الدوام يأتي عصراً في أغلب الأيام للجلوس في محله في السوق الكبير حيث كانت تُثار الكثير من الأحاديث، وكنت أحاول الاشتراك فيها، أولاً لكي اؤكد أنني على معرفة بالشعب الكردي، وثانياً لأبرز موقفي الذي هو جزءٌ من موقف الحزب الشيوعي، بتأكيد مطلب الاستقلال الذاتي لكردستان، وهو القرار الذي اتّخذه الكونفرنس الحزبي العام 1956، وكان الحزب من أول الدعاة لحق تقرير المصير استناداً إلى أمميته. وما زلت أتذكّر بياناً صدر للحزب، أمّا بمناسبة تأسيسه أو بمناسبة عيد نوروز وطبع بورق ملّون (برتقالي وأخضر) بلغتين، فالوجه الأول باللغة العربية والوجه الثاني باللغة الكردية، وكنت قد اطّلعت عليه على ما أتذكر العام 1957 أو العام 1958.
وعلى الرغم من أن الرجل كان متحفّظاً، لكنني أشعر أنه كثير السرور بهذا التوجّه، وبعد نحو عامين أو أقل قليلاً تم نقله إلى السليمانية على ما أظن وترك الرجل انطباعات إيجابية وإنسانية لدينا، وعندما ودّع والدي كاد أن يبكي، وكان أحد الشخصيات الظريفة التي تجلس في محلّنا وهو خيّاط يُدعى علي كبله يعلّق: أبو عبد الحسين وأبو سيروان... فدّ حزام..هزبجي كرد وعرب، هزبجي كرد وعرب رمز النضال.
وعلق في ذهني بعد ذاك شرطي إسمه كاكه حمه، عندما كنت معتقلاً ومفصولاً من الدراسة بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963، كان يتردد على غرفتنا، وكنت أرسله إلى والدي كل يومين أو ثلاثة أيام، وكان يجلب لي نقوداً وبعض الحاجيات، إلى أن تم منع المواجهات ومنع وصول أي شيء لنا من خارج المعتقل، وكان كاكه حمه حلقة وصل بيني وبين بعض أصدقائي في غرف أخرى.
ولعله هو الذي نقل لنا ما كان يجري خارج معتقل خان الهنود من اضطراب يوم استنفر الأمن والحرس القومي، وهرب كثير من الفلاحين الذي كان قد جلبهم حسين الصافي (محافظ الديوانية سابقاً العام 1963 ووزير العدل في عهد البعث الثاني) حين هوّس الفلاحون مليوصة يحسين الصافي، وألصقت الهوسة باسمه. وأصل القصة يعود إلى ذكرى المولد النبوي الشريف، حيث أقيم احتفال بالمناسبة، وخلال الاحتفال سقط كرسي على كرسي آخر، فأحدث صوتاً مدوّياً، الأمر الذي شهد ضجيجاً وهرجاً ومرجاً، وقيل في رواية أخرى أن إحدى قناني الغاز قد انفجرت، الأمر الذي ساد فيه الهلع، خصوصاً وان السلطة على الرغم من بطشها كانت تشعر بالعزلة والقلق من الآتي، وحصل الاعتقاد بأن هجوماً ما تعرّض له الاحتفال فذُعر الفلاحون وأطلقوا لسيقانهم الريح مرددين هوستهم التي أصبحت على كل لسان.
وبالمناسبة فقد كان الصافي محدثاً لبقاً وشخصية اجتماعية، فكهاً ومنكتاً وقد تميّزت علاقته وصداقته مع الرئيس البكر، وهو من الأصدقاء المقرّبين لأخوالي ناصر ورؤوف وجليل شعبان، إضافة إلى معين شعبان ومهدي الرفيعي ومهدي رجيب وعباس ناجي وآخرين.
لا أدري ما الذي حلّ لكاكه حمه بعد نقلنا إلى مقرات الحرس القومي ثم إلى المعتقل الجديد تحت الأرض، وبقيت أسأل عنه، ولم يخبرنا أحد، ثم قيل : نُقل إلى مكان أفضل، لكننا لا نعلم أين مكانه؟ كان هذا الرسول بيني وبين العائلة قد انقطع وآخر مقابلة لي مع العائلة بعد تعرّضي للتعذيب هو زيارة عمي د. عبد الأمير شعبان بترخيص خاص من مدلول المحنة.
