#عبد الحسين شعبان#
كلما احتدمت مشكلة كركوك سياسياً أو ازداد التوتر فيها أمنياً، لاسيما حوادث الانفجار والاغتيال والخطف المتكررة، استذكرت مشكلة جنوب السودان التي تابعت تفاصيلها خصوصاً في السنوات الأخيرة.
وكنت قد سألت الرئيس البشير عام 2000: ما السبيل الذي تفكر الحكومة المركزية بانتهاجه بعد فشل الخيار العسكري؟ فأجاب: إذا لم يوافق الجنوبيون على الفدرالية والعيش المشترك، فليس أمامنا سوى الانفصال.
وأعدت عليه السؤال بأسلوب آخر قائلاً: هل لديكم خطة حول حق تقرير المصير، أو هل هناك مشروع جنوبي مطروح لدراسته بهذا الشأن؟ فأجابني حينها: نحن مستعدون لكل الخيارات. وكنت أظن أن ما قاله في حوار متلفز أجري معه بمشاركة خمسة مثقفين عرب وعلى مدى ثلاث ساعات بثته ولعدة مرات كل من قناة المستقلة اللندنية والقناة السودانية، كان من باب الذهاب إلى أبعد نقطة لاستباق أي أسئلة أخرى حول هذا الموضوع.
وحين تقرر إجراء استفتاء شعبي لسكان الجنوب يوم 9 يناير/كانون الثاني 2011 وكانت نتائجه قد زادت على 98% لصالح الاستقلال (الانفصال) وتشكيل كيان جديد، حددت مهلته إلى 9 يوليو/تموز 2011 وهو ما حصل بالفعل, انتظرت رد فعل الرئيس البشير الذي تعامل بواقعية اضطرارية (مكره أخاك لا بطل) إزاء حدث خطير بل من أخطر ما مرّ على السودان منذ استقلاله عام 1956، وما إن حلّ الموعد حتى أقيمت على أرض السودان جمهوريتان بدلاً من واحدة، وانضمت إلى الأمم المتحدة جمهورية جديدة باسم جمهورية جنوب السودان.
وكنت قد أشرت إلى مشكلة جنوب السودان في بحثي حول تقرير المصير المقدم إلى مؤتمر الجزائر الذي عُقد بمناسبة الذكرى الخمسين لصدور قرار الأمم المتحدة الخاص بتصفية الكولونيالية رقم 1514 يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1960، وألمحت في نهايته من خلال بعض الإشارات عن الوضع في كردستان العراق.
وبعدها بنحو شهر ونصف ألقيت محاضرة في رابطة كاوا بأربيل في فبراير/شباط 2011 حول فكرة حق تقرير المصير، وتطرقت فيها إلى القرار 1514 وتداخلات المسألة الكردية إقليمياً.
وكما كانت مشكلة وجود الأصابع الأجنبية والأجندات الخارجية تثار في جنوب السودان، فإن المشكلة مطروحة بالنسبة للقضية الكردية أيضاً. وعلى الرغم من أن هذا الأمر ينطوي على شيء من الصحة، فإنه ليس صحيحاً بالكامل، فقضية الجنوب أو الكرد لم تعد مسألة داخلية ولا حتى إقليمية، لا سيما أن عامل التدويل أخذ له حيزاً قوياً فيها، خصوصاً في العقدين الأخيرين ونيف في ظل اختلال موازين القوى الدولية، وانحلال الكتلة الاشتراكية، وتصاعد دور الولايات المتحدة كلاعب أساسي في العلاقات الدولية.
أضف إلى ذلك أن القضية الكردية كمسألة قومية لها خصوصية، لا سيما ارتباطها بثلاث بلدان إقليمية هي إيران وتركيا وسوريا، التي واظبت على الاجتماع خلال تسعينيات القرن الماضي لاتخاذ مواقف موحدة إزاء تطورات القضية الكردية في العراق، خصوصاً بعد حرب قوات التحالف ضد العراق عام 1991 إثر غزو قواته للكويت.
من جهة أخرى، يتناسى الكثيرون بقاء قضية جنوب السودان دون حل منذ العام 1956 وفشل جميع الحكومات المتعاقبة في إيجاد حلول مقبولة لها، لا سيما وقد لجأت إلى الخيار العسكري، على الرغم من أن اتفاقية نيفاشا للعام 2005 كانت خطوة مهمة اعترفت من خلالها الأطراف المتنازعة -خاصة الحكومة المركزية والحركة الجنوبية- بفشل الحلول العنفية، وضرورة السعي للتوصل إلى حل سلمي يرضي الطرفين اللذين شهدا سنوات من الصراع المسلح والتداخل الخارجي الإقليمي والدولي، ناهيكم عن تدهور الوضع الإنساني، خصوصاً في ظروف ضعف أو انعدام الثقة، ولهذا فقد مال الميزان إلى رجحان كفة الانفصال الاستقلال.