لقد تعزّز موقفي من القضية الكردية نظرياً، انطلاقاً من موقف أممي عام، وشخصياً من خلال علاقات إنسانية، وذلك قبل لقائي وعلاقاتي لاحقاً مع زملاء وأصدقاء ومثقفين أكراد، لاسيما خلال دراستي الجامعية، وكان في مقدمتهم: الدكتور شيرزاد النجار، طيب محمد طيب، صلاح عقراوي، ناوشيروان مصطفى وفرهاد عوني ويوسف مجيد وصلاح زنكنة وبخشان محمد وعبد الخالق زنكنة وشيروان جميل بالطه وعشرات غيرهم، لدرجة لا أستطيع أن أحصي دائرة معارفي وصداقاتي الكردية، ولعل بعضهم إنخرط في سلك الحكومة، فلم تعد تهمّه صداقة مثقفين حردانين كما عبّر أحدهم عن ذلك.
مع الملا مصطفى البرزاني
في العام 1970 تقرر الشروع في حملة تواقيع للضغط على الحكومة العراقية وعلى قيادة الحركة الكردية الممثلة بالملاّ مصطفى البارزاني، للتوصل إلى اتفاق سلمي لحل القضية الكردية، وخلال تلك الفترة جمعنا أكثر من ثلاثة آلاف توقيع، لكن صدور بيان 11 آذار (مارس) جعلنا نعدّل صيغة المذكرة لتنسجم مع التطورات الجديدة وتقدّمها باسم جماهير بغداد إلى الصحف ووكالات الانباء والإذاعة وغيرها، وتشكل الوفد من: لؤي أبو التمن وأحمد الحكيم ومحمد النهر وعبد الحسين شعبان، حيث طفنا على وسائل الاعلام المختلفة لتسليم المذكرة، وبعضهم استقبلنا بمودّة وبعضهم استقبلنا بجفاء، بل رفض حتى تسلّم المذكرة بيده، وطلب وضعها في مكان من الغرفة أو عند الاستعلامات.
في ذات الوقت قررنا إرسال وفد لزيارة الملاّ مصطفى البارزاني، وكنت حينها قد ذهبت إلى إربيل للإشراف على المؤتمر الأول لاتحاد الطلبة العام في كردستان، تساوقاً مع التطورات الجديدة، وضم المؤتمر 37 مندوباً من إربيل ودهوك والسليمانية، إضافة إلى جامعة الموصل وكركوك. وخلال وجودي في أربيل شكّلت وفداً لزيارة الملاّ مصطفى البارزاني في مقرّه بكلاله للتهنئة ببيان 11 آذار (مارس)، وفي الوقت نفسه شاكياً تجاوزات حكومية شملت قوى وتيارات وشخصيات يسارية وقومية وليبرالية، فما كان منه الاّ أن يندد بالارهاب ويعدُ ببذل ما يستطيع لوقفه معبّراً بطريقته الخاصة عن الاخاء العربي- الكردي بإشارته أنه لا يمكن للجزء الكردي أن يتعافى طالما أن الجزء العربي من العراق في وضع غير سليم.
لم يكن البارزاني ليهمل قواعد الدبلوماسية والبروتوكول والحصافة السياسية حين وجّه رسالة تندد بالارهاب بعد أسابيع من بيان 11 آذار (مارس) والتي سرت في وقتها مثل النار في الهشيم كما يقال، لكنه كان شديد الحساسية إزاءه مما دفعه إلى انتقاد الحكومة العراقية علناً محذّراً من مغبة السير في هذا الطريق.
لقد كانت مبادرة البارزاني بتوجيه رسالة تضامن لها وقع كبير على المستوى الداخلي والخارجي، وفي حينها كلف صالح اليوسفي (رئيس تحرير صحيفة التآخي الذي تم تفجيره بواسطة طرد بريدي في بغداد العام 1981) بكتابة الرسالة وبحضور علي عبدالله وعلي السنجاري ود. محمود عثمان و فرانسوا الحريري.
وكانت الرسالة أول بادرة انذار علنية وإشارة سلبية صريحة ضد الممارسات القمعية، إذ أن بيان 11 آذار (مارس) لم يكن بالامكان تطبيقه في ظل تدهور الأوضاع السياسية ودون انفراج حقيقي، وهذا يتطلب القيام باصلاحات ديمقراطية، تلك التي تشكّل صمام الأمان لتلبية مطالب الشعب الكردي. ووعد البارزاني في رسالته بذل ما يستطيع لوقف الانتهاكات والارهاب مختتما اياها الاية القرانية الكريمة لا يكلّف الله نفسا الاّ وسعَها صدق الله العظيم.
ولكي تتم متابعة توجيهاته حاول تنظيم صلة خاصة مع محمد محمود عبد الرحمن (سامي) (وزير الدولة آنذاك) لمتابعة الموضوع عن طريق صحيفة التآخي وأخرى عن طريق الفرع الخامس للحزب في بغداد، وهناك تلقى الأخوة المسؤولون منّي مطالعات ومعلومات عن الحملة التي وجهتها السلطات الحكومية ضد عدد من اليساريين والقوميين، إضافة إلى بعض المنظمات الفلسطينية في حينها.(ونشر التقرير الخاص بالحملة ضد المنظمات الفلسطينية في عدد طريق الشعب السرية حزيران/ أو تموز/العام 1970).
لقد امتدّت الجلسة مع الملاّ مصطفى البارزاني عدّة ساعات وكان معنا ملازم خضر (حالياً الفريق نعمان التميمي) وضمّ الوفد أربعة أشخاص أتذكّر منهم مالك علي. وخلال وجودنا جاء هناك من يهمس في أذنه فاستدار عليّ قائلاً: كاك عزيز شريف وصل، فاستأذنت منه وهممت بالإنصراف، إذْ اعتبرت أن الزيارة قد إنتهت، وشكرته على حسن استقباله، لكنه كرّر عليّ مرتين: أنت تبقى كاكه، قلت له قد يكون الأمر يتعلق بأحاديث خاصة، فأكّد على بقائي، وفهمت منه أن على الوفد أن يغادر، فطلبت من زملائي انتظاري، في الخارج حيث ضيّفهم فرانسوا حريري.
وعندما وصل عزيز شريف (أبو عصام) واستقبلناه من الباب الرئيسية، جلس إلى يسار البارزاني وجلست أنا على يمينه مثلما كنت جالساً قبل ذلك، ومقابل البارزاني الذي كان يجلس في صدر الغرفة جلس ملازم خضر (بالقرب من مدخلها) وانقسم الحضور على يسار شريف أو يميني وطلب مني البارزاني إعادة ما نقلته له عن قصر النهاية والتعذيب والملاحقات، لاسيما بعد بيان 11 آذار (مارس). وأعدت على مسامع عزيز شريف طائفة من المعلومات التي يكون قد سمع أكثر منها بحكم كونه وزيراً للعدل، واستفضت في عرضي، لاسيما للجوانب القانونية والحقوقية، في حين أنني كنت أركّز في الحديث مع البارزاني على الجوانب العاطفية والانسانية والسياسية. وكلّما انتقلت من فقرة إلى أخرى، لاسيما بخصوص وضع المنظمات المهنية، كان شريف يهزّ برأسه، لكنه لم يعلّق على الاطلاق، وانفضّ اللقاء في ساعة متأخرة من الليل، عاد بعدها شريف إلى بغداد، كما أعتقد وعدت أنا مع الملازم خضر إلى بيرسيرين حيث القاعدة الانصارية للشيوعيين في ذلك الوقت.
كان يفترض أن أبقى هناك لبضعة أيام أو أسابيع، لأغادر بعدها إلى أوروبا حسبما تقرر للحفاظ على كادر احتياطي كما قيل في حينها، لكنه بعد أيام قليلة وصلت رسالة من المكتب السياسي تطلب عودتي إلى بغداد، مع تأكيدها على علنية تحرّكي بوجود وعود بانفراجات وإطلاق سراح بعض المعتقلين، ولكن بعد يومين فقط من عودتي إلى بغداد أي في 13 أيار (مايو) 1970 تم اعتقال لؤي أبو التمن، واضطررت أنا إلى الاختفاء، ولم يكن ممكناً عودتي إلى كردستان، على الرغم من وجود هوية بصفة معلم، كنت قد استخدمتها خلال تلك الفترة.