ولعل الأمر ذاته ينطبق على موضوع القضية الكردية في العراق، فكلما احتدمت الأزمة ازداد رصيد الخيار الانفصالي الاستقلالي، وإذا لم تتمكن الأطراف المتنازعة اليوم من إيجاد حلول عملية ممكنة لمشكلة كركوك، فإن هذا الخيار سيكون مطروحاً على نحو أشد.
لقد جربت الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 الحلول العسكرية، لكنها لم تستطع القضاء على الحركة الكردية أو منع الشعب الكردي من المطالبة بحقوقه العادلة والمشروعة، بما فيها حق تقرير المصير. كما لم تتمكن الثورة الكردية في الوقت نفسه من تحقيق أهدافها باللجوء إلى الخيارات المسلحة، حتى وإن كانت اضطراراً.
وكان الطرفان الحكومي والكردي غالباً ما يقيمان بينهما هدنة أو يضعان حلاً مؤقتاً أو شبه دائم، كما في اتفاقية (بيان) 11 مارس/آذار 1970 حيث تم الاعتراف بالحكم الذاتي للأكراد، وكان ذلك من أهم وأكثر الحلول الإيجابية بالنسبة للقضية الكردية حتى ذلك التاريخ.
لكن تلك الهدنات أو الحلول كثيراً ما كانت تنهار بسبب ضعف الثقة وانعدامها، فضلاً عن تأثير تداخلات الأجندات الخارجية والأصابع الدولية والإقليمية.
لعل التفكير والتبصر بما آل إليه وضع جنوب السودان، فضلاً عن اشتباك العامل الإقليمي والدولي بالعامل الداخلي، يحتاج إلى البحث عن سبل وحلول معقولة ومقبولة من الأطراف المختلفة بما في ذلك مساعدة الأمم المتحدة، لا بشأن كركوك فحسب، بل بشأن العلاقة بين الدولة الاتحادية والفدرالية الكردية، وبين الأولى وفدراليات أخرى مقترحة، ممكنة أو واقعية، وذلك كما ورد في الدستور الدائم رغم التحفظ حول الكثير من الألغام التي احتواها، لكن ذلك لا بد من أخذه بنظر الاعتبار، دون أن يعني ذلك الانخراط في فدراليات طائفية لأنها ستزيد الطين بلة.
ولكن فكرة فدراليات إدارية وجغرافية على أساس الأقاليم يتضمنها الدستور، بما يوزع الصلاحيات بين المركز والأطراف وبين الدولة الاتحادية والأقاليم الفدرالية، مع الاحتفاظ بأسس الوحدة العراقية وكيانية الدولة العراقية الموحدة، ذات الجيش الواحد والعملة الواحدة، والخطط الاقتصادية الكبرى الموحدة، وكذا العلاقات الدولية والتمثيل الدبلوماسي، في إطار سيادة وحدود وسلطة موحدة، ومراعاة شؤون الأقاليم واستقلالها في الإدارة والبلديات والتعليم والصحة والثقافة والبيئة والسياحة والرياضة والتجارة وجميع الشؤون ذات الطابع الخدمي والمحلي، مع التمثيل السياسي لحكومات وبرلمانات الأقاليم في إطار الدولة الاتحادية.
وإذا ما تحقق الأمر فلن تكون كركوك أو غيرها مما يطلق عليه اليوم المناطق المتنازع عليها خارج حدود العراق أو خارج سيادة الدولة العراقية الموحدة، وبالطبع لن تكون خارج إرادة شعب كركوك وخياراته الحرة بتمثيلاته القومية والدينية والسياسية المتنوعة، في أن ينضم إلى إقليم كردستان أو يشكّل إقليماً مستقلاً أو ينضم إلى القسم العربي من العراق إذا ما أصبح إقليماً أو إلى محافظة أو أكثر من المحافظات العربية المجاورة التي قد يرغب في الاتحاد معها، ولكن أولاً وقبل كل شيء تحقيق احترام حقوق الإنسان لشعب كركوك ومكوناته المختلفة وقناعاته وخياراته المستقلة دون إكراه.
ولعل ذلك يتطلب أيضاً تعويض المهجرين وإعادة من يريد العودة إلى مناطق سكناه من الذين قدموا إلى كركوك أو من رُحّلوا عنها، بكل حرية. وأعتقد أن جوهر المادة 58 من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، التي تم ترحيلها إلى المادة 140 والتي كان من المقرر تنفيذها خلال الفترة الماضية، تصب في هذا الاتجاه.