يمكنني القول بعد أربعة عقود من الزمان أن البارزاني كان عراقي الهوية، كردي الانتماء، وكان لديه القدرة على إلتقاط الجوهري من الأشياء رغم الرياح العاتية وعوامل الجذب الكثيرة والاستقطابات الدولية والاقليمية والضغوط الكثيرة التي تعرّض لها، مثلما يمتلك مؤهلات قيادية متميّزة: الشجاعة والقدرة على حسم الأمور واتخاذ القرار، والمبادرة، والمرونة، والواقعية.. وقبل كل شيء وضع قضية الشعب الكردي العادلة نصب عينيه.
لعلي كلّما كنت أتفرّس في ملامح الرجل، كانت تقفز إلى ذهني قصيدة الجواهري الكبير التي نظمها العام 1964 وألقاها في مؤتمر جمعية الطلبة الأكراد في ميونيخ
قلبي لكردستان يُهدى والفمُ ولقد يجود بأصغريه المعدمُ
إلى أن يقول فيها:
سلّم على الجبل الأشم وأهله ولأنت تعرف من بنيه من همُ
باسم الأمين المصطفى من أمةٍ بحياته عند التخاصم تقسم
صلب الملامح تتقي نظراته شهب النسور ويدريها الضغيم
* * *
لقد شارك البارزاني في الإعداد والتنفيذ والقيادة لحركات بارزان في الثلاثينات، ومن ثم في العام 1943-1945 خلال الحرب العالمية الثانية، وتمرّس في القيادة العسكرية وأسهم في الدفاع عن جمهورية مهاباد الكردية الإيرانية مع القاضي محمد الذي أعدم العام 1947، واضطر البارزاني إلى مغادرة كردستان واللجوء إلى الاتحاد السوفييتي السابق وعدد من أنصاره وعاش في المنفى نحو 12 عاماً حتى حصلت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958.
وتمكّن من العودة إلى العراق في 6 تشرين الأول (اكتوبر) 1958 وكان علي السيد سليمان أبو هاشم قد ذهب إلى النمسا لاستخراج جوازات سفر لهم من السفارة العراقية بتكليف من الحزب الشيوعي، ومن فيينا توجّه إلى موسكو لتسليمهم جوازات السفر كما روى لي، وقبل عودته إلتقى مصطفى البارزاني الزعيم المصري جمال عبد الناصر في القاهرة، وفي ذلك إلتفاتة ذكية لتأكيد التآخي العربي- الكردي، كما اختار ميناء البصرة العربية محطة أولى لوصوله ومنها إلى بغداد التي استقبلته استقبالاً حافلاً.
ومن المفارقة الاشارة إلى أن البارزاني كان قد حكم عليه غيابيا بالاعدام في كل من العراق وإيران، وقد سبق للحكومتين أن خصصتا مبلغ 50 ألف دينار كمكافأة لمن يلقي القبض عليه أو يقدّم معلومات عنه (1943). وكانت الحكومة التركية في وقت سابق قد اعتقلت الشيخ أحمد البارزاني وقامت بتسليمه إلى الحكومة العراقية عام 1933، وذلك يعكس البعد القومي لتحركه من جهة ودور الجغرافية السياسية في تعطيل مطالب وحقوق الشعب الكردي من جهة أخرى، والتعاون والتنسيق الحكومي والأمني بين الحكومات الثلاث، الذي ظل يشكل على مدى يزيد عن ثمانية عقود من الزمن العلامة البارزة في سياسات الدول الثلاث إزاء القضية الكردية.
توفي البارزاني في 1 آذار (مارس) 1979 في الولايات المتحدة، ودفن في بلدة شنو (قرب الحدود) واستقبلت رفاته شعبياً في 16 تشرين الأول (اكتوبر) 1993، وأصبح بالإمكان زيارة قبر البارزاني في منطقة بارزان، وقد شاهد كاتب السطور يوم 1 آذار (مارس) 2000 خلال زيارته لكردستان تدفّق جموع غفيرة من المواطنين وعلى نحو عفوي منذ الصباح الباكر متوجهين إلى منطقة بارزان من جميع أنحاء كردستان. ولعل تجربة البارزاني المريرة ينبغي أن تبقى شاخصة في الأذهان والوجدان، لاسيما غدر القوى الخارجية التي تم التعويل عليها، وأعتقد أن ذلك الدرس يجب أن يستلهم في أية علاقة مع القوى الدولية والإقليمية، الرهان عليها سيكون على حساب قوى اليسار والديمقراطية والقوى العراقية المؤيدة لحقوق الشعب الكردي بشكل عام.
وعلى الرغم من التطور الذي حصل بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، بإقرار شراكة العرب والاكراد في الوطن العراقي (المادة الثالثة) الذي يعتبر أول نص دستوري يعترف بحقوق الشعب الكردي فإن توتّر الأوضاع ومطالبة الشعب الكردي باستكمال وتطوير حقوقه واستدارة البلاد نحو الحكم الفردي، أدّى إلى تفجير الأوضاع وقصف مناطق بارزان عام 1961 حيث اندلعت ثورة أيلول (سبتمبر) 1961 التي قادها البارزاني.
وكانت اتفاقية (بيان) 29 حزيران (يونيو) 1966 بين حكومة الدكتور عبد الرحمن البزاز وقيادة البارزاني بمثابة هدنة طويلة، كما أن السلام الذي انبثق على أساسها ظلّ مصحوباً بالحذر وأجواء عدم الثقة والترقب ولم يكن يفضي إلى الحل المنشود والطموح الذي يبتغيه الشعب الكردي.
11 آذار
أما اتفاقية (بيان) 11 آذار (مارس) العام 1970 فقد كانت أهم وأشمل المحطات التي اعترفت بحقوق الشعب الكردي. ولعل حتى ذلك الحين أفضل وأعمق نص سياسي وقانوني يحصل عليه الشعب الكردي في تاريخه المعاصر منذ تأسيس الحكم الأهلي في العراق العام 1921 وحتى تاريخه. كما أن بيان 11 آذار (مارس) في حينه كان النص المتميز بالنسبة لدول المنطقة التي تعاني من مشكلة كردية وبخاصة تركيا وإيران.
لقد وضع بيان 11 آذار (مارس) الأساس الصحيح لحل سياسي سلمي معقول للقضية الكردية، كان يمكن تطويره وتعميقه على أساس التفاهم والتوافق والمصلحة المشتركة بعيداً عن الحلول العسكرية والعنفية التي لم تحصد سوى الهزيمة والخيبة والفشل باستمرار. وعلى أساسه تمت صياغة قانون الحكم الذاتي لعام 1974. وهو القانون الذي يعدّ تطوراً مهما في نظرة إحدى حكومات المنطقة إلى القضية الكردية، على الرغم من النواقص والثغرات والمثالب التي احتواها، فضلاً عن الممارسات الحكومية التي أعقبته، لدرجة قادت إلى تسويفه وسلب صلاحياته من الناحية الفعلية.
وتكمن دلالة بيان 11 آذار (مارس) قانونياً وسياسياً في تشريع دستور جديد (مؤقت) للبلاد في 16 تموز (يوليو) العام 1970 (استمرّ نافذاً حتى احتلال العراق في 9 نيسان /ابريل/ 2003) حيث تضمّن صياغة دستورية مهمة للغاية وجديرة بالتأمّل على الرغم من أن العبرة ليست بالنصوص، وإنما بالممارسة، وهو ما تم أخذه بنظر الاعتبار في ضوء النصوص الجديدة والنافذة لقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية العام 2004، أو الدستور الدائم في العام 2005، فقد كان للتجربة السابقة دور كبير في وضع الأسس للتخلّي عن الأساليب العنفية والعسكرية لحل القضية الكردية وهي إحدى دروس الحاضر والمستقبل، ولكن ذلك لا يمنع من رؤية التناقضات الكثيرة التي احتواها الدستور النافذ حالياً.
وجاء في النص الدستوري الخاص بالشعب الكردي (دستور عام 1970): أن الشعب العراقي يتألف من قوميتين رئيستين هما القومية العربية والقومية الكردية. كما أقرّ حقوق الشعب الكردي والحقوق المشروعة للاقليات كافة ضمن الوحدة العراقية، كما ورد في المادة الخامسة.