يتراءى لي أنه كلما استمر وضع كركوك والمناطق التي لم تحسم موقعها إدارياً وبقيت على حالها، كلما تفاقم الأمر وازدادت معاناة السكان، وقد يصبح العيش المشترك صعباً أو مستحيلاً، وعندها سيتم اللجوء مجدداً إلى خيارات غير سلمية رغم تأكيد الجميع تجنبها، لكن ضغط الواقع قد يقود إليها، وإذا ما حصل ذلك فإن ضرراً بليغاً سيلحق العلاقات العربية الكردية، والعلاقات الكردية التركمانية، ولعله مع تصاعد وتيرة التوتر وطول فترة الانتظار والتربص، يدخل الإرهابيون على الخط ليزيدوا من خلط الأوراق ودفع العناصر المتطرفة لدى جميع الفرقاء لكي تبرر عدم الثقة والقطيعة وممارسة أعمال العنف.
ما يحصل في كركوك أو إزاء الكرد أو التركمان جزء من مشكلة التنوع الثقافي وأكثر منه التعددية الثقافية، ولا أقول بمصطلح الأقليات لأنه حسب تقديري يحتوي ضمنياً على نوع من الاستصغار وعدم المساواة رغم إعلان الأمم المتحدة عام 1992 حقوق الأقليات، وكذلك صدور إعلان حقوق الشعوب الأصلية عن الجمعية العامة عام 2007، بالإضافة إلى حقوق الأقليات المهاجرة.
أقول ذلك بعد متابعتي للتعددية الثقافية من منظور غربي ومقارنته مع المنظور السائد في المنطقة، إذ لم ألحظ في الغرب أي اتجاه حالي يثير الارتياب في أقلياته كما كان في الماضي، وكما هو عندنا اليوم، مصدراً للحروب والنزاعات والشك أو عدم الأمان الجيوسياسي، حيث الخوف من الجيران الأعداء وامتداداتهم (الأقليات) للاعتقاد السائد بتواطئها أو احتمال أن تصبح طابوراً خامساً.
اطلعت مؤخراً على كتاب مهم صدر عام 2009 لمؤلفه ويل كيميليكا وترجمه إمام عبد الفتاح إمام، وهو بعنوان أوديسا التعددية الثقافية، يذكر فيه أن مشكلة الأقليات في الغرب هي من تراث الماضي، لأن الأنظمة الديمقراطية في الغرب لا أعداء لها من الجيران، وأشدد هنا على قوله من الجيران، ويضيف ومن الصعب أن نفكر في نظام غربي واحد تخشى فيه الدولة من الأقلية القومية أو جماعة السكان الأصليين في أن تتعاون أو تتواطأ مع عدو مجاور أو معتد محتمل، فهذا حسب رأيه لا وجود له.
ولعل هذا الاستنتاج المثير يحتاج إلى التأمل والتفكير عند بحث العلاقات الدولية في منطقتنا المملوءة بالصراعات والاحتدامات، والنفط مصدر أساسي لها، ناهيكم عن وجود إسرائيل كبؤرة توتر وعدوان دائم، فهل ستكون الأقليات في ظل سياسات التنكر للحقوق وعدم الاعتراف بها بعيدة عن تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة؟
إذا كان وجود حلف الناتو عامل استقرار لتنظيم العلاقة بين أعضائه ومنع التغوّل من دولة على أخرى أو احتلال جزء من أراضيها أو الاستعانة بالأقليات، فإن مثل هذا الوضع غير متوفر في منطقتنا ولا يمكن مقارنتها بأي شكل من الأشكال بالغرب الذي أعاد التعددية الثقافية إلى جذرها الداخلي وقطع إلى حدود كبيرة خيط التدخل الخارجي.
وحتى يتحقق نظام جديد لعلاقات دول وشعوب المنطقة، فعلينا التفكير بواقعية والتساؤل: هل سيبقى جنوب السودان المستقل حليفاً للسودان وللعرب، أم أن خيطاً إسرائيلياً بدأ يُحاك في إطار علاقاته الجديدة؟ لكن مثل هذا قد يضره ويضر العرب بالتأكيد. وهل سنرى الكرد حلفاء للعرب ومدافعين عن دولهم في العراق وإيران وتركيا وسوريا، لا سيما إذا تمكنوا من الحصول على حقهم في تقرير المصير -بالاتحاد أو الاستقلال- في إطار مواطنة حرة ومتساوية -غير ناقصة أو مبتورة أو من الدرجة الثانية-، وطبقاً لخيار ديمقراطي؟
وإذا رغب العرب والكرد والتركمان وغيرهم من المكونات القومية والدينية والسياسية والفكرية في العيش المشترك، فلا بد من البحث عن معالجة هادئة لمشكلة كركوك قبل أن تتفاقم وتنفجر!![1]