ويلاحظ الباحث والمحلل ان نص المادة المذكور تضمن عبارتين لهما دلالة بالغة وردتا لأول مرة في التشريع العراقي حين نص على القومية الكردية و الشعب الكردي. وذهبت المادة السابعة (الفقرة ب) إلى التأكيد على أن تكون اللغة الكردية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية في المنطقة الكردية، وذلك وفقاً لما ورد في بيان 11 آذار (مارس) الذي اعتبر اللغة الكردية لغة التعليم في هذه المناطق وقرر مراعاة مبدأ الكفاءة ونسبة السكان في تولّي المناصب المهمة والحساسة كالوزارات والجيش وأن يكون أحد نواب رئيس الجمهورية من الأكراد.
ولكن مع الأسف الشديد سارت الأمور باتجاه آخر، حيث اندلع القتال الذي أبعد كل امكانية للتفاهم والحل السلمي وذلك بسبب نهج الغرور والتفرد والاستئثار من جهة وبعض التداخلات الخارجية من جهة أخرى. وبعد اتفاقية الجزائر العام 1975 استخدمت الحكومة عنفاً مضاعفاً ومنظّماً، فقامت بعلميات عقاب جماعي وتهجير قسري في محاولة لتغيير الواقع السكاني والتركيب القومي.
الدرس الآخر الذي يمكن استلهامه بعد اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975، هو أن أي حلّ مهما كان إيجابياً ويستجيب إلى حدود معينة لمطالب وحقوق الشعب الكردي، سيبقى ناقصاً وقلقاً ومعرضاً للاقصاء في ظل غياب المؤسسات الدستورية والديمقراطية، وذلك لإمكانية العدول عنه وتسويفه وأجهاضه، خصوصاً دون رقابة ومساءلة.كما أن أي تعويل على العنصر الخارجي مهما بدى إيجابياً فإنه يمكن النكوص عنه، تبعاً للمصالح الدولية والاقليمية، الأمر الذي قد يلحق ضرراً بليغاً بالحركة الكردية ومستقبلها وهو ما كان البارزاني يشعر به بمرارة، لاسيما بعد تخلّي كيسنجر وشاه إيران عن وعودهما بدعم الحركة الكردية.
كما أن أي حلّ لكي يكون حلاً راسخاً وثابتاً ولا عودة عنه وليس حلاً مؤقتا أو قلقا أو فوقياً، لا بد أن يحظى بدعم الارادة الشعبية وفي فضاء رحب تستطيع فيه أن تعبّر عن نفسها، ولن يتحقق ذلك الاّ في إطار أوضاع سلمية وطبيعية وعبر برلمان منتخب على أساس حر ونزيه وبعيداً عن المحاصصات، وعند ذلك يمكن أخذ مطالب الشعب الكردي بنظر الاعتبار وفي مقدمتها حق تقرير المصير. وإذا كان برلمان كردستان قد إختار الفيدرالية في تشرين الأول (اكتوبر) 1992، فإن الأمر اتخذ بُعداً قانونياً بعد إبرام الدستور الدائم، على الرغم من الألغام الكثيرة التي احتواها.
لقد عشت في كردستان، في العام 1982-1983 في إطار قوات الأنصار وكنت المستشار السياسي للإعلام المركزي ومسؤولاً عن منظمة الحزب وعضواً في المكتب الآيديولوجي وعضواً في مكتب لجنة العمل الديمقراطي المركزي ومُشرفاً على قطاعات الشباب، لاسيما في محاولة لإعادة تأسيس اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي. وكان ضمن الاعلام المركزي إصدار جريدة طريق الشعب التي يرأس تحريرها عبد الرزاق الصافي، وإذاعة صوت الشعب التي يديرها مهدي عبد الكريم، وقد عشنا في غرفة واحدة لمدة نحو عام تقريباً وفي ظروف حياتية بائسة، لكنها كانت مفعمة بالحيوية والحميمية، على الرغم من رداءة الطقس في ذلك العام حيث بلغت درجة الحرارة نحو 20 تحت الصفر، وفي أوضاع مناخية قاسية وبدائية، الاّ أننا كنّا نبّث يومياً، وكانت الجريدة تصدر بانتظام، وكانت نشرة مناضل الحزب التي يصدرها مكتب العمل الآيديولوجي المركزي قد عادت إلى الصدور، كما أصدرنا عدداً من الكرّاسات حينها.[1]